شرارةُ الإيمان: الجزائر وقصة إسلام مراد هوفمان (مقالة بمناسبة تخرج دفعة مراد هوفمان في معهد المناهج):

تعود بنا الذكرى إلى عام 1951م وبالذات إلى المسيسيببي، حيث كان الطالب الألماني البافاري "ويلفرد هوفمان" يزاول دراسته في جامعة "هارفارد"، وكان يومها مُدمِنا على الكحولِ، فتسبَّب ذلك في تعرُّضه إلى حادثِ مرورٍ نجا منه بأعجوبة، ويومها قال له الطبيب الجرَّاح، بعد إجراء عملية جراحية في ذقنه وفخذه: "في ظل الظروف العادية، لا أحد ينجو من حادث من هذا القبيل؛ ولكنَّ الله يخبِّئ لك شيئا مميَّزا في المستقبل، يا صديقي".
وكان يترقَّب هذا الأمر المميَّز بشغفٍ، ولا يعرفُ طبيعته، ولا متى سيلقاه، ولا أين؛ وبما أنه كان كاثوليكيًّا، فإنه آمن بإمكان مجيئه على قدَرٍ.
ثم في عام 1961م عيِّن ملحقًا في السفارة الألمانية بالجزائر، التي كانت يومها مستعمَرة فرنسية، ولقد كان شاهِدَ عيانٍ على الحرب التحريرية، وبخاصَّة مجازر "الجيش الفرنسي"، ثم "المنظمة السرية" و"الأقدام السود"، التي كانت تقتل كلَّ يوم جزائريين عزَّلا، شبَابا وشيَّابا، رجالاً ونساءً وأطفالاً؛ لا لشيء، إلاَّ لمجرَّد أنهم "مسلمون" وأنهم "جزائريون"؛ وقد كان منظرُ الجثت التي تسَّاقط أمامَ ناظره، وهو يراها من شُرفة بيته ليلاً، كان لها الأثرُ الكبيرُ عليه؛ ولقد صرَّح أنه تألَّم لذلك، وتعجَّب من رباطة جأش أصحابها؛ فقال في "مذكراته":
"لقد شهدتُ صبرَ الشعب الجزائريِّ وصمودَه في مواجهة المعاناة الشديدةِ، وانضباطَهم العظيم خلال شهر رمضان، وثقتهم في النصر؛ فضلا عن إنسانيتهم، بالرغم من بؤسهم" وبالرغم مما ينالهم من ظلمٍ، جراء الاستعمار وأذنابه.
ولم يتوقف الدبلوماسي "هوفمان" من التفكير في سرِّ هذا الصبر الذي يجمّل الجزائريين، وهم يعانون من ويلات الاستعمار الفرنسيِّ، فعبَّر عن ذلك بقوله:
"وطوال هذه الفترة التي ظللتُ فيها مسلَّحا دائما بمسدَّسي الوالتر ب.ك. من عيار 7.65 ملليمتر الجاهز للإطلاق؛ بحثتُ عن ذلك السرّ الذي مكَّن هؤلاء الجزائريين الملتزمين من احتمال كلِّ هذا الاحتقار، وسوءِ المعاملة والعقاب. وأخيرا وجدتُ مفتاح هذا وأنا أعودُ لقراءة الآية 153 من سورة البقرة، التي تقول: "يا أيها الذين آمنوا، استعينوا بالصبر والصلاة، إنَّ الله مع الصابرين".
ومما آلمه أشدَّ الألم في تلك الحقبةِ، أنه كلِّف بحمل صناديق "الويسكي" للعمَّال الألمان في المناطق البترولية جنوب الجزائر، وهو يومَها موظَّفٌ في السفارة الألمانية بالعاصمة، فانتقل بالطائرة إلى الصحراء، وحين وصلَها، راعَه وحيَّره الفرقُ الشاسع في الحالة النفسية، بين "الجنود المسلمين الجزائريين" و"الموظَّفين الألمان"؛ وكتب عن تلك الحادثة، وكانت الأسئلة الوجودية الكونية تدفعه دفعًا للبحث عن الحقيقة:
"لم أملك إلاَّ التفكيرَ في المصير المؤسف للجنود الجزائريين في القوات الفرنسية، الذين كانوا يحرُسون هذا المعسكَر، وقد وقفوا هادئين متمالكين لرُشدهم، ومستغرقين في تأمُّلاتهم. كانت ثقتهم تنبعُ من إيمانهم، ومن إيمانهم فقط بالإسلام. أمَّا العمَّال الألمان فقد كانوا بحاجة إلى الكحول لرفع معنوياتهم. وهكذا كانت الكحول من أجل ألمانيا".
