محمد إلهامي's Blog
October 4, 2025
إلى السادات الأكرمين من المجاهدين والمرابطين
رسالة إلىالسادات الأكرمين المجاهدين والمرابطين من أخيكم المقصر، المحبوس في عجزه المقهورفي بيته..
الحمد لله ربالعالمين، والصلاة والسلام على سيد المجاهدين وقائد الغر الميامين، محمد وعلى آلهوصحبه أجمعين..
أما بعد..
فإلى سادتيالكبار الأجلاء، الأولياء الأصفياء، العمالقة الميامين، من اصطفاهم الله على كلالعالمين، فأسكنهم في خيرة أرضه التي يجتبي إليها خيرته من خلقه، واصطفاهم علىالعالمين فجعلهم من المجاهدين عند مسرى نبيه في الأرض المقدسة المباركة، واصطفاهمعلى العالمين فجعلهم من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خالفها ولا من خذلهاحتى يأتي أمر الله!
إني أتصاغر فينفسي حين أتحدث إليكم، تصاغر من فاتته المقامات العظيمة التي أقامكم الله فيها،حتى أجرى على أيديكم المعجزات والكرامات، وأعاد بكم إحياء النفوس والقلوب، وأدخلبكم في دينه أفواجا من الناس كانوا من أهل الكفر فأسلموا لما رأوْه من صبركموثباتكم وبطولتكم.. فمن كان هذا حالهم، فلا ريب أنهم عند الله في المكان الرفيع،في مقام القرب والاطصفاء..
ولئن ابتلاكمالله بالشدة والأذى، فتلك سنة الله في أوليائه المقربين المصطفين، فإن أشد الناسبلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.. ولا يزال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرضوما عليه خطيئة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، فهنيئا لكم من رجال تقدمون علىالله بلا خطيئة.. وإنه لمقام وحالٌ لا يشعر به ولا يتحسر على فواته إلا من فاتههذا الاصطفاء والاختيار، فهو يعرف كيف يكون قدومه على الله!!
سادتيالمجاهدين المرابطين الميامين..
إني وإنتصاغرت في نفسي حين أكلمكم، فإن لي بابا إليكم، وهو باب النصيحة في الدين، فقدجعلها الله تعالى نصيحة عامة، يجوز فيها للأدنى أن يتكلم مع الأعلى والأرفع، فقدقال نبينا صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: للهورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وإن في نفسيأمورا، أبسطها بين يدي سادتي المجاهدين المرابطين، لعلهم يرون فيها ما يستحق النظروالأخذ بعين الاعتبار..
وإني وإنكتبتها من مكتب وثير في أمنٍ وعافية، فلقد كتبتها بروح تحلق عندكم، وبصر يتعلقبكم، وقد فارقنا منذ نشبت هذه الحرب لذة الطعام والشراب والنظر إلى أهل وولد، فمانأكل شيئا إلا ويذهب طعمه لتذكرنا إياكم، ولا ننظر في أهل ولا ولد إلا ضاعت لذتهالمعرفتنا بما تعانونه في ذلك.. فاقبلوها مني على الضعف والعجز والتقصير.. فإن الذيأضمنه من نفسي أني أحبكم غاية الحب، وأحرص عليكم غاية الحرص!
سادتيالمجاهدين المرابطين..
إن الذي دخلمنكم في طريق الجهاد هذا إنما دخله وهو يطلب الشهادة، فإن الله تعالى لم يضمنلأحدٍ من الناس النصرَ، إنما ضمنه لعموم الأمة، وأما آحادها وفئاتها وبعض حركاتهاوجماعاتها فإنهم يقاتلون لأن ذلك هو الواجب عليهم، ولأن الشهادة هي الأجر المضمونلهم.
ولذلك فإنالله تعالى وعد المجاهدين بالمغفرة والنجاة من العذاب والخلود في الجنة، وجعل ذلكثمرة التجارة مع الله، ثم جعل النصر في الدنيا أمرًا على البيع لعموم الأمة، قالتعالى:
{يا أيهاالذين آمنوا: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟
تؤمنون باللهورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لك إن كنتم تعلمون.
يغفر لكم منذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوزالعظيم.
وأخرىتحبونها: نصر من الله وفتح قريب}
وأصرحُ من ذلكوأوضح قوله تعالى في سورة التوبة {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنلهم الجنة، يُقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقتلون، وعدا عليه حقا في التوراةوالإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟! فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به،وذلك هو الفوز العظيم}
فها أنت ترىآية لا حديث فيها عن النصر في الدنيا. هذا مع أن السورة نزلت في وقتٍ كان المسلمونفيه منتصرين وقد عادوا من غزو الروم في تبوك.. ولكن العقد والوعد هو كما كان أولالأمر: الجهاد مقابل الجنة. والنصر قد يأتي وقد لا يأتي لكل مجاهد.
وعلى ذلك مضىالنبي وصحبه الكرام، وقد قُتِل في مكة مسلمون تحت التعذيب لم يروا النصر ولعله لميخطر لهم ببال. بل إن الزعماء الذين بايعوا النبي على تأسيس الدولة المسلمة –فيبيعة العقبة الثانية- ماتوا قبل أن تنتصر الدولة، وبعضهم مات قبل أن تقوم الدولةأصلا.
ولقد قُتِلجلة من الصحابة في بدر وأحد والخندق، ولم يروا حتى بلوغ الدولة المسلمة درجة الأمنوالاستقرار!
وأما الذينبقوا منهم، أولئك الذين رأوا مشاهد النصر والفتح، فقد جال بخاطرهم أن قد حان وقتالراحة، فما هو إلا أن ذَكَّرهم الله تعالى وحذَّرهم من هذا الخاطر، وأنزل عليهم{وأنفقوا في سبيل الله، ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، فإذا القتال عند الله هوالنجاة، وإذا ترك القتال في سبيل الله هو التهلكة.
فالعهد الذيأخذه الله على عباده هو الجهاد والقتال في سبيله، والمقابل هو: الجنة!
ولهذا بشَّرالنبي ذلك المجاهد المتجرد من شأن الدنيا القائم في مكانه حيثما وضعه أميره، فقال:طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه، أشعثٌ رأسه، مُغْبَرَّة قدماه، إن كان في الحراسة كانفي الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لميشفع".
أقول هذا كلهمخافة أن يكون قد تسرب إلى النفوس بعض تعلق بالدنيا، أو بعض جزع بعد طول الصبر، أوبعض ملل وتشوق إلى الراحة.. وإنها لثغرة في النفس قد تحمل صاحبها على أن تتشققصلابته أو تُخْتَرَق صرامته، أو يتخلى عن بعض احتياطاته.. فنُنْكَب فيه، وليسيعوضنا عنه شيء من أهل هذه الدنيا.
لقد فهمت منسيرتكم ومشاهدكم شيئا لم أفهمه من الكتب ولا من الشروح ولا من العلماء، فهمتُ منحربكم هذه كيف أن أجر الرباط فوق أجر القتال، وقد جاء هذا في أحاديث عدة عن النبيصلى الله عليه وسلم:
1. "رباطيوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه أجري عليه عمله الذي كان يعمل،وأجري عليه رزقه، وأَمِنَ الفتان".
2. وفي حديث آخر:"رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل".
3. وفي حديث آخر:"كل ميت يُخْتَم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلىيوم القيامة، ويؤمن فتنة القبر".
تلك أحاديث لمأفهمها إلا في هذه الحرب الأخيرة: إن المرابط هو اليقظ الصبور، هو ذلك الذي لا يملمقامه في الرباط، ولا تفتر يقظته مع طول المراقبة والانتظار، فهو فوق المقاتل فيضبط النفس وتملكها والتمكن منها وإخضاعها للوازم الجهاد في سبيل الله، فإن المقاتلقد تعينه نفسُه الشجاعةُ المقدامة إذ هو يقاتل ويهاجم، ولكن المرابط الصبور يحملنفسَه الملولةَ على الصبر والرباط.. فلهذا كان له أجرٌ ليس لغيره.. لئن مات وهومرابط، فإن أجره يبقى مكتوبا كأنما هو مرابط حتى يوم القيامة!!
فتأمل أخيالمرابط المجاهد في رجلٍ رابَطَ شهرين أو ثلاثة أو عامين أو ثلاثة، ثم يرى ميزانهيوم القيامة وقد رابط خمسين سنة أو مائة سنة أو خمسمائة أو ألف سنة بحسب ما يفصلبينه وبين يوم القيامة!!
إن الصبر نصفالإيمان.. ولقد طالت هذه المعركة بما لم يكن أحد يحسب، ولكننا والناس نرى منكم بعدهذا الطول شدة وبأسا وبسالة وإقداما يجعلنا في حيرة: أي بشر هؤلاء؟ وكيف هم بعد كلهذا ما زالوا يقاتلون ويذيقون عدوهم من بأس الله الذي وعدهم به {ليبعثن عليهم إلىيوم القيامة من يسومهم سوء العذاب}..
لولا اشتعالالنار فيما جاورت .. ما كان يُعرف طيب عُرف العود
ولولا طولالمعركة ما عرفنا أصالة معدنكم ولا سمو نفوسكم ولا اصطفاء الله لكم من بين خلقه!
إنكم لاتعرفون ماذا يفعل الله بقلوب الناس بكم، ولا كيف يحيي بكم النفوس، ولا كيف يوقظبكم الضمائر.. ولئن طال الوقت واشتد الصبر فهو خير لكم في الآخرة، وهو لحكمةيعرفها الله في الدنيا، فالله قد عوَّدنا الجميل ونحن نقيس على ما تعودنا منهسبحانه.. فلئن شئتموها طوفانا يتحرر به الأسرى فلعل الله قد شاء أن يجعلها المعركةالكبرى التي يتحرر فيها المسرى.. فيكون لكم من الأجر فوق ما طلبتموه، ليس أجر تحررالمسرى فحسب، بل أجر إيقاظ الأمة والنفوس!
إنني في مكانيبالخارج أرى ماذا فعل الله بكم في نفوس الناس: قوم نشطوا بعد يأس، وقوم عملوا بعدقعود، وقوم أسلموا بعد كفر، وقوم تابوا بعد غفلة، وقوم يدخلون في سلك الجهاد بعدأن كانوا متنعمين لا يفكرون في دين ولا في جهاد.. إنكم تغرسون غرسا عظيما، يوشك أنينبت، وأن يثمر.. والله يدبر أمرنا وأمركم، ويدبر بكم ولكم، ويصنع لنا ولكم وبكم..وهو وحده الحكيم اللطيف علام الغيوب.
ولقد تفضلالله على قومٍ فساقهم إلى الجنة في السلاسل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم..ألا تعرفون كيف أن بعض الأسرى في الفتوح الإسلامية قد صاروا في صفوة المجاهدينالفاتحين؟.. نعم، كان الأسر والسلاسل في أول أمرهم طريقهم إلى الدرجات العلا منالجنة.. فكم من شدة ومحنة كانت هي نعمة الله الكبرى على عبده، وهي التي أصاب بهاالفردوس الأعلى!
فتعلقوابالصبر، وتمسكوا بالصبر، وتشبثوا بالصبر.. وكونوا كما أراد الله من عباده {اصبروا،وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله، لعلكم تفلحون}
واعلموا –سادتيالمجاهدين والمرابطين- أنكم أهل العمل.. وأنكم الخبر والموضوع.. ومثلكم أجل وأعلىمن أن يتعلق بكلام المحللين والسياسيين ومن يبيعون الكلام على الفضائيات ونحوها.. إنماهذه أسواق منصوبة للكلام، وهي أحيانا من مراكز التضليل والخداع.
وقد رأيتم كيفأن ترمب كان يُعلن أنه ينهى إسرائيل عن ضرب إيران، ثم ضربت إسرائيل بعدها بساعات،وتبين أن هذا التصريح من ترمب كان جزءا من الخداع والتضليل. وقد نَدَر جدا أنيُستشف من الفضائيات والأخبار شيءٌ ذو بال. ومن كان عارفا بالحال حقا زهد في هذهالفضائيات وما فيها ومن فيها.. إنما يُستفاد منها فهم عقل العدو كيف يعمل في جانبهالإعلامي.. وأما المحللون، فقومٌ مهروا في توليد الكلام وتشقيقه وتفريعه بلاطائل.. وأغلبهم تستطيع أن توجز كلامه في الساعة في عبارة واحدة لا تزيد عن السطرالواحد، ولكنه يجب أن يملأ الوقت ويكثر الثرثرة، فتلك هي مهمته!
أنتم أعلىوأجل من أن تتعلق نفوسكم بقول هؤلاء وتحليلهم.. فهم في الجملة أدنى عقلا منكم،وأدنى معرفة بالحال منكم، وأعجز عن استشفاف القادم منكم أيضا.
وإن من إحسانالله إلى عباده المقربين أن يجردهم من كل تعلق إلا به، وأن يقطع عليهم كل سبب إلاسببه، {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا: جاءهم نصرنا}.
فما هو إلاالصبر..
أسأل اللهتعالى أن يفرغ عليكم الصبر والسكينة والرضا والبركة، وأن يسدد رميكم وأن يقذفالرعب في قلوب عدوكم.. إنه ولي ذلك والقادر عليه!
أخوكم المحبلكم
لمن أحب أنيراجع التفاصيل، ينظر: www.youtube.com/watch?v=3I53LN5iBso
September 14, 2025
درس مهم في مستقبل أفغانستان
أبدأ هذا المقال باعتذار لإخواني فيالإمارة الإسلامية بأفغانستان، فلقد شغلتنا المصائب القريبة في مصر وفلسطينومنطقتنا العربية عن متابعة أحوالهم والعناية بها على النحو اللائق. على أن لهذاالنسيان جانب طيب، وهو ما لدينا من الثقة في قيادة هذا البلد، تلك القيادة التيأنجزت التحرير، وأنجزت معه معركة التفاوض.. ومن طبيعة المرء أن ينشغل عن الأمرالذي يتولاه الكفء ثقة فيه، ثم يذهب للاعتناء بالأمر الذي لا يجد الأكفاء!!
وقد بدأت بهذا الاعتذار، لأنني سأذكرفي هذا المقال أمورًا لستُ أدري ماذا تكون سياسة الإمارة الإسلامية فيها: هل هميعرفونها ويقومون بها، أم ثمة قصور في المعرفة أو في التطبيق. فإن كان الأمر علىما يرام فالحمد لله رب العالمين، وإن كانت الحاجة إليه قائمة، فتلك السطور هي أهمما يرى مثلي أنها أمور أحق بالعناية بها.
لقد احتفلنا –وحق لنا الاحتفال-بالتحرر الأفغاني من الاحتلال الأجنبي، وقد مضى من الوقت ما يكفي لأن ننتقل منمقالات الاحتفاء والاحتفال إلى مقامات النصح والبيان، فالدين النصيحة، وهو واجبٌعلينا في كل وقت.
وإن من أشد ما أخشاه للتجربةالأفغانية، بل ولكل تجربة إسلامية أخرى أدركت التحرر، أن تذهب في اتجاه: بناء دولةحديثة مركزية، كما هو النموذج الشائع في العالم كله، وإن نموذج "الدولةالحديثة" هو نموذج شديد الإغراء لكل منتصر وزعيم، وذلك أنه يوافق لذة نفسه فيتمكين سلطته، وهو يوافق النظام العالمي القائم، وقد يرى المنتصر المُحَرِّر أنإقامة هذا النموذج هو الذي يحقق بالفعل مصلحة البلد ويقيها أخطار التمزق والتفرق!وقد يجد في علماء المسلمين من يتقبل نموذج الدولة الحديثة هذا ويرى له تخريجاإسلاميا يجعله غير مخالف للدين.. وهكذا.
أريد أن أقول هنا إن من أعظم مزاياالإسلام، ومن أعظم معجزاته في بنائه لنظامه السياسي أنه كان ضد فكرة الدولةالحديثة ومنطقها، حتى قبل أن توجد هذه الفكرة في واقع الناس!
لقد حرص الإسلام على بناء سلطة قويةنعم، لكنها سلطة محدودة الصلاحيات، تهتم بجوانب الأمن والدفاع وما يتعلق بهما،وأما بقية الجوانب والأنشطة من الاقتصاد والتعليم والثقافة وغيرها، فهي من شأنالمجتمع الذي ينطلق لخدمتها وإشباعها، فالسلطة لا تهيمن عليها ولا تتحكم فيها،إنما تدعمها وتراقبها.
ومن هاهنا اهتم الإسلام كثيرا بتقويةالمجتمع وتمتينه وتعميق روابطه: روابط الإسلام والأرحام والجوار، وكانت عباداتالإسلام وشعائره وأحكامه ميدانا خصبا لتنمية هذه العلاقات وتقويتها، بحيث ينشطالمجتمع من تلقاء نفسه ولا يكون رهينا بالسلطة!
إن شرح هذا يطول، ولعل من أرادالاستزادة أن يرجع إلى كتابيّ "منهج الإسلام في بناء المجتمع"و"سبيل الرشاد".
ومن أهم ثمرات هذا الوضع أن الحضارةالإسلامية واصلت ازدهارها حتى في أوقات ضعف السلطة أو انهيارها، ومن أهم الثمراتأيضا أن السلطة إذا انهارت كان المجتمع قادرا على مقاومة المحتل الأجنبي واستئنافمقاومة شعبية، كما أنه كان قادرا على تدبير شؤون نفسه وإدارتها بمعزل عن سلطةالاحتلال أو سلطة العملاء.
وتلك كانت العقدة التي واجهت الأمريكانفي احتلال أفغانستان، والتي عبَّر عنها صُنَّاع القرار عندهم، إن قوة المجتمع وضعفالسلطة الأفغانية جعل الاحتلال الأجنبي لا يعرف كيف يقضي على المقاومة، ولا كيفيمسك بخناق هذا الشعب الباسل، إن المقاومة روح عامة سارية، والشعب يمكنه أن يديرنفسه دون احتياج إلى السلطة، وبذلك فشلت محاولاتهم في إنشاء سلطة مركزية على نمطالدولة الحديثة، تلك السلطة التي تستطيع أن تكبل المجتمع وتقيده.
سأذكر بعض تلك الأقوال التي سجلوهابأنفسهم في كتبهم، لكي يطِّلع إخواننا الأفغان على أهمية هذا الأمر، ومن خلالهيطَّلعون على خطورة أن يذهبوا باتجاه إقامة دولة حديثة ذات سلطة مركزية مهيمنة،وذلك كي تبقى مسيرة بناء الحكم الجديد متسقة مع الإسلام أولا، ونافعا للشعبالأفغاني ثانيا، ومخالفة لهوى الأعداء ثالثا..
