ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلامعلى رسول الله..
إليكم يا أهل غزة، وإلى سائر المسلمينفي المحنة والشدة، أكتب هذه الأسطر، أذكر بها نفسي وإياكم بحقيقة ما نحن فيه..
(1) الصبر صفة الأنبياء والأصفياء
لقد امتحن أحب العباد إليه بالبلاياوالرزايا، فأحب الناس إلى الله هم الأنبياء، ومع ذلك فهم أكثر الناس بلاء..
دخل أبو سعيد الخدري على النبي ﷺ فيمرضه، وقد اشتدت عليه الحرارة، فكان النبي يضع على رأسه قطيفة، فوضع أبو سعيد يده،فشعر بالحرارة من فوق القطيفة، فقال: ما أشدَّ حُمَّاك يا رسول الله. فقال ﷺ:"إنا معشر الأنبياء، يُزاد لنا في البلاء، ويضاعف لنا في الأجر".
وسُئل ﷺ: من أشد الناس بلاء؟ فقال:الأنبياء ثم الصالحون، وقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها(أي: يقطعها) فيلبسها! ويُبْتَلى بالقُمَّل حتى يقتله، ولأحدهم أشد فرحا بالبلاءمنكم بالعطاء.
وفي رواية: "يُبتلى المرء على قدردينه، فإن كان في دينه صلابة، زِيد في بلائه، وإن كان في دينه رِقّة خُفِّف عنه،ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".
وقد أخبرنا الله تعالى بأن الناس جميعاخاسرون، إلا صنفا واحدا فقط، أولئك هم {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواالصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].
وأخبرنا تعالى أنه يحاسب الناسبالميزان العدل، لكل عمل أجر، إلا صنفا واحدا من الناس، فهؤلاء لا عدَّ لثوابهم،فقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10].
وأرسل الله بشري ثلاثية مع نبيه ﷺلعباده الصابرين، فوعدهم بالصلوات الربانية وبالرحمة وبالهداية، قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْبِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِوَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْمُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَعَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155 - 157].
وأما الذين صبروا على فراق أبنائهموإخوانهم وأحبابهم من المجاهدين، فقد زادهم الله من البشرى فوق بشرى الصلواتالإلهية والرحمة والهداية، بأن أخبرهم أن شهداءهم ليسوا أمواتا، بل أحياء، قالتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْأَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]. وقال تعالى: {وَلَاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌعِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْفَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْأَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170].
وقد خصَّ الله الصابرين في الجهاد بأنهمعهم، ذكر ذلك في كتابه أربع مرات:
1. فقال تعالى في سياق القتال في سبيلالله وتكاليفه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِوَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]
2. وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْفِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]
3. وقال تعالى في سياق حديثه عن المجاهدينمن أهل بدر: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُواوَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]
4. وقال تعالى للمجاهدين: {فَإِنْ يَكُنْمِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌيَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66].
وهكذا ترون أن أحب الناس إلى الله همأشدهم بلاء، ليكونوا أكثر الناس أجرا وثوابا، وما هذه الدنيا العريضة الواسعة إلاأيام، وما آلامها وأوجاعها إلا ساعات، وقد قرَّبها لنا رسول الله ﷺ فقال: "ماالدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع"!!
وأخبرنا نبينا ﷺ أن أكثر الناس بؤساوشقاء في الدنيا، إذا غُمِس في الجنة غمسة واحدة ظنَّ أنه لم ير شقاء قط! وأن أنعمأهل الدنيا إذا غُمِس في النار غمسة ظنَّ أنه لم ير نعيما قط!!
ولما فهم أسلافنا الصالحون هذا كلهضربوا لنا أمثلة نادرة في الصبر؛ فهذا التابعي الكبير صلة بن أشيم، عرف هو وعائلتهمعنى الصبر، فكان هو وولده معه في الجهاد، فقال لابنه: أي بني! تَقَدَّمْ،فقَاتِلْ حتى أحتسبك. فحمل، فقاتل، حتى قُتِل. ثم تقدم هو حتى قُتِل. فلما بلغخبره إلى أهله جاءت النساء إلى زوجته معاذة يُعزِّينها في زوجها وولدها، فبادرتهمقائلة: مرحبا إن كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ لِتُهَنِّئْنَنِي، وإن كنتن جئتن لغير ذلك،فارجعن!