وكأنَّ منطق العبارة يلزمنا أن نضيف: "ثم هكذا كان الإسلام والإيمان من أجلِ الجزائر".
بعد عقدين من مرور هذه الحوادث، التي أثرت في العالم الألماني، وبعد أن تقلَّب في مناصب سياسية عالمية، ومَنح الوقت الكافي لقراءة الكتب والمصادر الإسلامية، وفي تتبع آثار الفنّ الإسلامي؛ وبالذات في عام 1980م، كتب "هوفمان" تحت عنوان: "لم أملك إلاَّ أن أكون مسلمًا" فقال:
"وهكذا أدركتُ، وقد هزَّتني الحقيقةُ، أنني قد أصبحتُ في خطوةٍ وراء الأخرى، بالرغم مني، ودون أن أكون واعيًا بذلك، مسلمًا بمشاعري وفكري. ولم تبق سوى خطوةٌ واحدةٌ أخيرةٌ، وهي أن أعلِن إسلامي رسميًّا".
وفي الخامس والعشرين من سبتمبر 1980م، بمدينة كولونيا، أعلن "ويلفرد هوفمان" إسلامه ثم سجَّل هذه الكلمات التاريخية المؤثّرة في يومياته:
"نطقتُ بالشهادتين في المركز الإسلامي الألماني بكولونيا:
"لا إله إلا الله، محمد رسول الله، واخترتُ لنفسي من بين الأسماء الإسلامية اسم "مراد فريد"؛ وأصبحتُ منذ اليوم مسلمًا، وهكذا بلغتُ مُرادي".
ثم هكذا بقي وفيًّا لإسلامه وللحقيقة التي هداه الله إليها، إلى أن لقي ربَّه، راضيًا مرضيًّا.
صرَّح مراد "هوفمان" في مراسلة خاصَّة للدكتور طه كوزي، مؤرَّخة بـ 2014م؛ والتي نشرناها في كتابنا المشترك "من الكمون إلى الفعل الحضاري"، أنَّ الفضل للجزائر في إسلامه، فقال: "إن كان للجزائر من فضلٍ، فهي السببُ الرئيس في اعتناقي الإسلام".
وفي كتاب "الرحلة إلى مكة" يورد "هوفمان" قصَّته مع "سائق طاكسي" (سيارة أجرة)، وهو الذي كان السببَ الفعليَّ المباشرَ لإسلامه، فيقول:
"بدأت امرأتي تنزف بعد منتصف الليل، ولم يكن باستطاعة سيارة الإسعاف أن تحضُر إلينا قبل الساعة السادسة صباحا"... ثم أخذنا سيارة أجرةٍ، في الصباح الباكر، وكان السائق شابًا جزائريا، وفي الطرق "كانت زوجتي تعتقد أنها ستفقد وعيها، ولذلك، وتحسُّبا للطوارئ، راحت تخبرني أنَّ فصيلة دمها هي (O) ذات (RH) سالبٍ. وكان السائق الجزائريُّ يسمع حديثَها، فعرض أن يتبرَّع لها ببعضٍ من دمه الذي هو من فصيلة دمها نفسِه".
ثم علَّق "هوفمان" متعجبا، حائرًا من هذا التصرُّف الإنساني الذي لا تفسِّره المصلحةُ، ولا المنظومات الفلسفية الشرقية ولا الغربية؛ فقال:
"ها هو ذا العربي المسلم يتبرَّع بدمه، في أتون الحربِ، ليُنقذ أجنبيةً على غير دينه".
ثم، واصل الحديث، فقال: "لكي أعرف كيفَ يفكّر ويتصرَّف هؤلاء السكَّان الأصليون المثيرون للدهشة، بدأتُ أقرأ كتابهم "القرآن" في ترجمته الفرنسية... ولم أتوقَّف عن قراءته منذ ذلك الحين، حتى الآن".
ولعلَّ عبارةً وردت في سياقٍ مختلفٍ لها أكبر الدلالة على علاقة الرجل بالجزائر، ومكانتها في قلبه، وفيها يقول: "لم تشأ هذه الجزائر، التي أدينُ لها بالكثير، أن تتركني وشأني، وإنما تبعتني كالقدَر".
ثم اعترف وهو يخطُّ مذكراته بعد التسعينيات بأنه "يندر أن تفارق مخيّلتي صورة الجزائر التي ما تزال تعاني آلاما مأساوية، فهل يمكن أن يكون ذلك كلُّه محض صدفة؟!".