أوردت كونداليزا رايس –وقد شغلت منصبيوزير الخارجية ومستشارة الأمن القومي الأمريكي- في مذكراتها أن بول وولفوتيز،معاون وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، اقترح أن يكون البدء بضرب العراق لاأفغانستان، مع أن العراق لا علاقة له بأحداث سبتمبر، والسبب في ذلك أن مواجهة جيشنظامي في العراق سيكون أسهل كثيرا، مما يمكن معه تحقيق نصر سهل وسريع تحتاجهالمعنويات الأمريكية! لم يؤخذ برأيه في نهاية الأمر لأسباب سياسية، لكن الرجل قدكشف عن السرِّ، وهو السر الذي تحقق بالفعل كما نراه جميعا.
لقد كان تركيز الأمريكان، كما يقولروبرت جيتس الذي تولى منصبي مدير المخابرات الأمريكية ثم وزير الدفاع بعدرامسفيلد، هو: "في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم يسبق له عمليا أن كانتفيه حكومة".
والأمريكان يحبون تسمية الدولة غيرالمهيمنة على كل شيء باسم قبيح، "الدولة الفاشلة"، لا لكونها تفشل فيخدمة شعبها، بل لكونها ثغرة في جدار النظام الأمني العالمي الذي يخدم أمريكا، تقولرايس: "تبين لنا أن الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا علىالولايات المتحدة. فهي لا تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمنللإرهابيين، لذلك فإن إعادة بنائها يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن... ومع أن هذهالفرق (فرق الإعمار الإقليمي) كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفاواحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية".
وهذه العبارة الأخيرة ذاتها يقولهاأيضا روبرت جيتس، "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غيرالحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة".
وقبيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستانكان هنري كيسنجر متأسفا على الخطأ الذي قام به أوباما حين حدد مواعيد نهائيةلانتهاء المهمة في أفغانستان، وذلك أن كيسنجر يرى أن هدفا مثل تأسيس حكومة مركزيةفي بيئة أفغانية هو شيء لا يمكن أن يُلتزَم فيه بالوقت، لكونه يحتاج أمدا طويلا.. والسببفي هذا أن أفغانستان لم تتعود على هذه الحكومة المركزية، يقول: "فقدناالتركيز الاستراتيجي. لقد أقنعنا أنفسنا أنه في نهاية المطاف، لا يمكن الحيلولةدون إعادة إنشاء القواعد الإرهابية إلا من خلال تحويل أفغانستان إلى دولة حديثةذات مؤسسات ديمقراطية وحكومة تحكم البلاد بطريقة دستورية. ومثل هذا المشروع لايمكن أن يكون له جدول زمني قابل للتوافق مع العمليات السياسية الأمريكية"،ويواصل قائلا: "إن بناء دولة ديمقراطية حديثة في أفغانستان، بحيث تسري أوامرالحكومة بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد يعني ضمنا أن يكون هناك إطار زمني يمتدلسنوات عديدة، بل عقودا؛ وهذا ما يصطدم مع الطبيعة الجغرافية والعرقية الدينيةلأفغانستان. لقد كان تناثر مناطق أفغانستان، وعدم إمكانية الوصول إليها وغيابالسلطة المركزية هي على وجه التحديد التي جعلت منها قاعدة جذابة للشبكات الإرهابيةفي المقام الأول".
وكان هنرى كيسنجر نفسه، حين بدا لهالانسحاب الأمريكي وشيكا من أفغانستان، قد أراد تحريض سائر دول المنطقة ليكملوا همما فشل فيه الأمريكان، فنادى على باكستان وإيران وروسيا والصين، أن انهضوا للحفاظعلى أمنكم بعد أن يرحل الأمريكان عن أفغانستان، فأنتم أشد حاجة من أمريكا إلى هذاالأمان..وصدق الذي قال: برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين!
تحتاج التجارب الإسلامية اليوم إلىاجتهاد ذكي ومنضبط، يراعي تنزيل الشرع الإسلامي على أرض الواقع غير الإسلامي، وفيبيئة المنظومة الدولية التي شكلتها الهيمنة الكُفرية على العالم، فإنه لن يمكنناالانخلاع من العالم ولا من تقاليد الحكم فيه مرة واحدة، كذلك لن يمكننا تطبيقالإسلام كما كان في عهد النبي والراشدين دفعة واحدة. يجب على الأقل أن نعرف ماذانريد وأن نحث السير إليه، حتى لو كانت الظروف لا تسمح بتطبيق ما نريد على النحوالذي نريد.
وفقالله رجال الإمارة الإسلامية لما فيه خير البلاد والعباد.. وأسأل الله تعالى كماأيدهم بالنصر على أعدائه وأعدائهم أن يؤيدهم بالنصر على أنفسهم وأن يستعملهم فيمرضاته وأن يُمَكِّن لهم خير ما يمكن به لعباده الصالحين.
نشر في مجلة الصمود - الناطقة بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان - سبتمبر 2025
كونداليزارايس، أسمى مراتب الشرف، ص114، وما بعدها.
روبرت جيتس،الواجب، ص238.
كونداليزارايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.
روبرت جيتس،الواجب، ص248.
مقالهنري كيسنجر في الإيكونوميست بتاريخ 25 أغسطس 2021م.
هنري كيسنجر،النظام العالمي، ص313، 314.
September 4, 2025
ماذا كان يمكن أن يفعل الفلسطينيون غير 7 أكتوبر؟
محمد إلهامي
يندهش العرب والمسلمون دهشة شديدة منهذه الدهشة الشديدة التي يبديها الغربيون –الأوروبيون والأمريكان- إزاء حدث السابعمن أكتوبر. كأن هذا الحادث شيء لا يمكن تفسيره، بينما يبدو مثل هذا الحادث شيئامتوقعا لأي إنسان يقرأ التاريخ أو يقرأ الواقع؟!
ربما تكون الدهشة حقيقية إزاء الجرأةالتي أبداها المقاتلون في قطاع غزة، وإزاء قدرتهم على تنفيذ هجوم بهذا الاتساع فيظل فارق هائل بين قدراتهم التقنية وبين القدرات الإسرائيلية، لكن هذا جزء فنيتفصيلي لا يتعلق بتفسير الحدث وفلسفته، بل يتعلق بإجراءاته وأدواته، بمعنى أنه إذاأخفق المقاتلون من غزة في هجومهم هذا تماما، فلن يكون المدهش هنا هو: لماذا فعلواهذا وأقدموا على هذا الهجوم الانتحاري؟
إن العالم كله –بخلاف الغربيين بالطبع-يفهم تماما لماذا قام المقاتلون في غزة بهجوم السابع من أكتوبر، بل الواقع أن هذاالهجوم كان متوقعا تماما، بل لم يكن يمكن توقع شيء آخر، فهذا هو منطق التاريخ،ومنطق الطبيعة البشرية، ومنطق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ومنطق الصراع حين لايمكن حله بالوسائل السلمية، ومنطق كل إنسان متدين حين يرى مقدساته الدينية واقعةتحت التهديد. إن كل شيء كان يقول: سيقع مثل هذا الحادث، إن لم يكن في السابع منأكتوبر 2023م، فربما في الثامن من نوفمبر 2024م، أو في التاسع من ديسمبر 2025م، أوفي أي تاريخ آخر.
"التاريخ لم يبدأ في 7أكتوبر"
هذه هي الجملة الأشهر المتداولة فيالإعلام الغربي على لسان المتحدثين المتفهمين لهذا الحادث، تبدو جملة بديهيةوطبيعية ومفهومة، لكن تكرارها وشهرتها وتداولها يدل في الحقيقة على أذن غربية صماءوعلى عقل غربي مصمت لا يريد أن يسمع ولا أن يفهم. نعم، التاريخ لم يبدأ في 7أكتوبر، فلماذا يحاول الغربيون تجاهل التاريخ؟!
إسرائيل كيان لم يكن موجودا قبل 1948م،مؤسسو إسرائيل أنفسهم كانوا يحملون جوازات سفر كُتب عليهم أنهم من"فلسطين"، العملات النقدية التي لا تزال موجودة ويمكن ببساطة البحث عنصورها على الانترنت مكتوب عليها "فلسطين"، طابور من الأدلة لا يمكندحضه، أي كتاب قد صدر قبل 1948، أو أي أطلس للخرائط لا يكتب فيه شيء عن "دولةإسرائيل"، بما في ذلك الخرائط الغربية نفسها!
فما الذي حدث إذن؟!
الذي حدث بكل وضوح أن الاحتلال الغربي،البريطاني تحديدا، سيطر على هذه المنطقة وقرر أن يمنحها لليهود، في تجاهل تام لكونهذه الأرض يحيا عليها شعب آخر عريق لم ينقطع وجوده منذ بدأ التاريخ المعروف. وإذن،كيف برر الغربيون ذلك؟ ببساطة شديدة اعتبرهم تشرشل مجرد حيوانات، وقال مقولتهالشهيرة: إن الحظيرة لن تكون أبدا ملكا للثور لأنه نام فيها طويلا!
تفاصيل كثيرة يعرفها المؤرخونوالباحثون، بمن في ذلك المؤرخون الإسرائيليون، خلاصتها: جرى تهجير وإبادة عدد منالقرى والمدن الفلسطينية، والإتيان بأمواج وأفواج من المهاجرين اليهود من كل بلادالعالم، وقبل نهاية المشهد كان لا بد من غطاء قانوني لهذه العملية الإباديةالإحلالية، فخرج قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة، ليكون أول قرار فريد من نوعهيتحكم في مصير شعب، وينشئ دولة غريبة على أرضه، دون الرجوع إليه ولا استفتائه ولامعرفة رأيه!
وهكذا جاء شعب آخر، غُرِس في هذه الأرضبقوة السلاح، بعد سلسلة من المذابح المشهورة، ثم بعد حرب هزلية خاضتها قوات عربيةمحدودة كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني نفسه، بقيادات عسكرية بريطانية، لتثبيتقرار إنشاء الدولة اليهودية.
حسنا.. فماذا حصل بعدها؟!
حتى الآن، وربما هذه معلومة لا يعرفهاالغربيون، لا تعترف إسرائيل بحدودها، بل –ويا للطرافة- ترسم على علمها وتكتب فيوثائقها ويتكلم الكثير من المسؤولين فيها بأن حدودها تمتد من النيل إلى الفرات!..أي أن حدود 1948م، لم تكن إلا قطعة الأرض الأولى التي ستتوسع منها الدولة.
لا يعرف الغربيون أيضا –فيما عداالباحثون والمؤرخون- أن إسرائيل لم تُهاجَم أبدا من قبل أي دولة عربية، إن طبيعةالأنظمة العربية من جهة، وطبيعة الدعم الغربي المتدفق دائما من جهة أخرى، كان يجعلإسرائيل دائما في موقع الهجوم والاستيلاء على الأرض. ويمكن لأي قارئ لا يصدق أنيرجع إلى أرشيف الأمم المتحدة، ويمسك بأي تقرير لتقصي الحقائق عن الخروقات لخطوطالهدنة بين الدول العربية وإسرائيل، وسيرى ذلك بنفسه!
بعد نحو عشرين عاما من التأسيس جاءالتوسع الثاني؛ في 1967م احتلت إسرائيل سائر فلسطين التي لم يكن بقي منها حينئذإلا قطاع غزة (تحت الإدارة المصرية) والضفة الغربية (تحت السيادة الأردنية)، وشبهجزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية. وجاء توسع ثالث في 1982 لتحتلإسرائيل الجنوب اللبناني، ولا تزال بعض المناطق اللبنانية خاضعة للاحتلال.
استطاع المصريون شنّ هجوم مفاجئ في 6أكتوبر 1973م، ثم مدوا أيديهم بالسلام، ووقعوا اتفاقية السلام (1979م)، ولم يحصلواعلى كامل أرضهم إلا بعد عشر سنوات في (1989م) بعد مفاوضات مضنية وتحكيم دولي،وتنازلوا عن بعض أرضهم مثل قرية أم الرشراش، وعن سيادتهم على أراضٍ أخرى متاخمةلإسرائيل (في نسختها التوسعية الثانية). كذلك تنازل الأردنيون عن الضفة الغربية(1988م)، ووقعوا اتفاقية سلام أخرى (1994م)، وما زال السوريون لم يسترجعوا أرضهمحتى هذه اللحظة!
إذا وضع القارئ نفسه مكان الفلسطينيالذي جرى احتلال أرضه، ويجب ملاحظة أن الأرض الفلسطينية تحتوي على مقدسات إسلاميةومسيحية تهم الجميع، ولئن كان المسيحيون الغربيون قد تخلوا عن مقدساتهم فيما يبدو،فهذا الأمر لم يفعله المسلمون حتى الآن. في الواقع لدى الغربيين نفاق فظيع فيمايخص إسرائيل تجعلنا في العالم العربي نرى إسرائيل كنسخة أخرى من الممالك الصليبيةفي القرون الوسطى، بل أسوأ، لأن إسرائيل تعتدي بالفعل على المقدسات المسيحية دونأن يهتم الغربيون لهذا كثيرا.
ليس هذا موضوعنا الآن، ولكن: الفلسطينيالذي يريد تحرير أرضه، كما هي طبيعة كل إنسان يقع تحت الاحتلال، لا بد له أنيقاوم، حتى لو كانت مقاومته هذه تبدو عبثية وغير ذات فائدة، هذا هو الأمر الذيفعلته كل الشعوب عبر التاريخ. ليس شيئا عجيبا ولا غير متوقع! يعرف من قرأ التاريخأن الاحتلال الإحلالي الإبادي الذي يريد سحق شعب وإسكان آخر مكانه، إما أن ينجح فيالإبادة (كما فعل الأوروبيون في الأمريكتين وأستراليا) أو سيبقى يواجه موجاتمتجددة من المقاومة، مثلما أخفق نفس هؤلاء الأوروبيون في سائر المناطق الأخرى عبرالعالم واضطروا إلى تصفية الاستعمار والبحث عن بدائل أخرى توفر لهم الهيمنة دونالوجود العسكري والحكم المباشر. كما هو الحال الآن!
في أواخرالثمانينات من القرن الماضي انطلقت انتفاضة شعبية، تبدو عبثية تماما، ماذا يفعلشعب ليس عنده إلا الحجارة أمام دولة إسرائيل المدججة بالسلاح، يمكن للقارئ أن يبحثقليلا في الانترنت ليرى كيف كان الجنود يُمسكون الفلسطيني فيكسرون ذراعه لئلا يلقيبالحجارة مرة أخرى! سيرى خلال بحثه كيف أن المرأة العجوز تحمل طفلا صغيرا بيدهااليسرى وتلقي الحجارة بيدها اليمنى! يبدو المشهد عبثيا حقا، حتى إن كثيرا من جنودالاحتلال الإسرائيلي كان يطلق النار ثم يضحك عائدا لرفاقه!
غير أن هذهالانتفاضة، لأنها تنسجم مع الدين والتاريخ والطبيعة البشرية، كانت واسعة وشاملةومفاجئة، سرعان ما تطورت إلى عمليات –تبدو عبثية أيضا- للرمي بالمقلاع والطعنبالسكين ووضع الحجارة في طريق مدرعات الاحتلال. ساعتها فكر الإسرائيليون والغربيونفي امتصاص هذه الانتفاضة عبر تكوين سلطة فلسطينية، تتولى هي تأمين المناطقالفلسطينية في غزة والضفة الغربية، التأمين هنا بمعنى حماية الاحتلال، وتتولىإدارة الشؤون اليومية لهؤلاء، هذا هو الذي يُعرف باتفاق أوسلو. فرض علىالفلسطينيين تأمين إسرائيل مقابل مفاوضات مفتوحة لم تنجح أبدا!
سار ياسرعرفات في هذا المسار عشر سنين، ولم يحقق شيئا، بل الأغرب، أن الحكومة الإسرائيليةالتي تأتي بها الانتخابات كانت تملك أن توقف مسار المفاوضات أو تلغيه، وبالفعل:قدم عرفات كل ما يمكن تقديمه لإيهود باراك في كامب ديفيد الثانية (2000م)، ولكنباراك لم يُرضه هذا. وفشلت المفاوضات. ومنذ ذلك الوقت كانت الحكومات الإسرائيليةضد فكرة الدولة الفلسطينية أساسا!
قُتِل عرفاتبالسُّمّ في (2004م)، ولم يستفد عرفات أي مكسب من القمع الذي سلطه على الفلسطينيينلتأمين إسرائيل، وجيئ بعده بمحمود عباس الذي يبدو أكثر "مرونة"واستعدادا للتنازل عن أي شيء، لكن محمود عباس لم يجد أبدا أي شريك للتفاوض، مع أنهمنذ عشرين سنة يعمل بكفاءة تامة في قمع الفلسطينيين ومطاردة من يريد مقاومةإسرائيل، وتعمل أجهزة الأمن الفلسطينية بكفاءة نادرة في التعاون مع الأجهزةالإسرائيلية، وكثيرا ما جرى تسليم فلسطينيين لإسرائيل، أو قتلهم تحت التعذيب فيسجون السلطة الفلسطينية!
لكن عباسا كانيريد أن يحوز نوعا من الشرعية، فأجريت انتخابات فلسطينية –برضا إسرائيلي- (2006م)غير أنها جاءت بمفاجأة صاعقة: لقد فازت حركة حماس في الانتخابات. وساعتها حدث مشهدجديد لم يكن يتوقعه أي مراقب في العالم: الغرب الذي يعتنق دين الديمقراطية رفضالاعتراف بالانتخابات النزيهة، وقرر مقاطعة الحكومة المنتخبة وفرض حصارا علىفلسطين.
حاولالمهزومون في الانتخابات اغتيال الفائزين بها، نفذت السلطة حركة انفلات أمنيواسعة، ولكن حركة حماس –القوية في غزة- استطاعت صد الأجهزة الأمنية في غزة عنمحاولاتها، فقرر محمود عباس الانقلاب على الانتخابات فحلَّ الحكومة المنتخبةوانفرد بحكم الضفة الغربية.
ومنذ ذلكالوقت (2007م) وحتى (2023م) عاشت غزة تحت حكم حماس حصارا هائلا أدى لكثير منالوفيات فضلا عن الحياة التي لا تطاق، لقد كانت أكبر سجن في العالم.
وفوق ذلك،حكومة نتنياهو التي يعاد انتخابها دائما، تخطط لكثير من الإجراءات التي تهودالمسجد الأقصى وتقرر اقتراب البدء بهدمه، وتسمح للمستوطنين والجماعات الدينيةالمتطرفة بتنفيذ طقوس شعائرية تشي بقرب تحطيمه!