وقبل أن يموت،جاءه رجل ينعى إليه أخاه، فقال له صِلة: ادنُ فَكُل، فقد نُعِي إليّ أخي قبل حين،وتلا قول الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
وصار شريحالقاضي، التابعي الكبير ومن أشهر قضاة المسلمين، يعطي دروسا في الصبر يتفنن فيها،فيقول عن تجربته مع الصبر: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمدإذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع (أي:قول إنا لله وإنا إليه راجعون) لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني.
وكتب عبيدالله بن عتبة فقيه المدينة الكبير، وأحد فقهائها السبعة الذين اجتمع فيهم علمالمدينة، كتب يعظ الخليفة عمر بن عبد العزيز، فقال:
واصبر علىالقدر المحتوم وارض به .. وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ
فما صفا لامرئعيش يسر به .. إلا سيتبع يوما صفوه كدرُ
إنه موكب طويل من الصابرين، يتقدمهالأنبياء، وأصحابهم وحواريوهم، كان أحدهم يؤتى به، فيُنشر بالمناشير، ويوضع علىرأس أحدهم السيف فيشطر إلى شطرين، ويُمشَّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون لحمه إلىعظمه!
ولقد كاناتباع النبي شديد الكلفة عظيم التضحية، فهذا مصعب بن عمير وقد كان أترف غلام بمكةبين أبويه يدفع ثمن الإسلام حتى صار يتساقط جلده مما هو فيه من الجوع والرهقوالخشونة، وصفه سعد بن مالك بقوله: "فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطايرجلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله علىعواتقنا".
وحوصر الصحابةثلاث سنين حتى ذكر سعد بن مالك أنه قام ليلة يبول، "فسمعت تحت بولي شيئايجافيه، فلمست بيدي، فإذا قطعة من جلد بعير، فأخذتها، فغسلتها حتى أنعمتها، ثمأحرقتها بالنار، ثم رضضتها، فشققت منها ثلاث شقات، فاقتويت (أي: تقوّيت) بها ثلاثا".
فمن سار فيطريق الأنبياء والأصفياء أصابه ما أصابهم.. حتى يلتحق آخر الموكب بأوله، عندمايشرب الصابرون من يد نبيهم شربة هنيئة لا ظمأ بعدها أبدا، هناك! حين يوفون أجرهمبغير حساب.
(2) الصبر صفة العظماء
والصبر صفة العظماء أيضا، ولو كانواكافرين.. ولو كان مصيرهم إلى النار!!
ما من نجاح يحققه المرء في هذه الدنياإلا ولا بد له من الصبر، وقد قال الشاعر:
لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله .. لنتبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وما من بطل ولا مؤسس ولا زعيم إلا صبروصابر، وثبت وثابر في سبيل غايته، ولو كانت غايته الدنيا وحدها.. ومثله في ذلك كلصاحب موهبة في علم أو في أدب أو في حرب أو في فن!!
لا مناص ولا بديل عن الصبر حتى في حاجةالدنيا.. فكيف بحاجة اجتمع فيها مجد الدنيا وثواب الآخرة؟!
الصبر مفتاحالنجاح ولم نجد .. صعبا بغير الصبر يبلغه الأمل
هذا سليمان بن كثير، من مؤسسي الدعوةالعباسية، يتذكر أيام التدبير والتخفي والعناء في سبيل تأسيس الدولة العباسيةفيقول: "صُلِينا بمكروه هذا الأمر، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر حتى قُطِّعَتفيه الأيدي والأرجل، وبُرِيَت فيه الألسن حزًّا بالشِّفَار، وسُمِلَتْ الأعين،وابتُلِينا بأنواع المَثُلات، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نزل بنا".