تنبَّه "هوفمان" في كتابه "الإسلام في الألفية الثالثة" حين كان سفيرا في الجزائر والمغرب إلى أنَّ المسلمين من عادتهم إكرام الضيف إلى حدٍّ كبيرٍ، غير مألوف لدى الغربيين؛ ولِذا ذكر أنه "لِفرط كرم الضيافة، كان عليَّ أن أثير انتباه الزائرين الرسميين من الألمان إلى الجزائر أو المغرب، في أثناء شُغلي لمنصب السفير في هذين البلدين، إلى عدم إبداء الإعجاب الشديدِ، وبطريقة ألمانيةٍ، بما تقع عليه أعينهم عند أحد مضيّفيهم"، ثم قال: "أمَّا من لم يستمع إلى هذا الرأي، فكان يجد ما جذبه وأبدى إعجابه به - مثل كتابٍ قيّم، لوحةٍ جميلة، أو تحفةٍ ثمينة – في حقائبه" أي يعطيه له المضيّف هديةً مهما كانت قيمة هذا الشيء، ولا يقبل ردَّها أو رفضها أو تسلُّم مقابل ماديٍّ عليها.
زار "هوفمان" غرداية عدَّة مرَّات، وكتب عن ذلك في "يوميات مسلم ألماني"؛ وأتذكًّر أنه ألقى محاضرةً في بني يسجن في الثمانينيات، بدارِ عشيرة "آت يدر"، حضرها الأساتذة والمهتمون بالثقافة والفكر والسياسة؛ وكان موضوعها حول سعة الإسلام، ودور المسلمين، والتقصير الذي يؤسَف له في التعريف بدينهم، بالصورة المشرقة اللائقة به.
وفي رحلة من رحلاته كان متأثرا بالأطفال وهم يتلون كتاب الله تعالى بصوتٍ واحدٍ، وبإيقاع موحَّدٍ، في المدارس الحرَّة بقرى وادي ميزاب، جنوب الجزائر... ثم يقول:
"وحتى تلك اللحظة، لم أكن قد تعرَّفتُ على القرآن إلاَّ من خلال النوافذ المفتوحة لكتاتيب تحفيظ القرآن في ميزاب، جنوب الجزائر؛ حيث يحفظه أطفال البربر (الأمازيغ)، ويتلونه في لغةٍ غريبة عنهم، وهو ما دهشتُ له كثيرا. وفيما أدركتُ أنَّ حفظ القرآن وتلاوته، باعتباره رسالة من الله مباشرةً، فرضٌ تحت الظروف كافَّة".
ألقَت هذه الملتَقيات القدريَّة وغيرُها من الأسباب المباشرة وغير المباشرة، إضافة إلى صفاء الطوية، واتقاد الفكر، لدى العالم "مراد هوفمان"، شرارةَ الإيمان في قلب رجلٍ كان لوحده أمَّةً، ما لبثت هذه الشرارةُ أن تحوَّلت إلى صرحٍ علميٍّ ومعرفيٍّ وإيمانيٍّ نادر المثال في زمانِنا؛ ذلك أنه بعد أن أسلم دافع في كلّ المنتديات العالمية عن المسلمين، الذين اجتمعت عليهم أشكال الظلم الغربي بخاصَّة؛ ثم لام المسلمين اليومَ عن ضعفهم ووهنهم، في اللقاءات الخاصَّة والعامَّة، وبين ثنايا مؤلفاته ومقالاته ومحاضراته؛ وكان في كتابه الأخير "خواء الذات والعقول المستعمَرة" صريحا، حيث قال:
"سوف تتمتع الدول الإسلامية بالحرية الحقيقية، فقط عندما يتمكَّن قادة الفكر لديها من فكّ رقابهم من الانبهار غير القابل للنقد بكلّ شيء غربيٍّ، وأن يعودوا للاغتراف من المصادر الثرية للثقافة الإسلامية الخاصة بهم".
ويعلن بحرقة لا نظير لها أنَّ الواجب قد تعيَّن على كلّ مسلم غيور، فيقول:
"ولقد حان الوقت لفعل ذلك".
وفي كتاب "الإسلام في الألفية الثالثة: ديانة في صعود" يورد "مراد هوفمان" عبارة دالَّة على واقع العالَم اليومَ، وواقع المسلمين، وضياعِ الحقيقة بين ثنايا هؤلاء وأولئك؛ والعبارة هي مقولة لـ"نوفاليس" أحد الأدباء الرومانسيين، يقول فيها:
"حيث تغيب الآلهة، تسود الأشباح وتسيطِر".
د. محمد باباعمي، الجزائر العاصمة، 13 جانفي 2020م
http://www.veecos.net/2.0/
Published on January 21, 2020 02:41
•
Tags:
الجزائر, مراد-هوفمان
No comments have been added yet.