إن كنت أنتمكان الفلسطيني، بالذات لو كنت في غزة، أخبرني إذن.. ماذا كنت ستفعل؟!
ماذا ستفعل،وقد فشلت محاولات السلام، فشلت المفاوضات، انسحبت الدول العربية الداعمة منالمعركة، يقترب هدم المسجد الأقصى، تعيش في حصار لا نهاية له!!
إن كان لديكجواب غير السابع من أكتوبر.. تفضل أخبرنا به!
نشر في مجلة أنصار النبي - سبتمبر 2025
طلبت هذاالمقال صحيفة أوروبية واسعة الانتشار، ثم لم تنشره! وها هو ينشر الآن على صفحاتمجلة "أنصار النبي صلى الله عليه وسلم"
August 27, 2025
رسالة إلى ضباط الجيش المصري!
منذفترة أريد أن أكتب مقالا عنوانه: رسالة إلى ضباط الجيش المصري.. أريده أن يكونرسالة أخيرة، {ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة}.
علىأني منذ عقدت تلك النية لم أجد في نفسي الفرصة لصفاء نفسي أو ظروف مواتية، بلالأمور تتسارع من حولي، وأخشى أن يُحال بيني وبين ذلك.. ومن يدري؟.. لعل كلمة هناأو هناك تقع موقعها في صدر أحد الذين يقرؤونها، فيكون فيها الخير له، ولنا، وللأمةكلها.
ولكيلا يطول الانتظار، فقد عزمتُ أن أكتب هنا أهم ما أريد قوله، وإن لم يكن مرتبا ولامتقنا على النحو الذي رغبت فيه.
ياضباط الجيش المصري.. في كل مواقعهم.. اسمعوا مني فوالله إنها لنصيحة صادق مخلص..وعلم ذلك عند الله!
(1)
لئنكان الناس يجاملونكم أو يغازلونكم، رغبا أو رهبا، فوالله لا أجاملكم ولا أغازلكم..بل أنصحكم نصيحة مشفق عليكم، محذر لكم.. فوالله العظيم إنكم لعلى خطر عظيم وفي خطرعظيم..
ولاتغركم الرتب ولا المزايا ولا السلطة.. فوالله ما هو إلا نَفَسٌ واحدُ يخرج ولايعود، فيجد الإنسان نفسه في الآخرة، في القبر، أمام ملائكة الحساب، وينقطع عنهالعمل والأمل حتى يقف أمام الله.. فلا رتب ولا نياشين ولا أموال ولا سلطة.. ولاعلاقات نافذة.. يقف المرء وحده أمام مصيره النهائي الأبدي الكبير.. فإما الجنةوإما النار.
(2)
ولاأخاطبكم هنا إلا بكلام الله وكلام رسوله.. كما قال تعالى {قُلْ: إنما أنذركمبالوحي}
والإنذاربالوحي، بكلام الله وكلام رسوله، لا ينصرف عنه إلا الذين وصفهم الله بالصَّمَمَ..وهؤلاء لا يستفيقون إلا حين يقع العذاب والعقاب، في الدنيا أو في يوم القيامة..وهناك: يرى كل واحد منهم أن كل أعماله مهما كانت صغيرة وتافهة قد وُضِعت فيالميزان.
اسمعالآية: {قل إنما أنذركم بالوحي، ولا يسمع الصُمُّ الدعاء إذا ما يُنْذَرون * ولئنمسَّتهم نفحة من عذاب ربك ليقولن: يا ويلنا إنا كنا ظالمين * ونضع الموازين القسطليوم القيامة، فلا تُظلم نفسٌ شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفىبنا حاسبين}
(3)
إنكنت تشك -أو ستَشُكّ- في كلامي هذا وفي أغراضي منه، فسأخبرك بطريقة قرآنية.. نصحبها القرآن الناس إذا تحيروا والتبست عليهم الأمور، لكي يتوصلوا بأنفسهم إلى ما إنكان الكلام الذي يسمعونه حقا أو باطلا.
نصحهمالقرآن بالانفراد بالنفس، أو الانفراد بأقرب المقربين الصادقين، ثم التفكر والتأملفي الكلام.. يعني: اخرج من كل البيئة المحيطة بك، من كل ما يُشَوِّش عليك الفهم،من كل العوامل التي تضغط وتؤثر في تفكيرك.. ابق وحدك تماما، وتفكر في أمرك بنفسك..أو اصطحب معك أقرب الناس إليك وأخلصهم عندك.. وتفكرا معا.
واحدأو اثنين.. لا تكونوا ثلاثة ولا أربعة.. ثم تأمل في الكلام!
قالتعالى {قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا}
هذاعلاج قرآنيٌ لم يتدخل فيه أحد.. أنت ونفسك والله.. أو: أنت وصديقك المخلص واللهثالثكما.. وهو الذي يعلم غيب النفوس، ويعلم حقيقة الضمائر، ويطلع على حقيقةالتفكر، وحقيقة الاستجابة له!
(4)
إنأقرب الناس من الخطر العظيم هم جُنود الظالمين.. بل وأخبرك بالحقيقة المرة -وقدقلت لك: لن أجامل- أن أغلبهم هالكون!
هناكأمل وحيد وضعيف، سأخبرك به بعد قليل.. ولكن دعني أوضح لك الخطر العظيم أولا:
إنحياة الجندية والعسكرية، وما فيها من طبيعة السطوة والسلطة والعقوبة النافذةوالخطر المحقق، تطبع الإنسان فيها على السمع والطاعة.. في الأغلب: دون تفكير!
ثمإن اهتمام الحاكم -بالذات: لو كان طاغية وسفاحا- بالجيش على وجه التحديد، لأنه أهمأدوات الحكم والسيطرة، يجعله مهتما غاية الاهتمام بتشكيل عقولهم ونفوسهم بحيثيتشربون رأيه ورؤيته، وبحيث يتعاظم هو في نفوسهم فلا يفكرون في التفكير بعد رأيه،وحتى إن فكروا: لا يجرؤون على التمرد عليه.. وهذا ما يعطل في نفوس الجنود والضباطأهم خصائص الإنسان الطبيعي: التفكير الحر والاستقلال بالقرار.
لهذا،ولأسباب أخرى: كان العسكريون أبعد الناس عن الهداية، وأقربهم إلى اتباع الحاكم حتىلو أمرهم بقتل الأبرياء، بل حتى لو قادهم إلى النار.. وحتى لو وقعت أمامهمالمعجزات!!
إذاكنتَ تقرأ القرآن، فأنت تعلم كيف أن جنود فرعون
1.كانوا ينفذون أوامر قتل الأطفال
2.وهم الذين نفذوا أوامر تعذيب السحرة الذين آمنوا بموسى.. وهنا تخيل: المعجزةالواحدة وقعت أمام السحرة وأمام العسكريين: فآمن السحرة.. ولكن العسكريين تولواتعذيبهم.. هؤلاء آمنوا واتبعوا ما ظهر لهم من الحق والمعجزة. وهؤلاء اتبعوا أوامرفرعون فعذبوا الذين آمنوا
3.ثم المشهد الأخطر على الإطلاق: مشهد البحر الذي انشق لموسى.. معجزة كونية هائلةضخمة مروعة.. يجب أن يؤمن لها أي عاقل.. فإذا لم يؤمن فليتخوف وليتردد وليفكر فيهذا الذي تغير له الكون وانشق له البحر.. لكن جنود فرعون فعلوا ما لا يمكن تصوره..لقد أمرهم فرعون بالعبور خلف موسى فعبروا معه.. فغرقوا جميعا!
ولهذايذكر القرآن الكريم أن الله قد عذب فرعون وجنوده.. وأنهم معه في النار حتى الآن..
سأذكرلك أربعة آيات فقط، تأملها.. ثم القرآن حافل بما يجب أن تتفكر فيه جيدا..
{واستكبرهو وجنوده في الأرض بغير الحق، وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون}
{فأتبعهمفرعون بجنوده، فغشيهم من اليمِّ ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى}
{فاتبعواأمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وبئسالورد المورود * وأُتْبِعوا في هذه لعنةَ ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود}
{الناريُعرضون عليها غُدُوًّا وعشيا، ويوم تقوم الساعة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}
هذاهو الخطر العظيم الذي أنت فيه.. خطر الوجود في بيئة ومنظومة تتشكل فيها النفوسبالسطوة والرهبة، كما تتشكل بالمزايا والرغبة، وتتركز عليها اهتمامات الحاكم كيتنسجم له وتتناغم معه.. هذه المنظومة أغلب الذين يتخرجون فيها يتبعون الأوامروينصاعون لها، مهما كانت مخالفة لأوامر الله، ومهما كانت تؤدي إلى النار..
ثمتعمل النفوس الخائفة والراغبة على التبرير لنفسها، وإلقاء الأعذار.. والله يقول{بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره}.. والمعنى: مهما اختلق الإنسانلنفسه من الأعذار والمبررات، فهو يعرف في حقيقة نفسه، والله يعرف كذلك، ما قيمةهذه الأعذار والمبررات..
ربمايخطر في بالك أن #السيسي ليس فرعون.. بل هو مسلم ومتدين، وشخص وطني.. هذا الخاطرلن أجيبك عليه.. تفكر فيه مع نفسك.. والله مطلع عليك ويعلم ما في نفسك
(5)
مهماكانت النتيجة التي توصلت إليها في شأن السيسي.. فأريد أن أخبرك بأن هذا الخطرالعظيم.. خطر الوجود في منظومة تجعل أوامر القائد والحاكم فوق أوامر الله.. وتتشكلفيها النفوس لكي يكون القائد والحاكم هو الإله على الحقيقة..
هذاالخطر العظيم ليس متعلقا بفرعون وحده.. بل يتعلق بكل الذين يخونون الله ورسولهويخونون الأمانة..
هذاهو الخطر الذي حذَّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تحدث عن أمراء، ليسوافراعين ولا كفارا، بل مسلمين.. وهم لا يتركون الصلاة بل يؤخرون الصلاة عنمواقيتها.. لكنهم يقربون شرار الناس..
قالرسول الله: "ليأتين عليكم أمراء يُقَرِّبون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عنمواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم، فلا يكونن عريفًا، ولا شرطيًّا، ولا جابيًا، ولاخازنًا". (حديث حسن)
إذاكان قد خطر ببالك أن السيسي ليس مثل فرعون.. فتأمَّل: كيف أن تقريب الأشرار،وتأخير الصلاة عن مواقيتها جعل النبي يحذر من البقاء في منظومة هذا الحاكم:العسكرية والأمنية والمالية!!
ثمتأمل..
(6)
إذاكنتَ ما تزال على الاتفاق، بأنك تفكر صادقا مع نفسك، منفردا عن المؤثرات التيحولك.. فلن تكون بحاجة إلى أن أخبرك ماذا فعل هذا السيسي في البلد..
انظرفي أي مكان.. أي مكان.. أي مكان..
الفقروالقهر والظلم منتشر في كل حارة!
المظلومونفي كل مكان.. حتى إنهم ليملؤون السجون!
الفسادونهب الأموال والتضييق على الناس، يلوح في كل وجه!
التبذيروإنفاق أنهار الأموال على بناء القصور الكثيرة والطائرات الفاخرة والعاصمةالجديدة!
نشرالانحلال الأخلاقي في الإعلام والأفلام والمسلسلات!
إقصاءالدعاة والصالحين والمصلحين.. وتقريب المنافقين والكذابين!
هدمالمساجد والمقابر التاريخية الإسلامية.. ثم تقنين الكنائس.. ثم تجديد المقابراليهودية والآثار الفرعونية!
وفوقهذا كله أمور ستهلك معها أجيالا كثيرة قادمة:
القروضالثقيلة التي تتراكم وتتزايد ولا تطيق البلد سدادها..
نهرالنيل الذي يضيع.. أو: ضاع بالفعل!!
الجزرالاستراتيجية التي كنا نملك أن نخنق منها إسرائيل.. بيعت!
حقولالغاز التي كان يمكن أن تكفي البلد، فسدت، ثم صرنا نستورد الغاز من العدو الذيقتلنا قديما، ويقتلنا الآن، ويعلن أنه ينوي أن يقتلنا ويطردنا غدا (من النيل إلىالفرات!!)
تهيئةالأوضاع لانتشار ميليشيات تابعة لإسرائيل على كل حدودنا: العرجاني في سيناء،حميدتي في السودان، حفتر في ليبيا.. إسرائيل تحاصرنا!!
ثم:غزة.. وما أدراك ما غزة.. ثم ما أدراك ما غزة.. كل مشهد من غزة يحكي قصة ويستحقمقالا طويلا وحده!!
هلتعرف بلدا في العالم ذبح الناس على حدودها ثم تركتهم يذبحون؟!!.. أو: أخذت من كللاجئ فيهم 5000 دولار لكي تسمح له بالخروج والنجاة من المحرقة؟.. واللاجئ يدفعهاويخرج بعد الإذن الإسرائيلي...
فكِّرفيما حولك، وأخبرني عن بلد تشددت في إغلاق حدودها وفي إنشاء جدار فولاذي يخترقالأرض، لكي تمنع المذبوحين المحروقين من النجاة!!
وهيفي الوقت نفسه.. تسمح لمن ذبوحهم بالدخول إليها بغير تأشيرة، وقضاء الصيف والعطلاتوالأعياد!!
هلمن عارٍ أشدُّ من هذا العار؟!!
هلرأيت دولة يوجد في خطها الأمامي تجاه عدوها مقاتلون باسلون أشداء استشهاديون، ثمتعمل هذه الدولة لإفنائهم وإنهائهم بدلا من دعمهم وتقويتهم وكسب النفوذ بهم؟!!
إنمحاولة سرد عناوين الجرائم التي حدثت وتحدث في البلد تستغرق وقتا طويلا، وستبدومملة للغاية.. مع أنها مجرد عناوين!!
(7)
بقيأن أخبرك عن الأمل الضعيف الذي وعدتك به..
هوأمل ضعيف، ولكنه موجود.. غير أنه لا يقوى عليه إلا ذو العزيمة القوية الشديدة..هذا الذي يتخذ قرارا يشتري به الآخرة ويبيع من أجلها الدنيا.. ولذلك لا يفعلهاالأكثرون.. بل يفعلها القلة!
لقدأخبرنا الله ورسوله عن قوم ينتقلون فجأة وفي لحظة واحدة من موقع الباطل إلى موقعالحق..
وكلماكان هذا الإنسان قويا وعريقا في معسكر الباطل، كان انتقاله إلى الحق أصعب وأشد..ولكنه كان انتقالا قويا.. من الحضيض إلى الذروة، في لحظة واحدة..
مثلسحرة فرعون.. كانوا قبل ساعة جزءا من نظام فرعون، يطلبون المال ويتآمرون علىموسى.. ثم وقعت المعجزة فآمنوا.. فتعرضوا للعذاب الفرعوني بعد ساعة.. فأصبحوا فياليوم التالي في الجنة!!.. ولا تزال قصتهم خالدة على لسان الناس بعد ثلاثة آلاف سنة،وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
مثلحبر اليهود، عبد الله بن سلام، الذي لما رأى النبي عرف أنه النبي الموعود، فأسلموترك كل ما كان فيه من رئاسة وجاه وعظمة، وكان مع النبي، وتحمل أذى اليهود وماأشاعوه عنه!
مثلالقائد الرومي جورج (جَرَجة) الذي جاء يقاتل المسلمين، فلما تكلم مع خالد بنالوليد، آمن، وانتقل إلى صف المسلمين، فقاتل معهم فقُتِل شهيدا!
مثلالحر بن يزيد، قائد القوة العسكرية التي جاءت تمنع الحسين من دخول الكوفة، فلمارأى أن والي الكوفة وجيشه يتآمرون على قتل الحسين ويرفضون أي حلول.. انتقل فقاتلمعه حتى قُتِل شهيدا!
والتاريخحافل بالتائبين.. غير أن أولئك المنتقلين من موقع السلطة والمكانة في الباطل كانواأعظم أجرا وأخلد ذِكْرًا.. وقد بلغ الرجل مرتبة سيد الشهداء إن هو قال كلمة حق عندسلطان جائر، فقُتِل لأجلها!
(8)
السؤالالذي يدور في الذهن دائما: وماذا أفعل؟ ماذا بيدي أن أصنع؟
والإجابةعن هذا السؤال أنت تعرفها أكثر من غيرك.. بل أنت الوحيد الذي يعرفها..
إذاكنتَ على العهد، ما زلت تفكر وحدك -أو مع الصديق المقرب منك- وتعرف أن الله يطلععليك ويراقبك ويعلم حقيقة نفسك.. فأنت أقدر الناس على إجابة هذا السؤال.
أستطيعأن أخبرك عن الحد الأدنى الذي يملكه كل أحد: لا تنفذ أمرا فيه اعتداء على الناس،لا تظلم أحدا، لا تطلق النار على أحد مهما كنت مضطرا لذلك (فلا عذر في القتل)..
هذاهو الحد الأدنى.. أما ما فوق ذلك من مراتب العمل، فأنت أعرف الناس به.
واللهيوفقك ويرعاك!!
وهذاهو الأمل الوحيد الضعيف.. وأما ما سوى ذلك، فوالله إنك لعلى خطر عظيم.. وما هي إلاساعات أو أيام.. وتنقضي هذه الحياة كلها، لترى نفسك في المصير الكبير الذي اخترتهبنفسك!
لادار للمرء بعد الموت يسكنها .. إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإنبناها بخير طاب مسكنه .. وإن بناها بظلم خاب بانيها
أموالنالذوي الميراث نجمعها .. ودُورنا لخراب الدهر نبنيها
August 3, 2025
سيد قطب.. وُضِع له القبول في الأرض!
سيد قطب.. رجل عاش القرآن بروح عالية وفكر محلق، ثم سكب معانيه بقلمأديب مشرق..
ثم قدم روحه ثمنا لكلماته، فكساها ألقالشهادة ورفعها لمرتبة السيادة.. فسيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه،فقتله..
(1)
لست أعرف رجلا وُضِع له القبول فيالأرض بين المسلمين على اختلاف بلادهم واتجاهاتهم كما هو الحال في الشهيد القرآني سيدقطب رحمه الله، فإن المسلمين وأهل العلم يُعَظِّمونه في بلادٍ ما أشد التباينبينها في فهم أهلها للإسلام وفي أخذهم به!