إني رأيت وفيالأيام تجربة .. للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلَّ من جدَّفي أمر يطالبه .. فاستصحَبَ الصبر إلا فاز بالظّفَر
وأنتم يا أهلالأرض المباركة في أكناف بيت المقدس، وأنتم يا أيها المجاهدون في كل مكان، إنكملتطلبون الأمر الكبير، وتنشدون الغاية العظمى، ولقد اصطفاكم الله فأقامكم في خيرأرضه، ووضعكم في أشرف المعارك، وضرب بكم المثل للعالمين، وباهى بكم ملائكته فيعليين.. فهل ترون هذا الشرف الضخم يصلح معه التعب القليل؟!
على قدر أهلالعزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عينالصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم
لو كان التعبالقليل يصلح للشأن الجليل، لكان الناس كلهم مجاهدين وصابرين.. ولكن هيهات!
لولا المشقةساد الناس كلهمُ .. الجود يفقر، والإقدام قَتّال
وليس من أحدبلغ غاية في الغِنَى أو في العلم أو في الرئاسة أو في البطولة، إلا إذا تحدث عننفسه، تحدث عن صبره ومثابرته وعزمه وتصلبه على ما كان فيه من الشدة، ولو كان الذيأخاطبه غيركم يا أهل الأرض المباركة لقلت لهم اقرؤوا كذا وكذا من الكتب، ولكنيالآن أخاطبكم أنتم، فأقول: قد جعلكم الله أنتم مثلا وقدوة وأسوة للناس.. فيقالللناس: انظروا إلى هؤلاء! وتعلموا من هؤلاء، وتمثلوا هؤلاء!
يوم القيامةستجدون في ميزان حسناتكم، فوق الأجر الذي يُهال وينهمر عليكم بغير حساب، ستجدونحسنات لا تعرفونها.. تلك حسنات أناس خرجوا من الكفر ودخلوا في الإسلام مما يرونهمن صبركم وثباتكم.. ومعها حسنات أخرى كثيرة كثيرة كثيرة.. حسنات أناس خرجوا منالغفلة إلى اليقظة، ومن الكسل إلى الهمة، ومن مسالك الدنيا إلى سبيل الآخرة!
إن الذيتفعلونه يحيي الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، صبركم وثباتكم وإيمانكم العجيبهذا يدفق في عروق الأمة، وفي عروق العالمين، روحا جديدة ونورا جديدا! ولعل هذا منمعاني قول الله تعالى {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96].
(3) خيرالدنيا والآخرة
لئن كان الصبرصفة الأنبياء والأصفياء أحباب الله، وهو كذلك صفة الكبار والعظماء من أهل الدنيا،فقد اجتمع في أهل الجهاد خير الدنيا والآخرة.. والتقى عندهم موكب الخالدين.فالإمامة ثمرة الصبر، كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَبِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24].
فهنيئا لهم!والحسرة كل الحسرة على من تركهم وخذلهم وانصرف عنهم!
الصبر خيرلأصحابه في كل حال، وفي ذلك قال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌلِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وكما قال تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}[النساء: 25].. وهو للأمة المغلوبة الجريحة ضرورة لا بديل عنها.. فما قامت أمة مننكبتها وكبوتها إلا على يد المجاهدين الصابرين! وفي ذلك قال رسول الله ﷺ: "إن النصر مع الصبر". وقدوعد الله المجاهدين الصابرين بالمدد السماوي فقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُواوَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْبِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].
ولا تزالالأمم تخلد عظماءها المقاتلين، وتخلد معهم أهلهم الصابرين، طالما بقيت حية! فتكتبسيرتهم في كتب المدارس، وتوضع على لافتات المؤسسات، وتسمى بأسمائهم الشوارعوالمدن.. فلا يزالون أبطالا في الدنيا، وهم –إذا خلصت نواياهم- تنعموا فوق ذلكبالخلود في الآخرة، في زمرة خير الأولين والآخرين، النبيين والصديقين والشهداءوالصالحين.
ولهذا، فلاعجب أن يكون ختام المشهد في قصة الصابرين هو تذكيرهم بما صبروا، هذا الختام قد أخبرناالله به في قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْآبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَعَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَعُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24].
نشر في مجلة "أنصار النبي"، فبراير 2023