وأسوق على ذلك أقرب الأمثلة؛ فإن سيدًاكان مُعَظَّمًا في مصر والجزيرة العربية وفارس وأفغانستان وتركيا، وما أعجب هذاوما أغربه، فكيف يجتمع في تعظيمه أهل البيئة السلفية مع أهل البيئة الشيعية معالأحناف الصوفية الأشاعرة والماتريدية؟!
لقد ترجم كتبه إلى الفارسية رأسالشيعة: علي خامنئي، وأرسل يتشفع فيه رأس السلفية: عبد العزيز بن باز، وكانت تطبعكتبه في البلديْن العدوّين المختلفين في كل شيء: السعودية وإيران!!
وفي تركيا، حدثني الشيخ نور الدينيلدز، وهو ممن ترجم كتب سيد قطب إلى التركية أن الناس في تركيا، وفي الزمنالعلماني الذي كاد الدين يذبل فيها، قد انثالوا على بيته وحرصوا على مصافحته ولمسيده لما عاد من عمرة عرفوا أنه فيها التقى الشيخ محمد قطب، شقيق الشهيد سيد قطب!!
وإذا تركنا المتعصبين والمهاويس في كلاتجاه حركي، فلقد التقى على توقير سيد وتعظيمه الاتجاهات الحركية في بلدانهاالمتباعدة: الإخوان المسلمون والسلفيون والجماعة الإسلامية في الهند وباكستانوجماعة الدعوة والتبليغ، وكثير من المتصوفين!
ولدي انطباعٌ من طول القراءة للرجلوعنه، أتحوط الآن في تسجيله مستعملا ألفاظ الاستدراك، فأقول: كاد يكون الموقف منسيد قطب علامة ودليلا على موقع الرجل: هل هو في معركة الإسلام والأمة أم هوخارجها؟!
وأن يكون خارجها فليس يعني ضرورة أنهعدوٌ أو مفسد، فقد يكون كذلك، وقد يكون جاهلا أو مغفلا أو ساهيا لاهيا عن معركةالإسلام في هذا العصر. وذلك أني أفتش في رأسي فلا أكاد أعثر على رجل مهموم حقابمعركة الدين والأمة في هذا العصر إلا وكان له موقف يُعظِّم فيه سيد قطب ويحبه،مهما كانت عنده من ملاحظات جزئية وتفصيلية!
وأما رؤوس العداء لسيد قطب، أولئكالذين اتخذوه غرضا وهدفا، فما من شك في أنهم من أعداء هذه الأمة الصرحاء، سواءٌأكانوا عالمين بهذا قاصدين له، أو كانوا من الغباء والغفلة والجهل بحيث استعملهمأعداء الأمة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
إن من يقرأ في تراث الشهيد القرآني لايداخله شكٌّ في أن هذا العقل الكبير وهذا القلب الغيور وهذا القلم الأصيل قد استفرغوسعه في بيان محاسن الإسلام ونقض أباطيل الكفر والجاهلية، وأنه سعى ما وسعه السعيوانتهت به طاقة ذي القلم في أن يثير قلوب الناس ويستحث عقولهم ويوجِّه أبصارهم إلىهذا الحل الإسلامي الرباني، الحل الوحيد الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعالجما في حياتهم من المشكلات والمعضلات والعثرات.
فما يقرأ ذلك الكلامَ قارئ مخلصللإسلام إلا ويتسرب إليه حب الشهيد، ثم ما يطلع أحد على سيرته وحياته إلاويُعَظِّمه، فلك أن تعرف أنه كان رأس الوقوف في وجه الطاغية الجبار الذي خدعالملايين حتى محضوه حبا خالصا وشغفا جنونيا بفعل سحر الإعلام وطغيانه! أقصد: جمالعبد الناصر، الذي تهيأت له من الظروف ما لم يتهيأ مثلها لغيره حتى صار زعيم العربقاطبة في عصره، وكان لهم من الطغيان وضروب التوحش والتعذيب ما لم يكن للعرب عهد بهفي سائر تاريخهم. فالذي كان يعيش في زمانه إن كان عبقريا ذكيا قوي النظر فأفلت منطغيان سحره، فما كان أندر أن يكون روحا صلبة أبية صخرية فولاذية تتجرأ فتقتحممخاوف بطشه وتنكيله. ولذلك اختبأ أكثر الناس، ولم يُعرف في مفكري مصر ومثقفيها –علىكثرتهم- من تجرأ على الوقوف في وجه عبد الناصر إبان سطوته وجبروته، اللهم إلا سيدقطب!
ولقد قيَّض الله للشهيد من يحفظ إرثهحتى انتشر وطغا وذاع في العالمين، ولقد رأيت من كان يحفظ "في ظلالالقرآن" وهو أربعة آلاف صفحة من الصفحات الكبيرة التي ضُيِّق فيها الكلاموحُشِر، (وقد طُبع بأخرة في ستة آلاف صفحة)، وما ذلك إلا لأن الحملة كانت عاتيةعلى كتب الشهيد وتراثه، حتى قدَّر بعض الحريصين أنه لا بد من حفظه في الصدور!
(2)
مما يثير الألم في النفس أن يكون العدوالغريب أحسن فهما وتقييما لرجال الإسلام من أولئك المحسوبين المنسوبين للإسلاموالدين..
يذكر الشيخ فايز الكندري، الأسيرالمحرر من سجن جوانتانامو الأمريكي، أنه قد "صرح لي أحد المحققين بكل وضوح أنأخطر شخصية على الغرب خلال القرن الماضي هو سيد قطب".
وتلك شهادة خطيرة وعظيمة أيضا في حقالرجل، بل وهي مرتبة يتمناها المسلم، فأن تكون أخطر شخصية على الغرب إنما يعني -بالتعبيرالقرآني- أن تكون أكثر الذين يطئون موطئا يغيظ الكفار!
وليس هذا خافيا، ولا هو بالأمر الذييُقال في الدهاليز والأروقة فحسب، بل قد ذكر نفس هذا المعنى ثعلب السياسةالأمريكية الأشهر، هنري كيسنجر، ذلك المؤرخ والمفكر والسياسي الداهية الذي تولىمقعد مستشار الأمن القومي وظل مُعَظَّمًا فيهم إلى أن مات بعد أن جاوز المائة عام!
كيسنجر في كتابه "النظامالعالمي"، يرى أن الشهيد سيد قطب قدَّم الإجابة المفصلة عن الأسئلة التي لميُجب عنها حسن البنا، وأن إجابة سيد قطب هذه هي "الطبعة الأعمق والأكثرنفوذًا لهذه النظرة" الإسلامية الثورية. وقرر كيسنجر أن كتاب معالم في الطريقإنما "هو بيان حرب على النظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصًا تأسيسيًاللحركة الإسلاموية الحديثة".
ومضى كيسنجر يشرح التناقض الجذري بينالرؤية الإسلامية التي يقررها سيد قطب، وبين النظام العالمي القائم على مجموعة منالدول المعلمنة والمُقَسَّمة قوميا وعرقيا، فيقول:
"الإسلام، بنظر قطب، نظام كونيشامل يوفر الصيغة الصحيحة الوحيدة للحرية؛ التحرر من حاكمية بشر آخرين، عقائد منصنع الإنسان، أو "روابط دنيا قائمة على العنصر واللون، على اللغة والبلد، علىالمصالح الإقليمية والوطنية - القومية" (أي سائر الصيغ الحديثة الأخرىللحاكمية والولاء مع بعض ركائز بناء نظام وستفاليا). تمثلت رسالة الإسلام الحديثة،برأي قطب، في إطاحة ذلك كله والاستعاضة عنه بما عده تطبيقًا حرفيًا، عالميًا آخرالمطاف، للقرآن. وكان من شأن تتويج هذه السيرورة أن تتمثل بـ "بلوغ حريةالإنسان على الأرض - جميع البشر عبر كوكب الأرض". كان من شأن هذا أن يكملالعملية التي أطلقتها الموجة الأولى للتوسع الإسلامي في القرنين السابعوالثامن"، "العملية التي يجب أن تصل عندئذ إلى الجنس البشري كله في طولالأرض وعرضها، نظرًا لأن هدف هذا الدين هو الإنسانية كلها وفضاء حركته هو الأرضكلها"... كان قطب، ذو الاطلاع الواسع والشغف الشديد، قد أعلن الحرب على الوضعالعام - حداثة علمانية بفظاظة وتمزق إسلامي، كما جرى تصديقهما من قبل تسوية ما بعدالحرب العالمية الأولى الإقليمية في الشرق الأوسط... كتلة الأفكار هذه تمثل عكسًاشبه كلي وقلبًا لنظلم وستفاليا العالمي. لا تستطيع الدول، بنظر أنقى طبعات الحركةالإسلاموية، أن تكون المنطلق المناسب لأي نظام دولي لأن الدول علمانية".
ويحظى سيد قطب بأهمية خاصة لدىالغربيين، لا سيما الباحثين في الشؤون الأمنية والحركات الجهادية، وفي حدود مااطلعت وعرفت فقد ندر أن جرى تناول سيد قطب وفكره بإنصاف في الكتابات الغربية،والنادر هنا بمعنى أني بعد البحث والسؤال والتعقب لم أعثر إلا على خمسة بحوث غربيةقيل إنها تنصف سيد قطب، لكن لم يتيسر لي الاطلاع عليها.
(3)
بقي أن يُقال: هل كانت أفكار سيد قطبمتطرفة تخصه؟ أم هي الفكرة الإسلامية ذاتها قد عبَّر هو عنها، بلغته وأسلوبهوقلمه؟!
ليس أسهل من إجابة هذا السؤال منالإشارة إلى ما وُضع للشهيد وكتبه من الانتشار والقبول في الأرض، كما ذكرنا فيمطلع هذا المقال. إذ ليس يمكن أن يروج في عالم المسلمين ما هو شاذ عن دينهموإيمانهم وأفكارهم! لا سيما في هذه الأمة التي قدر الله أنها لا تجتمع على ضلالةوأن ما يكون حسنا فيها فهو عند الله حسن!
كذلك فقد ذكرنا أن كافة أهل العلمالمعتبرين الذين تكلموا في سيد قطب، فهم بين قسميْن: إما أنهم عظموه ووقروه بلاتحفظ، أو أن تحفظاتهم واختلافاتهم معه كانت في أمور جزئية يسع فيها الخلاف أوتُغمر في بحر فضائل الرجل! فيكون الرأي النهائي لهؤلاء الناس أن الرجل من أهلالإسلام بل من ساداتهم والمبرزين فيهم.
وأي شيء أبلغ في الشهادة للرجل أن نجدبعض أعدائه يسرق منه كلماته، كما فعل علي جمعة –المفتي الأسبق في مصر- وشوقي علام –المفتيالسابق- فقد رُصِد لكل منهم مقالات نقلوا فيها عن الشهيد دون أن يذكروا اسمه، ومافتئوا يطعنون فيه وفي أفكاره.
ومما ينبغي أن يذكر هنا، للدلالة علىالأمر، أن وزير شؤون الأزهر في الحقبة الناصرية، وهو نفسه أستاذ الفلسفةالإسلامية، الدكتور محمد البهي، سجل في مذكراته لقاءً له بعبد الحكيم عامر (أقوىرجل في مصر وقتها)، وفيها سأله عن رأيه في كتاب معالم في الطريق، فقال الرجل:"أجبته عن تقييمي لكتاب "معالم على الطريق" بأني كنت أتمنى أناالذي كتبته. هاج ووقف من جلوس. وقال: كيف تقول ذلك والصحافة كلها نددت به؟ قلت له:إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى. وما تقوله الصحافة عنه: شيء سياسي لادخل له إطلاقا في تقييمه".
وحتى الشيخ العلامة الكبير، فقيهالعصر، يوسف القرضاوي، مع ما كان له من الخلاف مع الشهيد، لم يسعه في الإجمال إلاأن يقول: "سيد قطب أحد عظماء الرجال في أمتنا,في تاريخنا الحديث والمعاصر, هو مسلم عظيم، إذا قِسْنا العَظَمة بمقياس الإنسانية,وهو أديب عظيم، إذا قِسْنا العظمة بمقياس الإبداع في الأدب والنقد الأدبي، وهوداعية عظيم، إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه، وهو عالم ومفكِّرعظيم، له أثره في العلم والفكر، إذا قسْنا العظمة بمقدار الاستقلال في الفكروأصالة العلم، وهو أيضًا مسلم عظيم، إذا قسنا العظمة بالبذل والتضحية في سبيلالله. وحسْبُنا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها".
بل حتى البيئةالسلفية التي يمكن القول بأنها أكثر البيئات العلمية تدقيقا في الألفاظ وعنايةبهذا الباب، إلى الحد الذي تقع فيه المغالاة، نجد عالما سلفيا كبيرا مثل الشيخ بكرأبو زيد، وفي مقام النقد والاستدراك –كما في كتاب: معجم المناهي اللفظية- لا يسعهإلا أن يجمل القول في الشهيد فيقول: "في كلام سيد قطب -رحمه الله- وفي بعضتصانيفه مما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيلتوضيحه للناس. ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية؛ ففي بعض المسائل الفقهيةكحديثه عن حق العمال في كتابه: "العدالة الاجتماعية" أخذ يكتب بالتوحيد،وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذهالخلفية في الواقع قد جدّد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنَّا نلمس أحياناًأن له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائلالتي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها".ولقد نقلتُ من هذا الموطن الذي هو في مقام الاستدراك والنقد، ولم أنقل من رسالتهالذهبية في الرد على ربيع المدخلي، فإن كلامه فيها كان في سياق إنصاف الشهيدوالتحدث بمآثره!
رحمالله الشهيد سيد قطب.. وبلغه منازل الصديقين والشهداء والصالحين.. وألحقنا به علىخير أجمعين!كان من تدبيرالله العجيب أن اخترنا موضوع هذا العدد من المجلة عن الشهيد سيد قطب لموافقة صدورالعدد ذكرى استشهاده، ثم بعدها بيومين فحسب جاء الخبر بموت ربيع بن هادي المدخلي،رأس الضلالة الذي اتخذ الشهيد سيدًا هدفا وغرضا، والذي كان رأس فرقة فتنة وضلالةالتي عرفت بالجامية وبالمداخلة. والزمان بيننا، وستكشف الأيام من الخبيث الذيسيذهب كلامه جفاء ويجتث من فوق الأرض، ومن الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض، ويؤتيأكله كل حين بإذن ربه!
فايز الكندري،البلاء الشديد والميلاد الجديد، ص211.
هنري كيسنجر،النظام العالمي، ص124 وما بعدها.
د. محمدالبهي، حياتي في رحاب الأزهر، ص133.
د. يوسفالقرضاوي، في وداع الأعلام، ص84
د. بكر أبو زيد،معجم المناهي اللفظية، ص211
July 4, 2025
إرث "شهيد" في صفحات "الصمود"
ما زلت بعد عشرة أيام من استشهاد الشيخأبي محمود نائل بن غازي لا أتمالك أعصابي لأكتب عنه كتابة مستقرة مطمئنة مفهومة،وفي كل لحظة كهذه أتذكر حكمة القائل: إنما الكلمات وسائل تعبير عن مشاعرناالصغيرة، فأما المشاعر الكبيرة فالكلمات دونها!
وقد عبَّر نبي الله موسى عليه السلامعن هذا المعنى حين كُلِّف بمخاطبة فرعون ودعوته، فقال عليه السلام {ويضيق صدري ولاينطلق لساني}، وطلب مؤازرة أخيه هارون لكونه فصيحا {وأخي هارون هو أفصح مني لسانافأرسله معي ردءا يُصدقني، إني أخاف أن يُكذّبون}، وقد أجابه الله لسؤاله {قال:سنشدّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما، بآياتنا أنتما ومن اتبعكماالغالبون}. فبهذا السلطان وبهذه المؤازة استطاع موسى عليه السلام أن ينطق بالدعوةويبينها وأن يجابه فرعون!
وأما من لم تسعفه الفصاحة، ولم يكن لهمن الله مثل هذا السلطان.. فما يستطيع أن يقول ما في نفسه.. وهذه حالي الآن، وحالهذه السطور!
(1)
وأبدأ بنفسي..
فإني في مقعد القاعدين أكون في حال منالحرج الشديد إذ أكتب عن المجاهدين.. وما أدراك ما حال القاعدين إلى حالالمجاهدين، إنما مثله ومثلهم كالذي يشير إلى الشمس وإلى القمر، فأين المشير منالمُشار إليه؟!! وما قيمة أصبع يرتفع ولسان يهتف إلى جوار النور الطالع والضياءالمشرق؟!
ينبغي للحياء أن يشملني، ولا بأس أنأقول صريحا: ينبغي للعار أن يجللني، إذ أكتب عن المجاهدين والشهداء.. ولكن: هل ليأن أمتنع؟!
هل أستطيع إذا طلب مني إخوانناالمجاهدون في الإمارة الإسلامية شيئا أن أمتنع؟!
فهل إن كان الذي طلبوه هو الكتابة عنأخي الشيخ الحبيب نائل بن غازي.. هل لي أن أمتنع؟!
ثم هل إن كان المطلوب في المقدور.. هليجوز لي أن أمتنع؟!
طلبٌ يطلبه مجاهدون، أن أكتب تقدمة عنشهيد، والكتابة أمر مقدور.. فما نفعي في الحياة إن امتنعت؟!
لَأَن أوصف بقلة الحياء وأنا أتقدم إلىالمقامات الرفيعة، أحب إلي من أن أوصف بالامتناع عن إجابة طلب السادة المجاهدين فيشأن السيد الشهيد!.. وما يجوز لعبدٍ إذا قيل له اجلس مع السادة إلا أن يقول: سمعاوطاعة.. حتى وإن عُدَّ جلوسه في تجاوز الحد، فالامتثال خير من الأدب..
(2)
وأثني بقول القائل: لا يعرف الفضللأهله إلا ذووا الفضل!
ما مرت عشرة أيام على استشهاد الشيخالحبيب أبي محمود، إلا وقد جَهَّز إخوته في الإمارة الإسلامية هذا الكتاب، وذاأمرٌ لم يبلغني أنه قد صُنِع مثله في ديار أخرى، وما في ذلك من عجب.. فالجهاد رحمبين أهله، وأهل الفضل أعرف بأهل الفضل..
وكما كان الشيخ أبو محمود منفعلا معقضايا المسلمين كلها، من أفغانستان إلى الشام إلى مصر إلى غيرها، فقد هيأ الله لهمن يجمع كلامه ليُنشر من بعده، فيتصل عمله ويمتد فضله ويتسع أثره وينتشر نوره،ويكون –إن شاء الله- من العلم النافع الذي يزداد به ميزان حسناته ويثقل على كرّالأيام ومرّ العصور.
لقد اتصل الفضل في هذا الكتاب بينالشيخ سعد الله البلوشي، سفير الإمارة الإسلامية في إندونيسيا، وبين أبي محمودنائل بن غازي.. وما هذا الاتصال إلا صورة مصغرة من اتصال الفضل والجهاد بين أنحاءالأمة وأرجائها.
إن انتصار المسلمين في مكان هو انتصارلهم في كل مكان، ليس على مستوى المشاعر وحدها، بل على مستوى الواقع والحقيقة..
ولو قَدَّرنا أن انتصار المسلمين فيمكان لا يؤثر على غيرهم إلا في باب المشاعر فحسب فإن ذلك أثر عظيم ليس بالهيّن،فإن أحوج ما تحتاج إليه أمة مهزومة مستضعفة مغلوبة أن تنتعش مشاعرها ويستيقظ الأملفيها وتثور صدورها وتزهر قلوبها، فإنما ذلك أول السعي وأول العمل وأول النصر!
وكم من يائس ومحبط وكئيب أشرقت نفسهوانبعث عاملا مجاهدا حين رأى غيره قد حاول ونجح؟! وكم من خائف جبان أقدم على العملالجرئ المدهش حين رأى مقداما جريئا يقتحم ويتقدم؟!.. إن جُلَّ الحياة مشاعر!..ولقد أوصانا نبينا بالانتباه لهذا، فقال: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أنتلق أخاك بوجه طلق"، وأمر بالصدقة ولو كانت "شِقَّ تمرة"، وكلهاأمور تؤثر في المشاعر لا تغير من الحقائق، وهو –صلى الله عليه وسلم- الذي قال:"إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
فالمشاعر وحدها أمرٌ عظيم.. وهي فيالأمة المكلومة المهزومة أعظم وأعظم!
على أن تأثير انتصار الأمة في مكان لايتوقف عند المشاعر وحدها، ولكن يتعداه إلى الحقائق.. وإن انتصار المسلمين فيأفغانستان ضد هذا الحلف الدولي الضخم الذي اجتمعت فيه قوى العالم لهو تغير فيميزان القوة، وتغير في وضع الهيبة والثقة، وتغير في خريطة العالم السياسية علىالحقيقة. إن كل عاملٍ لهذا الدين في مكان ما قد تأثر بانتصار أفغانستان.. إن قدرةالشعب الفقير المحاصر ومقاتليه البسطاء ذوي الصلابة تجعل النصر في كل مكان أقرب منطالبه، وكذلك فإن انسحاب عدو مثل أمريكا وحلفائها من أفغانستان ليجعل كل عدو غيرهاأهون منها!
ومثلما ألهمت أفغانستان غيرها، فقدفعلت غزة بطوفانها المبارك، وفعلت سوريا بانتصارها على الطاغية بشار الأسد، وتلكثمرات نجني بعضها، وسنجني بعد قليل بعضها الآخر.. فإن التفاعل مستمر، وإن الأمةتشاهد وترى، وهي تستوعب وتختزن!
وما من مستحيل بعد أن انتصرت طالبانعلى أمريكا!
وما من مستحيل بعد أن صفعت غزة إسرائيلأقوى صفعة في تاريخها، ولا تزال صامدة بعد ستمائة يوم في معجزة عسكرية لا مثيل لهابحساب ميزان القوة!
وما من مستحيل بعد أن سقط نظام بشارالمدعوم بطائفته وكتائب الشيعة وإيران وروسيا، بل لقد سقط في لحظة يعاد فيها تقبلهفي السياسة العربية الإقليمية!
ما من مستحيل بعد هذا كله.. لقد فعلتهذه الأمة المستحيلات!
ولكنه أمر لا يعرفه غير المجاهدينالعاملين.. ولا يستفيد منه ويجني ثمرته إلا الصادقين المطمئنين!
(3)
هذه أمة تفعل المستحيلات.. نعم! ولكنهاحين تفعله تقدم إلى الله صفوتها وطليعتها ونخبتها شهداء باذلين، صدقوا ما عاهدواالله عليه، واشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة!
مثلما تغنى أبو محمود بالملا محمد عمريوما ما، فها هو واحد من أبناء الملا محمد عمر يتغنى بأبي محمود ويجمع كلامه..
وأبو محمود ما أبو محمود.. وما أدراكما أبو محمود؟!
إن في نفسي وَجَلًا قديما وحياءً أنأبادر بالكلام مع المجاهدين، فكيف بأهل العلم منهم وشيوخهم؟!.. وما أتذكر أنيبادرت إلى ذلك مع أحد، فكل من أعرفهم من هؤلاء إنما كانت البداية منهم، فضلا منهمومنة وتكرما..
وهكذا عرفتُ أبا محمود!
كنت أرمقه من بعيد حتى ابتدأبالمراسلة.. ومن ها هنا اتصل أمري بأمره!
إن هذا الرجل الذي ترونه يخطب على المنابركأسدٍ هصور، يرعد ويبرق، يهدر وينذر، تراه في المراسلات والاتصالات الهاتفية طيفامن الحياء، ونسيما من الأدب، وسلسلا من الرقة، وروحا من الصفاء!
وإن هذا الأصولي القوي، والكاتبالبليغ، واللسان الفصيح، تراه إن اقتربت منه وتحاورت معه آية في التواضع، ومَثَلًافي خفض الجناح، وطيب المعشر!
ولقد كلمته في غضبه، بل في شدة غضبه،فكان يُلَمِّح ولا يُصَرِّح، وكان يتألم ولا يحب أن يتكلم، ودار الحديث بيننا حولعدد من الناس تخصصوا في الحط من شأن المقاومة وكانوا عليها لسانا سليطا حديدا، فماجاوز الرجل حدّ قول كلمة لا تليق به!
وعلى قدر ما كان قويا في ردّ الباطلودحض شبه المشككين كان رؤوفا رحيما بالأمة..
وقد شاء الله أن يُخرج منه أحسن ما فيهفي آخر أيامه.. فلقد كتب كثيرا عن "التربية بالأحداث"، فمزج فيها بينعلمه بالأصول، وعلمه بالتربية، وعلمه بالجهاد، وعلمه بالسياسة.. فردَّ على الغلاةوالجفاة، وردَّ على الخوارين والمثبطين معًا. فكأن هذا الطوفان كان التنور الذيأخرج من أبي محمود أنضج ما فيه وأطيب ما فيه.
وكانت آخر مكالمة لي معه قبل يومين مناستشهاده، ففي ذلك اليوم قُصِفت خيمته لكن أصيب فيها بعض أهله وجيرانه، وأشيع خبراستشهاده.. ولحيائي منه وخوفي عليه تتبعت الخبر من غيره حتى عرفت بسلامته ولمأراسله، فاتصل بي في هذه الليلة يطمئنني على نفسه ويخبرني بمن أصيب من أهلهوجيرانه.. فإذا بالذي هو في حومة الموت وفي غمرة الكرب يطمئنني أنا، فأي فضل وأيرفعة وأي مقام؟!
فلما عرفتُ أني منه قريب إلى هذا الحد،وسمعت نبأ استشهاده، بادرت فراسلتُه مطمئنا عليه، وهي الرسالة الوحيدة التي لميرها، فلقد صحَّ الخبر عنه هذه المرة، واستشهد وارتقى مع أهله وولده إلى الجنةبإذن الله..
وإن ربنا الرؤوف الرحيم قد اختار لأبيمحمود ميتة لو أن الناس يختارون ميتاتهم لما اخترتُ سواها، ولكنها دالة بإذن اللهعلى مقامه عند الله.. فقد اجتمع له شرف المعركة وشرف الزمان وراحة البال.. فانظروتأمل!
1. فأما شرف المعركة فلقد ارتقى أبو محمودشهيدا في معركة هي من أخلص المعارك وأوضحها وأسطعها، معركة لا يمتري فيها مؤمن،ولا يتشكك فيها عاقل.. معركة حق وباطل! ثم هي معركة في أكناف بيت المقدس.. مسرىالنبي وموضع صلاته إماما بالأنبياء، فهي ليست مجرد قطعة من أرض الإسلام، بل هي فيأرض الإسلام البقعة المقدسة المباركة! ثم هي معركة مع أعداء الله، وأعداء ملائكته،وأعداء رسله الذين عُرفوا بقتل الأنبياء، وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا!
2. وأما شرف الزمان فقد ارتقى في يومالجمعة، وهو خير أيام الأسبوع.. ثم كان يوم جمعة من الأيام العشر من ذي الحجة التيهي أفضل الأيام عند الله.. والغالب عليه أنه مات صائما، فما كان مثله ليُفطر فيأيامٍ يعرف فضلها، وفي حالٍ من المجاعة التي تسود غزة حتى يضطر فيها إلى الصوم منتعود الفطر!
3. وأما راحة البال فقد ارتقى هو وأهلهجميعا.. هكذا في لحظة واحدة، نُقلوا من دار الشقاء إلى دار السعادة بإذن اللهتعالى. لم يبق منهم من يحزن على من مات! ولم يخشى أحدٌ ذهب على من بقي.. وتلكلعمري ميتة يحبها كل عامل –ولعله كل عاقل- في هذا الزمان!
رحم الله الشيخ الشهيد أبا محمود نائلبن غازي مصران، ولا حرمنا الله أجره ولا فتننا بعده، وغفر لنا وله.. اللهم آجرنافي مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليهراجعون!
وحفظ الله الشيخ سعد الدين البلوشي،وجعله عمله هذا في ميزان حسناته..
وأكرمنا وإياكم بالشهادة في سبيل الله،مقبلين غير مدبرين ولا مبدلين ولا خزايا ولا مفتونين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
محمد إلهامي
اسطنبول
15 ذي الحجة 1446ه = 11 يونيو 2025م
June 6, 2025
أمة تحج وتجاهد.. وكاتبون وكتائب.. ومداد ودماء!
تلك خمسة أمورقد اجتمعت، فتمثل فيها اجتماع الحاضر بالتاريخ، والنازلات بالذكريات، والخاصبالعام.. فتأمل!
(1)
أتم الله الكريم نعمته على عباده، وهذاالعدد من مجلة "أنصار النبي ﷺ" هو بداية عامها الرابع، فنسأل الله تباركوتعالى أن تكون عملا طيبا وأن يكون ما بثته من العلم علما نافعا خالصا لوجههالكريم.
وتلك المجلة، هي جندي في كتيبة"الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ"، وقد جرى تأسيسها وإطلاقها قبل ثلاثسنوات من الآن، ضمن السياسة العامة للهيئة، والتي تبتغي أن تكون نصرة النبي ﷺ عملادائما لا موسميا ولا ردة فعل.
وقد ابتدأت المجلة بثلاثة أقسام، وهيالآن مع انطلاقتها الرابعة تصل إلى سبعة أقسام..
بدأنا بثلاثة أقسام، هي: قسم يكتبهعلماء الهيئة ومن سواهم من العلماء وأهل الفضل. والقسم الثاني "أئمةالهدى" تخيرناه من كتابات العلماء والدعاة الراحلين في القرنيْن الأخيريْن،أولئك الذين هم جمٌّ غفير وجليل ولكنه مهضوم الحق في عالمنا المعاصر الذي لا تحتفيفيه الدول بأهل العلم ولا بتراثهم وذكراهم. والقسم الثالث "الصادعونبالحق" تخيرناه من كتابات العلماء والدعاة الأسرى الذين كلفتهم كلمة الحقمعاناة الأسر، فأخذنا على عاتقنا أن نذكر بهم ونبث صوتهم وننشر إنتاجهم.. وما أكثرأهل الفضل الأسرى في بلادنا.
واليوم مع انطلاقة العام الرابع قدأضيفت إلى مجلتنا المباركة أقسام جديدة، وهي:
قسم "سفراء النبي ﷺ"، وفيهننشر مقالات السادة الأفاضل الذين أخذوا على عاتقهم أن يكونوا ممثلين للهيئةالعالمية لأنصار النبي ﷺ في بلدانهم، وأن تكون مهمتهم في ديارهم هي بث فكرة النصرةومعانيها وواجباتها، وللهيئة العالمية الآن شبكة من السفراء الذين يحملون هذهالمهمة، بلغوا ثمانين سفيرا في خمسين دولة، وما زال العدد يزداد، وما تزال مهمةنصرة النبي ﷺ والتعريف به تحتاج إلى المزيد.
وقسم "بصيرة"، وفي هذا القسمنقتطف بعض ثمرات من إحدى مشاريع الهيئة العالمية، وهو مشروع "بصيرة"الذي يعني بهداية غير المسلمين، من خلال تعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه وإدخالهمفيه، ثم إدراجهم في مستويات تعليمية لتعلم الإسلام. وهذا المشروع يقوم الآن علىثلاث لغات، ويجتذب إليه شهريا نحو مائة مسلم جديد. فطلبنا إلى بعض هؤلاء المهتدينكتابة قصص اهتدائهم، وما الذي جذبهم في الإسلام وكيف دخلوا فيه، وعزمنا أن ننشربعض هذه القصص فإنها مما يحيى النفوس، ويحفز الدعاة، وينشر بركة الدين للقارئينوالسامعين.
وقسم "المنصفون"، وفيه عزمناعلى أن ننشر مقالات لبعض من أنصفوا النبي ﷺ من غير المسلمين، سواءٌ أكانوا منالمستشرقين أم من العرب والمشارقة غير المسلمين، فإن "الفضل ما شهدت بهالأعداء"، وإن الشهادة أبلغ ما تكون حين يشهد "شاهد من أهلها"، وكثيرٌمن أبناء المسلمين لا يعرفون ما هم فيه من النعمة لكونهم نشؤوا ودرجوا في رحابالإسلام وظله، فالنعمة عنها معهودة معتادة، ولكن غير المسلمين الذين نشؤوا فيالجاهلية وخبروها يستطيعون من موقعهم هذا أن ينتبهوا في محاسن الإسلام إلى ما لاننتبه له نحن المسلمين.
ثم نختم بقسم بريد القراء، وهو القسمالمفتوح لمن شاء من قرائنا الكرام أن يشاركنا بما تجود به قريحته، وما يسيل بهقلمه!
وما زلنا في إطار التفكير والتخطيطلأقسام أخرى، مثل: قسم للأطفال والناشئين، وقسم للغات الأخرى غير العربية.. ومانزال نحتاج من عموم القارئين دعمهم وإسنادهم: بالدعاء أولا وآخرا، وبالنشروالترويج للمجلة، وبترجمتها إلى غير اللغة العربية ليتسع انتشار ما فيها من الخيرفيكون ذلك في ميزان حسنات من ترجمها، وبما سوى ذلك من أنواع الدعم والمساندة..وأجر ذلك كله عند الله!
فالآن يرى القارئ هذا العدد الجديد، فيثوب مختلف قشيب، سائلين الله عز وجل أن يبلغ عنا وأن يجعل ذلك كله خالصا لوجههالكريم.
(2)
قبل أيام من صدور هذه المجلة، نفذالصهاينة اقتحاما جديدا للمسجد الأقصى المبارك، ومَكَّنوا قطعانا من المستوطنين منإقامة شعائر تلمودية في ساحته، وتبع ذلك كله احتفال وهيجان، وفيه قام أولئكالصهاينة –لعنهم الله- بسبٍّ جماعي لنبينا المعظم الأكرم ﷺ.
وبعدها قام أحدهم في الكنيست ليسخرهازئا من أجهزة الأمن الإسرائيلية التي كانت طوال سنوات سابقة تمنع المستوطنين منتنفيذ مثل هذه الشعائر، وتبرر ذلك بأنه لو صلى يهودي واحد في المسجد الأقصى لانفجرالشرق الأوسط كله. يقول هذا بين الشماتة والسخرية: ها قد صلى آلاف اليهود وليسيهوديا واحدا ولم يحدث شيء!
لم يعد مشهد اليهود وهم يقيمون صلواتهمفي الأقصى، ولا مشهدهم الجماعي وهم يسبون نبينا ﷺ مشهدا جديدا، لقد صار مشهدامتكررا..
وهو مشهدٌ يخبرك بحقيقة الحال الذيوصلنا إليه، وعلى الأخص والأدق: وصلت إليه هذه الأنظمة العربية والإسلاميةوحُكَّامها. ذلك أنه يُمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزة ضعيفة لا تقوى على مجابهةالصهاينة ومواجهتهم وإيلامهم. وليس هذا التفهم بعذر أبدا، فإن أغلب هؤلاء الحكاممستقرون في بلادهم وممالكهم منذ سنين: عشر سنين وعشرين سنة وربع قرن ويزيد، فلوكان فيهم مخلص صادق يعمل بجد على نهضة بلده وشأنه ليجعل منها قوة حقيقية غيرمستذلة ولا مرهونة للصهاينة، لكان الآن في حال آخر يتمكن معه من الأخذ والردوالمساومة والقول والتهديد! غير أنهم لما كانوا خالين من الوطنية والانتماء فإنبلادهم زادت بهم ذلا وخزيا وعارا!
أقول: يمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزةعن تهديد الصهاينة ومنعهم من تدنيس الأقصى ومن سبّ النبي الأكرم ﷺ، فهل يمكن إذنتفهم أن تستمر العلاقات السياسية والاقتصادية بينهم وبين الصهاينة بعد هذا كله.إنه لو كان عندهم دينٌ يحركهم، أو كانت في قلوبهم محبة حقيقية للنبي ﷺ، لظهر ذلكعلى تصرفاتهم وسلوكهم.
لكن العجيب الغريب، وما هو بعجيب ولاغريب على من يعرف حقيقتهم، أن تلك الأنظمة وهؤلاء الحكام –ومنهم اثنان ينتسبانبالنسب إلى النبي ﷺ، وما هما من أهله- يزيدون في التعاون مع الصهاينة رغبا ورهبا،إيمانا واحتسابا.. فأحدهما يواصل إمداد الصهاينة بما يحتاجونه من غذاء وسلع وأجهزةعبر معابره المفتوحة للبضائع المغلقة على المُقاومين، والثاني يستقبل لهم السفنالتي تحمل الأسلحة والذخائز القاتلة للمسلمين فينزلها في موانئه للتزود بالوقودوالصيانة ولوازم استكمال الرحلة! ثم هو الآن ينفذ معهم تدريبات عسكرية مشتركةيُطوِّرون فيها قدراتهم على قتل المسلمين في غزة!
إنها حوادث كاشفة فاضحة، والحديث عن أنهؤلاء الحكام مثلهم مثل الظلمة الجائرين من حكام المسلمين قديما هو حديث خرافة،فلا نعرف في أخبار السابقين –من الجائرين الظالمين- من كان يُجهَر بسبِّ النبيأمامه ثم هو لا يزال يوالي عدو الله وعدو رسول الله، ويحرص على إمداده بما يحتاجمن مال وسلاح ومؤامرات!
وذلك الحال يضع على عاتق العلماء وعاتقالشعوب مهمة ثقيلة ثقيلة في ضرورة إزاحة هؤلاء وإقصائهم وعزلهم وخلعهم عن مناصبهم،إن لم يكن بالواجب الشرعي الذي يستشعره المسلم دينا ويُحاسب عليه في الآخرة،فلضرورة الحياة الكريمة الطبيعية في الدنيا، وهي الأمر الذي يحرص عليه حتىالعلماني الذي لا يطلب إلا الدنيا.. فإن استمرار هؤلاء الحكام، وإن انكسارالمقاومة في فلسطين، سيجعل هؤلاء الصهاينة يتمددون ليسبوا رسول الله ﷺ في الأزهرالشريف وفي الجامع الأموي وفي المسجد النبوي.. كيف لا، وهم يعلنون أن أرضهم تمتدمن النيل إلى الفرات؟!!
إن الحفاظ على الحياة الدنيا، حتى لمنلم يرد إلا الحياة الدنيا، له ولأبنائه من بعده، لتدفعه دفعا نحو مكافحة هذهالصهيونية السرطانية الخبيثة أن تتمدد إلى ما سواها من البلدان! وهي مكافحةٌ منضروراتها وحتمياتها ولوازمها: إغاثة المقاومة في فلسطين بكل سبيل، وإزاحة هذهالأنظمة بكل سبيل أيضا.
(3)
وحيث وصلنا إلى ذكر الصمود وضرورته..فإنه تظللنا في هذه الأيام ذكرى فتح القسطنطينية، التي فُتحت في 29 مايو 1453م، قبلحوالي خمسة قرون وسبعين عاما. وفي هذه الذكرى صمودان يستحقان التوقف عندهما توقفامليا..
أما الصمود الأول فهو صمود القسطنطينيةذاتها، لقد صمدت أمام المسلمين ثمانية قرون، ولم يستطع المسلمون فتحها لا في عهدالأمويين ولا العباسيين، ولو أنها فُتِحَتْ في الموجة الأولى للفتوح لكان التاريخقد انقلب وكان الإسلام قد عمّ أوروبا كلها خلال قرن أو اثنين على الأكثر!
لكن صمود هذه المدينة، التي كانت قلعةالمسيحية الأرثوذكسية العتيقة، لثمانية قرون وفَّر الفرصة لأوروبا، وللمسيحيةالغربية أن تقوى ويشتد عودها وتنبت لها قرون أخرى من القوة وعواصم أخرى فتيةتستكمل مهمة مواجهة الإسلام. فعندما انهارت القسطنطينية لم تنهَر العقبة النصرانية،بل بعد سقوطها بأربعين سنة فقط كانت قوة النصرانية في إسبانيا تستكمل طرد المسلمينمن الأندلس، وتكتشف الأمريكتين وتحوزها، وتلتف لتحتل بلاد المسلمين في غربيإفريقيا وشماليها وجنوبيها وجنوبي آسيا! وكان لذلك كله نتائج كارثية على المسلمينلا تزال حتى الآن.
وأما الصمود الثاني فهو صمود محمدالفاتح نفسه وإصراره على فتح المدينة العنيدة، كان إصرار الفاتح على فتحالقسطنطينية لا يهتز، ومع أنه لقي في حرب فتحها من العنت والشدة والإخفاقات مايجعل أي متابع يفكر في تأجيل المعركة وإعادة الكرة بعد فترة، وهو الأمر الذياقترحه عليه فعلا بعض وزرائه وقادة حربه، ولكنه أبى وبشدة.. وبسبب هذا الإصرارالملح على فتح هذه المدينة، فتح الله عليه بالفكرة العبقرية غير المسبوقة ولاالملحوقة، وهي تسيير السفن فوق الجبل للنزول بها في خليج القرن الذهبي وتجاوز عائقالسلسلة الحديدية التي تغلق مجرى المضيق، وبهذا تم له الفتح!
إن الصمود في موقف واحد قد يغير خريطةالتاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد.. وكذلك الصمود في موقف مقابل قد يحفظ خريطةالتاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد..
ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة على هذا..إن التاريخ ينقلب وتتغير مساراته بالمعارك، والمعركة الضخمة هي سلسلة من المواقف،وقد يكون الرجل الواحد في الوقت المناسب والمكان المناسب فارقا في حركة التاريخ..
هذا ما تصنعه الآن غزة.. وهذا ما تفرطفيه الآن سائر الدول العربية والإسلامية! فلغزة كل ما ينبني على المعركة من الأجروالفوز والظفر، ولهؤلاء المتخاذلين كل ما سينبني عليها من الفوت والخسارة والفرصةالثمينة الضائعة!
(4)
وما دمنا في حديث الذكريات التي تفرضحضورها في الواقع، وفي الواقع المرّ الذي يجذب أشباهه من الماضي، فقبل نحو ألف سنةإلا خمسين عاما، وفي مثل هذا الصيف كان الشام يعيش آخر صيفٍ إسلامي قبل أن تجبههالحملات الصليبية..
ويكفي للقارئ أن يعلم من ذلك التاريخشيئا واحدا واضحا: إن الحملات الصليبية التي غيرت التاريخ ولا تزال حاضرة وحية حتىالآن، إنما هي ثمرة لنجاح حملة صليبية واحدة هي الحملة الأولى.. وأما بقية الحملاتالصليبية السبعة فكلها قد فشل وعاد مهزوما!
لكن انتصارهم الأول وهزيمتنا الأولىشجعهم وحرضهم على المحاولة المستمرة لثماني مرات أخرى عبر قرنين من الزمان.. لقدكشفت الهزيمة الأولى أمام الحملة الصليبية الأولى أننا أمة ضعيفة ممزقة يمكن أنتُهزم ويمكن أن ينتزع منها بيت المقدس!!
ولو استطاع المسلمون يومها صدّ هذهالحملة الأولى ودحرها فأقل الأحوال أن أوروبا كانت سترجع عن فكرة الحملات الصليبيةلقرن واحد على الأقل، قبل أن ينسيها هذا القرن الذكرى ودرس الهزيمة لتحاول مرةأخرى.
والقارئ لتاريخ الحملات الصليبية يعرفجيدا أن هزيمة هذه الحملة الصليبية الأولى كان ممكنا غاية الإمكان، ولولا ما كانفيه المسلمون من التفرق والتمزق لاستطاعوا إبادتها بسهولة، ولقد سنحت فرصٌ كثيرةلإبادة هؤلاء ولكن فشلت جميعها لا لفارق القوة ولا العدد، بل لشيوع التنازع والتحارببين المسلمين، وتلك تفاصيل مريرة لا يتسع لها المقام، وكلها تفاصيل مؤلمة ومحرقة!
الحرب بين قلج أرسلان والحكيمالدانشمند مَكَّنت الصليبيين من احتلال عاصمة السلاجقة المسلمين في آسيا الصغرى ثماخترقوها إلى أنقرة، ثمانية أشهر صمدها أمير أنطاكية يطلب نجدة المسلمين فلمينجدوه مع أن الصليبيين الذين يحاصرونه قد هلكوا من الجوع، وهو نفسه هذا الأمير لوصمد ثلاثة أيام أخرى فحسب لكان قد رأى جيش الموصل قد وصل، وجيش الموصل نفسه لو لميكن تلكأ لكان قد وصل قبل سقوط أنطاكية، ولو أن قائده لم يكن عنيدا متعجرفا لكانقد انتصر على الصليبيين واستعاد منهم أنطاكية بعد أيام من اقتحامها، ولو أنالعلاقة بين قائده ورجاله، أو بين قائده وبقية الأمراء في الشام كانت أحسن حالالاستطاع سحق الصليبيين، وإنقاذ الشام كله.. ومائة "لو" تخبر بها كتبالتاريخ، كانت الواحدة منها لتحفظ بلاد المسلمين من هذا الشر المستطير الذي سُفكتفيه ملايين الدماء وما لا يعد ولا يحصى من الخسائر الأخرى، ولا تزال أمتنا حتى يومالناس هذا تدفع أثمانا كانت بدايتها تلك الأيام من الحملات الصليبية.
إن في قصة هذه الحملات وفي قصتناالمعاصرة شبه كبير.. سواء في البطولة أو في الخيانة، في العدو وفي الصديق، فيالشعوب وفي الحكام، في الغرب وفي الشرق..
وهذه المعركة القائمة في غزة تخبرنا أنالطرف الذي سينتصر فيها سيفتح لنفسه صفحة قوية في التاريخ.
(5)
يجتمع هذا الماضي وهذا الحاضر بالعبادةالسنوية المتجددة والمستمرة.. الحج إلى بيت الله الحرام.. وبهذه الأيام العشرالأوائل من ذي الحجة، والتي هي أفضل الأيام عند الله، والتي ما من أيام العملالصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه العشر!
وإن من الفقه العميق الذي يخبرك عنذكاء الصحابة هو سؤالهم هذا الذي سألوه لما سمعوا هذه المعلومة، قالوا: ولا الجهادفي سبيل الله؟!
لقد كان القوم يفقهون ويعرفون أنالجهاد هو ذروة الأعمال كلها، وهو قمتها السامقة، ولقد أخبرهم النبي أن ذروةالجهاد وصورته النهائية هي التي تعدل العمل الصالح في هذه العشر، وهي صورة الرجلالذي ضحى بنفسه وماله وكل ما عنده في سبيل الله!
وبه نعرف أن الجهاد في هذه العشر هوذروة ذرى الأعمال كلها، وأن من أتيح له الجهاد فيها فقد حاز الشرف الذي لا يُطالولا يُرام.
إن في هذه الأمة أصولا وجذورا وبذوراتعيد بها وفيها إحياء نفسها، وهذا الموسم العام الذي يعم الأمة (العشر الأوائل)،وتلك العبادة التي يجتمع إليها المسلمون في مكان واحد من كل فج عميق، هذا الموسموتلك العبادة هي الأصول والقواعد التي تجدد الأمة فيها نفسها.
فالذي يصلي في المسجد الحرام أو المسجدالنبوي لا بد أنه سيتذكر المسجد الأقصى!
وأولئك الذين اختلفوا في كل شيء ثم لميجتمعوا هنا إلا للإسلام ستنبت فيهم –شعروا أو لم يشعروا- أنهم أمة واحدة عصية علىالتقسيم والتمزق، حتى لو ارتفعت الأسوار وتكاثرت الحدود!
والذي يخلع الثياب ليبقى في ثوبين،ويرجو الله والدار الآخرة، تُنْزَع من نفسه شدة التعلق بالدنيا، ليعرف أنه فيهاعابر زائل، وأنه لن يبقى له في مثل يوم الحشر هذا إلا عمله الصالح!
والذي يرى حوله الألوان والأشكالواللغات العديد وقد صاروا إخوانه من حوله، يعبدون الله كما يعبد، ويطوفون كما يطوفويسعون كما يسعى.. الذي يرى هذا لن يستطيع أن ينسى إخوانه الذين يعانون في البلادالقريبة والبعيدة!
الحج هو طاقة الشحن الإيمانية السنويةالتي تحيي في عروق هذه الأمة كافة ما أريد لها أن تنساه وأن تهجره.. وبه يظلالإسلام عميقا متجذرا، ناضرا متجددا، مزهرا متوردا.
وقريبا تجتمع الكتائب كما اجتمعالحجيج.. وقريبا يتحرر الأقصى ويُصلى فيه كما صُلِّي في البيت الحرام.
May 4, 2025
الخديعة العظمى.. الدعاة على أبواب جهنم!
ما إن أصدرالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فتواه الأخيرة حتى انبعثت أبواقٌ آثمة مجرمة تنهشفي الاتحاد وعلمائه وترميهم بأنواع الزور والبهتان، وبعض هذه الأبواق لبث الثوبالشرعي واستعمل في مضادة فتوى الاتحاد لسان أهل العلم وألفاظهم، فويلٌ لهم مماكتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون!
وما كانت فتوىالاتحاد العالمي شيئا جديدا، بل لقد يُقال إن الفتوى تأخرت كثيرا، فلا تزال الحربمشتعلة في غزة منذ عام ونصف العام، بل هي جارية لا على أصول الشرع ومعهود قولالعلماء فحسب، بل هي امتداد طبيعي لفتاوى المؤسسات العلمية الرسمية ذاتها قبلسنوات. وللتدليل على هذا فقد خصصنا قسم الراحلين من عدد المجلة هذا لفتاوى الأزهرالشريف في ذات الشأن، وفيه ترى أن فتوى الاتحاد العالمي لا تخالف ألبتة فتاوىعلماء مشيخة الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، بل إن فتوى الاتحاد في بعضوجوهها أقل لهجة وصرامة من فتاوى هؤلاء السابقين.
من رأىانتفاضة أبواق السوء هذه، أو من يسميهم شيخنا القرضاوي رحمه الله "علماءالسلطة وعملاء الشرطة"، يحسب أن الاتحاد قد جاء بشيء جديد مستنكر، وما كانتفتوى الاتحاد إلا أنها تعلن وجوب الجهاد على الدول الإسلامية في فلسطين، ووجوبإمداد المجاهدين بالمال والسلاح اللازميْن لهم في معركتهم الإسلامية الخالصة، وفيالامتناع عن التعاون مع الصهاينة وإمدادهم بالمال أو السلاح أو الطعام والشراب..وذلك كما ترى أقل الواجب الذي على المسلمين لإخوانهم المذبوحين.
ولستُ في هذاالمقام بوارد التعليق على هذه الفتوى ونصرتها، وإنما أريد أن أبذل للقارئ شيئا منباب التاريخ يزيد في وضوح الحالة التي نحن فيها، والتي توضح لماذا انتفضت أبواق السلاطينفزعا لهذه الفتوى الطبيعية.. فأعرني سمعك وبصرك وعقلك وقلبك!
(1)
رسم لنا النبيمراحل تاريخ الأمة في خمسة مراحل كبرى، كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه، قال:قال رسول الله ﷺ:
«تكون النبوةفيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة علىمنهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها،ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أنيرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاءأن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة»().
والمُلكالعضوض، أي: يصيب الرعية فيه عسْفٌ وظُلْم، كأنَّهم يُعَضُّون فيه عَضًّا().وأما الملك الجبري، فهو القهر والعتو والجبر، من الجبروتية والعظموتية والعلُوّ،إذ يغلب الظلمُ والفساد().
وهذا الحديث،كغيره من أحاديث الفتن، قد وقع الخلاف بين العلماء في تفسيره وإيقاعه على المراحلالتاريخية للأمة، ولكن يكاد أن يتفق العلماء المعاصرون على أن:
- المُلك العضوضهو الذي يمتد من بداية الدولة الأموية مع عهد معاوية رضي الله عنه، وحتى نهايةالدولة العثمانية وسقوط الخلافة
- الحُكم –أوالمُلك- الجبري هو الذي تعانيه الأمة بعد سقوط الخلافة، وحتى الآن.
ولهذا يستبشرالمعاصرون بأن المرحلة القادمة هي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة.
ويُساعد علىصحة هذا الفهم، ما جاء في كثير من الروايات الأخرى، من أوصاف إضافية لفترة الملكالعضوض والحُكْم الجبري، والروايات وإن كانت لا تخلو من ضعف على جهة الرواية، إلاأن انطباق وصفها على أوضاع هذه الأحقاب يحمل على تصديقها، فمن ذلك مثلا:
1. حديث أبيعبيدة بن الجراح أنه ﷺ قال: «إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائناخلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلونالفروج والخمور والحرير»().
ففي هذاالحديث المراحل الأربعة متطابقة مع حديث حذيفة، وزاد في التفصيل على ذلك أن مرحلةالمُلك العضوض خيرٌ من مرحلة الحكم الجبري الذي وصفه النبي بـ «العنوة والجبريةوالفساد في الأرض»، كما يزداد فيه الابتعاد عن الشريعة أو تركها، حتى يصير الزناوالخمر والحرير حلالا، إما بالاستحلال: أي أن تكون مباحة ومُقَنَّنة (وهذا هو نبذالشريعة والانخلاع منها)، أو أن يكون الاستحلال كناية عن كثرة الممارسة (وهذا هوالاستخفاف بالشريعة والاستهانة بأحكامها)، وهذا الوصف يدل في نفسه على أن مرحلةالملك العضوض لم تكن على هذه الصفة، كما يدل على أن أسوأ المراحل التي يمر بهاتاريخ الأمة هو مرحلة الجبرية.
وهذا الأمرسيزيد تفصيلا في الحديث التالي، وهو:
2.حديث ابن عباس أنه ﷺ قال: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكونملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون()عليه تكادم الحُمُر، فعليكم بالجهاد». وفي رواية: «ثم جبروتا صلعاء()يتكادمون عليها تكادم الحمير». وفي رواية: «ثم جبروت صلعاء، ليس لأحد فيهامتعلق، تضرب فيها الرقاب، وتقطع فيها الأيدى والأرجل، وتؤخذ فيها الأموال»().
ويُروى هذاالحديث موقوفًا على عُمَر كما عند أبي نعيم والحاكم، ولكن وقفه أو رفعه لا يؤثرهنا، فإن الحديث من علم الغيب الذي لا يرويه الصحابي إلا على جهة سماعه من النبيﷺ، فليس هو من باب الرأي.
وفي هذاالحديث نرى أن مرحلة الملك العضوض وُصِفت بالرحمة، بينما وُصِفت مرحلة الملكالجبري –أو: الحكم الجبري- بتشبيه فظيع، وهو الجبروت الواضح الظاهر الذي تُضرب فيهالرقاب وتُقَطَّع فيه الأيدي والأرجل، وتؤخذ فيه الأموال؛ أي أنه عصر قتل وترويعوإذلال.
3. حديث جابرالصدفي عن أبيه عن جده أنه ﷺ قال: «سيكون بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومنبعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي، يملأ الأرضعدلاً كما ملئت جورًا»().
وهذا الحديثيسرد ذات الترتيب، مع تفصيل زائد في مرحلة الأمراء والملوك، فكأنه ﷺ يشير بها إلىعصر الفتنة، حيث استقل بعض الأمراء بما تحت أيديهم، كما فعل معاوية بالشام ثمبمصر، وكما فعل مروان بن الحكم بالشام أيام عبد الله بن الزبير، ثم اجتمع الأمرمرة أخرى للملوك. ومن بعد الملوك الجبابرة، الذين هم أصحاب المُلك الجبري، ثم يأتيبعدهم المهدي الذي يملأ الأرض عدلا، فتكون خلافته هي الخلافة الأخرى التي هي علىمنهاج النبوة.
وهذه الأحاديثالأربعة هي وصفٌ عجيب ودقيق لأحوال عصرنا، عصر الجبرية، والفارق بينه وبين عصرالملك العضوض، الذي كان عصر رحمة وإن شابه فساد وانحراف عن الخلافة الراشدة!
وتتشابه هذهالأحاديث مع أحاديث أخرى صحيحة، لكن لم يرد فيها وصف المُلْك العضوض أو الحكمالجبري، من أهمها: حديث حذيفة بن اليمان، يقول:
«كان الناسيسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسولالله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال:قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم،دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا.قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزمجماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلكالفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»().
فهنا يظهرالتناظر واضحا بين هذا الحديث، وبين حديث الخلافة والملك العضوض والجبرية:
- فالخيرالأول هو النبوة والخلافة الراشدة
- والشر الأولهو عصر الفتنة بين الصحابة
- ثم يأتيالملك العضوض وهو الخير الذي فيه دَخَن، حيث لم يلزم الملوك سنة النبي ﷺبحذافيرها، لكنهم ظلوا قائمين بالحق في أبواب أخرى، ولذا وُصِفوا بهذا الوصف «يهدونبغير هديي، تعرف منهم وتنكر»
- ثم يأتيبعدهم الشر الكبير، وهو المُلك الجبري أو الحُكم الجبري حيث وُصِفوا في هذا الحديثبأنهم «دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، وهم أيضا: «من جلدتناويتكلمون بألسنتنا». وهذا الوصف الأخير لا يُعرف أنه تحقق في تاريخ المسلمين إلافي هذا العصر منذ ضعف الخلافة العثمانية وسقوطها.
ومما يستفادمن هذه الأحاديث:
1. أن الملكالعضوض وقع فيه نقص وترك لبعض الدين، وشابته مظالم وانحرافات، ولكنه لا يزال فيالجملة مُلْكًا فيه دين ورحمة.
2. أن مرحلةالمُلك الجبري أو الحكم الجبري هي التي يحصل فيها الخروج عن الدين والانخلاع منه،فيكون عصر ترويع وإذلال واستحلال للمحرمات وفرقة شديدة، حتى إن زعماءَه هم دعاةعلى أبواب جهنم.
وبالتأمل فينصوص الشريعة ووقائع التاريخ نستنتج الفارق بين هذه المراحل على هذا النحو:
§ الخلافةالراشدة تحقق فيها الرُكْنان الكبيران: تحكيم الشريعة، واختيار الأمة للأمير.
§ والملك العضوضتحقق فيه ركنٌ وتخلف ركنٌ؛ فقد بقي حكم الشريعة، ولم تعد الأمر تختار أميرها.
§ وأما المُلكالجبري فهو الذي انهدّ فيه الركنان؛ فلا بقي حكم الشريعة، ولا اختارت الأمةأميرها.
وقد كان معظمالتاريخ الإسلامي واقعا في زمن الملك العضوض، وشهدت الأمة في تلك الحقبة مراحل منقوتها وتفوقها السياسي والحضاري وازدهارها العلمي والأدبي. بينما جاءت مرحلة الحكمالجبري بالذل والاستضعاف والتأخر في سائر وجوه الحياة().
(2)
ومن وقائع التاريخ يسعنا أن نحدد بدايةالتحول الكبير من مرحلة الملك العضوض إلى مرحلة الملك الجبري في اللحظة التي سيطرفيها محمد علي باشا على الحُكْم في مصر، فتلك هي البذرة التي تمددت وتوسعت في ظلالاحتلال الأجنبي ونفوذه حتى سادت على الأمة كلها عند لحظة سقوط الخلافةالعثمانية، ولا نزال فيها حتى الآن.
فنحن إذن نعيش مرحلة، قد وصف النبي ﷺ حكامها بهذاالوصف الجامع، كما في حديث حذيفة في الصحيحيْن، "دعاة على أبواب جهنم"،هذا مع أنهم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".
وأريدك أيهاالقارئ الكريم أن تتوقف معي طويلا عند هذا الوصف الذي هو أصل أصول المخادعةوالخطورة في واقعنا المعاصر.. أن القوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!!
هنا مركزالخداع الضخم الكبير، الخداع الذي يشل العقول ويُخَدِّر التفكير ويشوش الصورةويطمس الحقيقة.. القوم في ظاهرهم مسلمين، عرب، وطنيين.. يتكلمون بلسان المسلمينالعرب الوطنيين.. من رآهم وسمعهم لم يشك في أنهم من أبناء هذه الأمة وأنهم ينطقونعن غاياتها وآمالها ويعبرون عن مصالحها ويرعون شؤونها وأحوالها!!!
هذا هو الخداعالضخم الذي يجعل النقاش حول هؤلاء طويلا ومريرا ومتفرعا وكثيرا.. فليست أحوالهمالظاهرة دليلا على حقيقتهم.. فتأمل في داعية يدعوك إلى جهنم، ولكنه يكلمك عن جهنمفيجعلها جنة موعودة وفردوسا منشودا، ولئن كنتَ تراها نارًا وجهنما فإنما هي فترةمحدودة، وإن ما فيها من العذاب والعنت والمشقة إنما هو في سبيل المصلحة وطنية،وإنما هي تضحية محمودة، وإنما هو أمرٌ تفعله لأجل الأجيال القادمة، وضريبة تدفعهافي طريق التقدم والنهضة، وعمل سيخلده لك التاريخ!
نعم، أخيالقارئ الكريم.. قف واستعمل خيالك كله، في تصور رجل داعية يقف على باب جهنم يدعوإليها، وتصوَّر: ماذا كان سيقول في ترويج بضاعته وجذب الناس إليها؟!
ولا بأس أنتتوقف عن القراءة ثم اسرح بخيالك.. ولكم وددتُ أن تكون لي موهبة السيناريستالروائي أو الشاعر ذي الخيال الجامح، لفعلتُها ويسَّرت الأمر على نفسي وعليك!
(3)
على أنيمطمئنٌ أنه مهما بلغ الخيال بك وبي وبالروائي المنشود والشاعر المفقود فلن نبلغوهدة الواقع الذي نحن فيه..
ها أنت ترى فيالواقع نفسه كيف انتفضت أجهزة الأمن الأردنية لاعتقال بعض الشباب الذين نهضوالمحاولة مساعدة إخوانهم في الضفة الغربية وتهريب السلاح لهم، فاتهمتهم بالإرهابوالسعي في تخريب الوطن، وسجنتهم ونشرت ما قالت إنه اعترافاتهم لتمهد بذلك حملة علىكل شيء فيه دعمٌ للمقاومة في فلسطين.. وكل ذلك باسم الوطن!
ومع أن جماعةالإخوان المسلمين سارعت بالتبرؤ من هؤلاء المتهمين وأنهم إنما فعلوا ذلك من تلقاءأنفسهم وأن الجماعة لم تكن على علم به ولا حتى تؤيده، إلا أن السلطة الأردنيةأصدرت قراراتها بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها ومحاكمة من يروج لأفكارها!
ونستطيع أننسرد طويلا طويلا طويلا طويلا مجهود النظام الأردني ودوره المهم في إقامة إسرائيلأولا، ثم في حمايتها ثانيا، ثم في تسليم الأرض لها ثالثا، ثم في قتل ومطاردة منيعمل على مقاومتها رابعا!
وهل من دليلأجلى ولا أوضح من أن يكتب نتنياهو بنفسه في مذكراته المنشورة المعلنة أن"بقاء المملكة الأردنية هو بمثابة مصلحة حيوية لإسرائيل، ولو اقتضى الأمرفسنتدخل بجيوشنا لحمايتها من السقوط"؟!!
قطعت جهيزةقول كل خطيب..
وقل مثل ذلكعن غيره من الأنظمة، لا سيما النظام المصري، الذي يتولى الحماية من الجنوب، ويقومبدوره في تكبيل الشعب المصري الهادر الهائل عن إنقاذ إخوانه أو دعمهم.. وللنظامالمصري مثل ما للأردني من التاريخ الأسود من التسبب في إقامة إسرائيل وحمايتهاوتسليم الأرض لها وقتل من يفكر في مقاومتها!!
إن حقيقة الأزمةالتي نعيشها الآن، والتي تكبل الجميع عن التفكير السليم وعن التوجيه السليم، هو فيتلك الخدعة الكبيرة التي هي "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".. هذا مايجعل الأكثرين بدايةً من العلماء أصحاب الفتاوى وحتى العامي الذي يجلس على المقهييستمع الأخبار غير قادر على فهم الواقع، ولئن فهمه فهو غير قادر على التعامل معهكما هو، إذ الخديعة العظمى تعيق فهم الكثيرين عن تصور ما يقول وعن الاستجابة له!
فلئن أنعمالله عليه بالفهم وبالنجاة من الخديعة.. فدورك أن تسعى في سحب غيرك منها، قبل أنيستجيب لهذا الداعية القائم على جهنم، فيقذفه فيها!!
نشر في
مجلة أنصار النبي ﷺ - مايو 2025([1]) أحمد (18430)، والبزار (2796)، وحسنهشعيب الأرناؤوط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5).
([2]) أبو عبيد الهروي، الغريبين: غريبيالقرآن والحديث، 4/1291؛ ابن الجوزي، غريب الحديث، 2/104؛ الزمخشري، الفائق فيغريب الحديث والأثر، 2/443؛ ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/253.
([3]) الملا القاري، مرقاة المفاتيح شرحمشكاة المصابيح، 8/3376؛ عبد الحق الدهلوي، لمعات التنقيح شرح مشكاة المصابيح،8/576.
([4]) الطيالسي، (225)؛ البيهقي، السنن، (17073)؛أبو يعلى، المسند، (873)؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، (8961)؛ وضعفه الألباني فيالسلسلة الضعيفة (3055) وعلته عند الألباني اختلاط أحد رواته، وبقية رجاله ثقات،وأقرَّ أن متن الحديث –دون زيادة منكرة لم نوردها في المتن-صحيح، لشواهد صحيحة، وهذه الشواهد الصحيحة هي حديث الباب، وحديث البخاري «يستحلونالحر والحرير والخمر والمعازف».
([5]) يتكادمون تكادم الحمير: كدم الحماركدما أي عضَّ بأدنى فمه، والحديث يُصَوِّر حال جدب ومجاعة حتى تبحث الحمير فيالأرض عن أصل النبات فتعضّ عليه بأدنى أفواهها، فكأن قبض أولئك الحكام على الحكمكقبض الحمير بملء أفواهها على أصل النبات بأشد ما تملك، في حال الجدب والفقروالشدة.
([6]) صلعاء: أي ظاهرة بارزة.
([7]) الطبراني، المعجم الكبير، (11138)وهذا لفظه؛ نعيم بن حماد، الفتن، (236)؛ الحاكم (8459)، وسكت عنه الذهبي؛والهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال: رجاله ثقات؛ وصححه الألباني في السلسلةالصحيحة (3271).
([8]) الهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال:رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم؛ وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3722). وهذاالحديث ضعفه شديد، إذ فيه عدد من المجاهيل. ولكنه –كما ترى- منسجمٌ مع التاريخ ومع بقيةالأحاديث الصحيحة.
([9]) البخاري (3411)؛ مسلم (1847).
([10]) لمزيد من التفصيل راجع كتابي: خلاصةتاريخ الإسلام، المجلد الثالث.
April 4, 2025
قرآن الثورة والجهاد
ما من شهر يتعرض فيه المسلم للقرآنالكريم مثل شهر رمضان، تلاوة وسماعا ووعظا ومدارسة، وما من مسلم إلا وهو في أحسنأحواله مع القرآن عند نهاية هذا الشهر.
وهنا يأتي السؤال الكبير في الأمةالمهزومة المغلوبة؛ ما بال هذا القرآن الذي أيقظ الأمة وبعثها من رقاد وسبات أولنزوله، لا يفعل الآن فيها مثل ما فعل في أول الأمر؟!!
والأصح أن يُقال: إن القرآن هو القرآن،فما بال الأمة التي انبعث به حتى غلبت وسادت وهيمنت تبقى الآن في هذا الحال الرهيبمن الضعف والمذلة والمسكنة؟!
هذه السطور تحكي لك طرفا من أسبابالفارق الكبير.. وفيه ينطوي الحل الكبير أيضا!
(1)
ما كان العربي يسمع آيات من القرآنالكريم حتى يعرف من فوره أنه كتاب سياسة وقتال وحُكْمٍ ونظام، وأنه جاء لتغيير هذاالعالم، وأنه سيصطدم مع الأوضاع القائمة فيه!
ذهب عتبة بن ربيعة إلى النبي ﷺ يساومه علىهذا الدين، فيعرض عليه الرئاسة والمال والنساء، فما هو إلا أن سمع آيات من القرآنحتى عاد يقول لقومه: يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجلوبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإنتُصِبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه مُلْككم وعزّهعزكم، وكنتم أسعد الناس به.
فهذا رجلٌ سمع بعض آيات من القرآن فعرفأن نهاية الأمر مُلْك ونظام وحُكم ودولة، ونصح قومه أن يتركوا هذه المعركة، فلئنانتهى صدام محمد مع العرب إلى انتصارهم عليه فقد كسبوا أن لم يتورطوا في المعركةولم يقطعوا أرحامهم، ولئن انتهى إلى انتصار محمد فإنه في النهاية رجل من قريش،وانتصاره في ميزان قريش وتدعيمها لمكانتها وسلطانها!
وبعدها بنحو سبع سنين جلس النبي ﷺ يعرض نفسهعلى القبائل، فكان منهم بنو شيبان، وما إن سمعوا منه بعض آيات من القرآن الكريمحتى قال المثنى بن حارثة الشيباني في جملة كلامه: وإن ما جئت به يا أخا العرب مماتكرهه الملوك!
فانظر أيهاالقارئ وتأمل وتفكر، ثم أطل النظر والتأمل والتفكير، كم مسلما الآن يقرأ القرآنويفهم منه أن هذا القرآن تكرهه الملوك؟! فإن القرآن لم يتغير، والملوك لميتغيروا!
وانتبه إلى أن القائل هنا إنما كانيقصد ملوك الفرس، وهم ليسوا من العرب عبدة الأوثان والأصنام، بل كانوا على دينالمجوس عُبَّاد النار.. فاستوى في كراهة ما جاء به القرآن: عباد الأوثان وعبادالنار!
هذا الذي فهمه العربي من بضع آياتسمعها لأول مرة من القرآن الكريم هو الأمر الذي لا يشعر به الآن إلا أقل أقلالقليل من المسلمين. ولو أننا أجرينا استفتاءا بين المسلمين بعد انقضاء شهر رمضان:ماذا استفدت من القرآن في رمضان، فاسرح بخيالك وتوقَّع كم واحدًا من هؤلاء سيقول:إن هذا القرآن هو انتفاضة وحربٌ على الأوضاع الباطلة، وهو حركة ثورة وجهاد في عالمالسياسة؟!
تلك الفجوة الهائلة في فهم القرآن بينالعربي الجاهلي وبين المسلم المعاصر هي أصل أصول الفجوة الهائلة بين حال الأمةيومذاك وحالها الآن.. إذ كيف يمكن أن ينهض بالقرآن من لا يفهمه، ولا يعرف أشهرأصوله ومعالمه وأركانه؟!
(2)
لقد حاول المشركون أن يتخلصوا من هذاالحق القرآني الصادع الواضح الذي يصادم أحوال الجاهلية ويناقضها، ولقد ساومواالنبي على أن يفعل ذلك: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَالَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}[يونس: 15].
ولكن الله تكفل بحفظ كتابه الكريم؛ {إِنَّانَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وبهذا امتنععلى الملوك –ومن والاهم من علماء السوء- أن يغيِّروه أو يبدلِّوه أو يُحرِّفوه، كماقد وقع في الأمم الماضية، إذ كان الأحبار والرهبان { يَكْتُبُونَ الْكِتَابَبِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، وكانوا {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِلِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْعِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِالْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].
فلم يبقَ للملوك وعلماء السوء، بعد أنعجزوا عن تبديل الكلام وتحريفه، إلا أن يغيروا معانيه ويعبثوا في تأويله.
وذلك هو الذي نعانيه الآن، ترى الواحدمن أولئك الملوك ومن علماء بلاطهم يقبل المصحف الشريف ويكتبه بالذهب والفضة وينقشهعلى الجدران والقصور، ويبثه في الإذاعات والقنوات، ثم هو يُسَلِّط جهده كله لتزييفمعانيه وصرف الناس عنها، ويصب جام سطوته وسلطته على القائمين به الذين يجاهدونلتعليمه وبيان هداياته وإرشاداته!
فالآن، ها هي أمة تقرأ القرآن ولا تعرفكيف يمكن أن تحيله عملا حيا في واقع الحياة، أكثرها لا يعرف أن القرآن ثورة وحربوانتفاضة على الباطل، وأقلها يعرف ويعجز أو يعرف ويكسل أو يعرف وتغلبه شهواتالدنيا على نفسه!!
فهما إذن معضلتان عظيمتان: معضلة الفهموالوعي لهذا القرآن، ومعضلة تحويله إلى عمل وحركة، وبهاتين المعضلتيْن ترى كيف أنالقرآن الذي بعث الأمة ونقلها من رعي الغنم إلى سيادة الأمم، لم يعد يفعل فعله فيالأمة التي تسلط عليها سائر الأعداء، من صهاينة وصليبيين ووثنيين ومن لا دين لهم!
(3)
ما من سورة في القرآن الكريم إلا وهيتخاطب المسلم أن هذا الدين إنما أنزله الله ليكون نظاما وحُكْمًا وسلطانا، وأنهدين جهاد لا يقبل ببقاء الباطل والظلم، ولا يرضى بأن يكون المسلمون في ذلة وضعف!
هذه سورة البقرة قد حفلت بحديث الأمةالتي نكثت عهدها مع الله، أمة بني إسرائيل، وكيف أن الله انتزع منها هذا الشرفووضعه في أمة المسلمين، وأنزل عليهم التعاليم والتكاليف في الصيام والحج والزواجوالطلاق والقصاص والقتال والأموال!
وهذه سورة آل عمران تتلو حديث جهادالمسلمين الأوائل في بدر وأحد وكونهم خير أمة أخرجت للناس، وكونهم أولى الناسبسائر الأنبياء، فهم ورثة إبراهيم وإسرائيل وموسى وعيسى، وأن المؤمنين من أهلالكتاب هم الآن مسلمون!
وهذه سورة النساء قد حفلت بتعاليم تختصبالضعفاء من النساء والأيتام والمستضعفين، وما لهم من الحقوق في الأموال وفيالرعاية، بل وبأحكام القتال في سبيل تحرير المستضعفين، وفي إدانة من رضي بالضعفوأن يبقى في دار هوان!
وهذه سورة المائدة قد حفلت بتعاليمالعقود والأطعمة والصيد، والعلاقة مع أمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكيفيضرب الله مَثَلَهم على الانحراف عن الدين، وما صنعوه من التبديل والتحريف، وماأفضى بهم هذا إلى عصيان الله والاستكبار على أنبيائهم!
وهذه سورة الأنعام، تفتح بعد حديث طويلمتين عن الله وخلقه وقدرته واستحقاقه العبادة والحكم، تفتح مسائل الأطعمة والزروعوالثمار!
وهذه سورة الأعراف تتلو قصص الأعداء،بداية من الشيطان مع أبينا آدم، وتعرج منها على أحكام اللباس والثياب والزينة، ثمتمضي مع مواكب الأنبياء مع أقوامهم، وكيف كانت الأمم تتعامل مع أنبيائهم، ثم تتوقفالسورة وقفة ضخمة طويلة مع أمة بني إسرائيل التي حملت الرسالة فلم تقم بها ونكثتعهد الله معها، وكيف أنهم جحدوا نعمة الله حين أنقذهم من فرعون ومكنهم في الأرض ثمالتمسوا معصيته وعدم القيام به.. وهو تحذير شديد لأمة المسلمين التي أنقذها اللهمن الفرقة والخلاف والضعف، فأرسل فيهم رسولا وأنزل فيهم كتابا!
ثم تأتي سورة الأنفال ليكون حديثها كلهفي القيام بأعباء الرسالة والقتال في سبيل هذا الدين، وفي بيان أحكام الغنائم،وجملة من أحكام القتال مع الأعداء ومع الأسرى، وواجب الأمة في الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر والاتحاد في القتال!
وبعدها سورة التوبة التي نزلت بالأحكامالنهائية للقتال والحج والعلاقات الإسلامية الدولية، كما أنها فضحت المنافقينالكامنين في المجتمع المسلم، وكيف تكون أساليبهم، من بث الشائعات والاستهزاء بآياتالله والسخرية من المؤمنين والتثبيط عن القتال، بل حتى بناء المساجد يمكن أن يكونللصد عن سبيل الله!! وبينت السورة كيف يكون التعامل معهم، وكيف أن بعض الأعمالالتي يرتكبها المؤمنون قد تفضي بهم إلى النفاق كالبخل والتكاسل عن الجهاد ونحوها!
وهكذا.. ونحن لم ننظر بعد إلا في ثلثالقرآن الأول وحده.. وبقية السور على هذا النحو، أحكام في العلاقات الدوليةوالقتال، وأحكام في الطهارة والاستئذان داخل البيوت!!
(4)
لئن كان هذا شأن القرآن في توعيةالمسلمين بأن هذا الدين هو حكم ونظام وسلطان ودولة.. وهو ما يعالج المعضلة الأولى:معضلة الفهم! فإن هذا كله كان محفوفا بأمر آخر يعالج المعضلة الثانية..
لقد كانت هذه الأحكام والتعاليم محاطةومغشية من قبله وبعدها بآيات هائلة عظيمة تذكر المسلم بقدرة الله وقوته وحكمته،وبديع ما خلقه في النفس وفي السموات وفي الأرض، وبأن هذه الحياة كلها اختباروامتحان وأن المصير والأجر والنهاية ستكون في يوم القيامة!
أي أن أحكام القرآن ليست مجرد بنودقانونية تخاطب العقل والفكر.. لا، إنما هي ثمرة العبادة والخشية والمحبة لله..وأنها مهمة عظيمة لا يقوم لها إلا أفذاذ الناس الذين آمنوا بالله وتعلقوا بهوطلبوا بجهادهم الدار الآخرة!
إنه ما من قارئ يقرأ القرآن الكريمويقف متأملا بعض التأمل فيه، إلا ويخرج منه متشبعا بشأن الدار الآخرة، فهي الأمرالحاضر القريب الدائم، كما يخرج منه زاهدا بشأن الدنيا التي ستفنى والتي لطالمامرَّ عليها مواكب السابقين فلم يبق منهم سوى الأخبار والأحاديث.
إن التوقف مع سيرة الموت الذي ستذوقهكل نفس، ومع سير المُكَذّبين، ومع سير الأنبياء، ومع آيات اختلاف الليل والنهار،وانقضاء الشهور والسنين.. كل هذا يبث في النفس خاطرا دائما بأن الحياة ذاهبةوالأيام ماضية وما انقضى لن يعود وما قد جاء لن يبقى!
فمن قرأ القرآن الكريم وامتلأ من هذاالشعور انبعث بعده عاملا متحركا ساعيا باذلا قائما في الحياة بما يحب الله، راجياوجه الله والدار الآخرة، متسلحا بهذا الإيمان وهذه الخشية في وجه ما يراه منالصعوبات والتحديات والمشكلات!
لهذا ما تكاد سورة من سور القرآن، إذااستمع إليها المرء وفهمها، إلا ويراها طاقة هادرة جبارة تنزعه من الخمول والضعف،وتهيئه للمهمة العظيمة التي هو مكلف بها في واقع الحياة!
(5)
فلو كانت الأمة تتلو القرآن حق تلاوته،وكان علماؤها وواعظوها –الذين هم ورثة الأنبياء فيها- يبينونه للناس ولا يكتمونه،لكان العيد الذي يأتي على المسلمين عيدًا آخر!
كان سيكون عيد أمة منتفضة وثابة،منبعثة وهاجة، مجاهدة مقاتلة، نازعة عنها ثوب الضعف والخور والذلة والمسكنة، قائمةفي وجه أعدائها، ثائرة في وجه منافقيها!
لقد كان القرآن يُتلى على المسلمينالأوائل فكانت أعيادهم عزا ونصرا ومجدا، وكم قاتل المجاهدون في رمضان نفسه، وماذلك إلا أنهم كانوا عاملين بما يعلمون وما يقرؤون، فقد عرفوا أن حقيقة العبادة هيإقامة الدين وبناء دولته وحكمه وسلطانه وكسر أعدائه!
كذلك نرى كم قاتل المسلمون في شوال، وفيذي القعدة، وفي ذي الحجة.. ومن نظر في الغزوات والفتوحات رأى عجبا..
وإذن، فلقد كان المسلمون الأولونينتفعون من القرآن ومن رمضان ما لا ننتفع نحن الآن بمثله أو بشيء منه.. فنحن الآننصحو على أخبار غزة التي قد انفرد بها الأعداء يقطعونها تقطيعا ويمزقونها تمزيقا،بدعم ومساندة من المنافقين العملاء الحاكمين! ونصحو معها على أخبار لا تقل ألما بلتزيد في بورما وتركستان والهند والسودان وغيرها من ديار المسلمين!
إن أمامنا كفاحٌ شديد طويل لنحلّ هاتينالمعضلتيْن: معضلة فهم القرآن، ومعضلة تطبيقه وتنفيذه.. ما يليق بأمة المسلمين أنتكون أجهل بكتابها من رجل جاهلي سمع منه بعض آيات! وما يليق بأمة المسلمين أن تظنأن هذا القرآن مما يحبه الملوك! وما يليق بأمة المسلمين أن ترى القرآن يقبلالتعايش مع الباطل والظلم! وما يليق بأمة المسلمين أن تقبل بأن يكون القرآن محصورافي المساجد وأن يكون مجرد أصوات وهمهات وتنغيمات تتلى ولا أثر لها في واقع الحياة!
ليس القرآن الكريم أغنية.. وليس الذييتلوه مطربا.. وليس المسجد مسرحا.. وليست الأمة في حاجة إلى مزيد من الغناء!
هذا القرآن نظام وحكم وسلطان، وهوداعية ثورة وحرب وجهاد.. وهذه المساجد هي مصانع المجاهدين المقاتلين المناضلينالذين زهدوا في الدنيا وأقبلوا على الآخرة!
فإذا عاد هذا الحال كما كان، عادتأعيادنا أعيادا كما كانت!
March 4, 2025
طوفان الأقصى - إطلالة على كتاب مهم
صدر قبل أيام كتابٌ مهم، كتبه مجاهدغزيٌّ باسم: أحمد أبو صهيب، والكتاب بعنوان: "طوفان الأقصى سياقاتومآلات"، نُشِر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو كتيب صغير على أهميته لميبلغ ثمانين صفحة. ولأهمية هذا الكتاب، فقد جعلت هذا المقال تلخيصا لأهم ما فيه،وإن كان التلخيص لا يغني عن الأصل.
أراد الكاتب المجاهد، الذي يكتب من قلبالمعركة، أن يجاهد باللسان كما يجاهد بالسنان، لا سيما بعد اندلاع السؤال الكبير:هل كان طوفان الأقصى قرارا خاطئا؟
(1)
يشير المؤلف إلى أن هذا السؤال ليسنابعا في الأصل من قراءة موضوعية، بل هو مضَمَّخٌ بطعم الوحشية الدموية التي ألهبتأهل غزة بنيرانها، فكثير من الخائضين فيه هم من المستهدفين بخطة الصهاينة: كيِّالوعي!
ومن ثَمَّ فأول ما ينبغي عمله فيالإجابة عن هذا السؤال هو تذكر أصل القضية وجوهر الصراع، والنظر إلى قرار طوفانالأقصى ضمن مسار الكفاح الكبير، ليحسن فهمه، وتقييمه، ووضع اليد على ما فيه منالصواب أو الخطأ.
من ها هنا يبدأ الفصل الأول: سياقاتالطوفان
ليس أهل فلسطين بدعا من الشعوب التيوقعت تحت الاحتلال؛ وجميع تلك الشعوب التي جاهدت الاحتلال دفعت الثمن العظيم لقاءهذا التحرر، وهذا الثمن العظيم تدفعه الشعوب الضعيفة وهي تواجه الاحتلال بأكثر مماتدفعه قوات المحتل نفسه، والمنتصر هو أصبرهما، حين يوقن المحتل أنه لا يستطيع تحملهذه التكلفة فيرحل، بعد أن يكون قد أثخن في الناس كثيرا كثيرا كثيرا.
وما من شعب تحرر إلا وكان ضحاياه أكثرمن ضحايا المحتل نفسه! وكثيرا ما كان التحرر قضية أجيال لا ينتهي في جيل واحد، بلإن الجيل الذي هُزِم يورث الجيل القادم مهمة التحرر، فإن استطاع الجيل فبها ونعمتوورث جيل الأحفاد بلدا محررا، وإلا واصل جيل الأحفاد مهمتهم من جديد.
وواجب الكفاح هذا ليس قرارا تختاره فئةمن الشعب المحتل، بل هو واجب على الجميع أن يؤديه، والناكص عنه جبان أو خائن، ليسحكيما أو محايدا!!
(2)
فإذا نظرنا إلى الحال، كيف وصل قبلالطوفان، فسنرى بوضوح أن الصهاينة كانوا يتخوفون من ثلاث جهات: إيران، لبنان، غزة.وقد كانت مناوراتهم العسكرية في الفترة الأخيرة تحاكي حربا متزامنة على ثلاثةجبهات.
وإلى أن تأتي لحظته المناسبة –سياسياوعسكريا- لخوض هذه الحرب الكبيرة، فإنه تعامل مع غزة على طريقة المُسَكِّنات التيتعالج الصداع والأعراض، وأهم ما في هذه الطريقة: المضاعفة المستمرة لاحتياطاتهالأمنية برا وبحرا وجوا:
فالسياج البري العازل تتراكم طبقاتهالأمنية ومجسّاته الأرضية حتى استطاع إفشال عمليتيْن كبيرتيْن عبر أنفاق هجوميةلاتخاذ أسرى، فقُتل جميع المنفذين وبذلك أخفقت وسيلة الأنفاق الهجومية. وضاعفتعقيداته الأمنية بحريا، وضاعف من قوة منظومة القبة الحديدية جوًّا بحيث لم يعدأمام المقاومة إلا رمي 100 صاروخ دفعة واحدة لكي يفلت منها بضعة صواريخ، وهواستنزاف هائل لقدرات المقاومة.
وهذا فضلا عن تشديد الحصار –الذي يشاركفيه بهِمَّة: النظام المصري- وعن ضربات يسددها العدو بين الفينة والأخرى ليمنعتراكم القوة لدى المقاومة ويختبر ما عندها.
ووراء كل هذا: الحرب الأمنية المجنونةالتي استطاع فيها العدو كشف أمور كثيرة مهمة –بفعل تفوقه التقني وقدراته التجسسيةالهائلة- من خطط المقاومة ومقدراتها، وكان أي نجاح صغير في هذا الجانب الأمني ينسفعمل السنين الطويلة والأموال الطائلة والجهود الشاقة.
وأما المقاومة في غزة، فقد حاولتمرارا، بالأساليب السياسية والعسكرية أن تتخلص من الحصار، وأن تتخلص كذلك منمحاولات عزلها عن القضايا الجوهرية: القدس والأسرى والأرض، وأبدت من المرونةالسياسية، وكذا من العبقرية العسكرية، ما اصطدم في النهاية بواقعٍ عربي يريدإنهاءها، حتى قررت بعد 2014م ألا تخوض معركة كبرى مع الاحتلال إلا إن كان سيؤديإلى تحقيق هدف ملموس في قضية كبيرة مثل القدس والأسرى، كي لا تكون مجرد استنزاف!
(3)
انبثقت فكرة الطوفان، بالمصادفة ضمنمسيرات العودة، التي كشفت عددا من الثغرات في السياج البري، وكان لا بد من العملالسريع والسري على استغلال هذه الأمور، فإن تنبه العدو لثغرة عنده أو تسرب معلومةله قد يعني ضياع الفرصة.
كان تقدير المقاومة هو القيام بهجومواسع على مواقع العدو المحاذية للقطاع، وأن هذا الهجوم سيفشل على أغلب المواقع،غير أن الصدمة التي سيحققها، وبعض الأسرى الذين سيمكن أخذهم سيؤدي إلى ردة فعلقاسية لكنها محتملة في النهاية، وسيمكن بهؤلاء تحقيق إنجاز في قضية مثل: القدسوالأسرى.
وقد أخفق تقدير المقاومة؛ فلقد نجحهجومها نجاها باهرا لم يكن متوقعا، كما أن ردة الفعل الصهيونية الهائلة لم تكن فيالحسبان!
لقد كان الطوفان واحدًا من أعظمالعمليات العسكرية المدهشة عبر التاريخ؛ كما كانت حرب الصهاينة على غزة واحدة منأكثر الحروب توحشا ولا أخلاقية كذلك!
(4)
ثارت الكثير من الأسئلة، ولكن أهمهاثلاثة:
1. هل كان الأفضل تأجيل الهجوم حتى نكونأكثر قوة؟
2. هل كان ينبغي أن يكون صغيرا محدودالئلا يترتب عليه هذا العنف الهائل من العدو؟
3. وهل قدم الهجوم ذريعة لوحشية الاحتلال؟
لو فكرنا في تأجيل الهجوم، فماذا كانسيكون؟
إن الأرض في النهاية لن تتحرر بالمعاركوالمناوشات الصغيرة، فإن لم نهاجم اليوم فسنهاجم بعد مدة، وفي هذه المدة سنكونأكثر ضعفا وسيكون العدو أكثر قوة لأن الزمن وتراكم القوة يعمل في صالحه، فنحن شعبمحاصر يزداد التضييق علينا، وهو عدو مفتوحةٌ له الأبواب والخزائن بالأموال والسلاحوالتقنيات.
ما من يومٍ إلا والميزان يميل لصالحالعدو أكثر فأكثر، ولم يكن بعيدا ذلك اليوم الذي تتطور فيه أسلحة العدو ومنظومةقبته الحديدية لتصير كل أسلحتنا وصواريخنا غير فعالة ولا قيمة لها، ولا نأمن في كليوم أن ينكشف لنا سرٌّ أو خطة أو يتمتع العدو بمزية تقنية جديدة تكشف له الأنفاقومخازن الصواريخ وأماكن قادة المقاومة، فيسدد لنا الضربة القاضية أو نعجز أن نفعلشيئا مطلقا أمام خطوة جديدة منه: سياسية أو عسكرية، وخطة الطوفان نفسها كان يمكنأن تفشل تماما لو أضيف تحسين أمني جديد بقصد أو بغير قصد على السياج العازل.
كذلك فإن الانتظار قد يعني موت القضية،فلقد كانت أن القضية تتعرض لضربات موجعة بموجة التطبيع الخليجية والتي تبعتهاحملات كبرى لتقزيم القضية والتملص منها وجعلها قضية الفلسطينيين وحدهم، كذلك هذا التهديدالمستمر للأقصى واقتحاماته المتكررة، وهذا حال المقاومة في الضفة والداخل يزدادضعفا.
فماذا لو فكرنا في تصغير الهجوم؟
إن الذي تحقق أصلا كان مفاجئا للمقاومةكما هو مفاجئ للاحتلال، فلم يكن المتوقع نجاحٌ بهذا القدر ولا أسر كل هؤلاء، ولكنلو رجع بنا الزمن فقررنا تصغير الهجوم، فماذا كان سيكون؟ معركة صغيرة جديدةكالمعارك السابقة التي تستنزف غزة وتحتاج من بعدها سنوات لتعويض ما فقدت، وعودةإلى نفس الحال. هذا مع أن رد فعل العدو ليس مضمونا كذلك، فإن هذا العدو الخالي منكل أخلاق، والذي تتقبل كل الدول جرائمه بطيب نفس، والذي يتمتع بدعم إقليمي أيضا..إن هذا العدو غير مقَيَّدٍ بشيء في ردّ فعله!
لو كان الهجوم أصغر من ذلك فنحنالخاسرون، لأن الأسرى الذين بأيدينا سيكونون أقل بكثير مما حصل فعلا، أي أن تصغيرالهجوم لن يؤدي إلا تصغير الأوراق التي معنا، دون أن نضمن صِغَر ردّ الفعل. لو كناسنندم على شيء فهو أن الهجوم لم يكن أكبر من ذلك، وأننا أسرنا فقط ما بين 250 –300، فيا ليته كان بأيدينا 2500 – 3000 أسير، ولكن ما من أحدٍ كان يتوقع أن يكونالعدو بهذه الهشاشة!!
إن التجربة مع الصهاينة تؤكد أن هذاالعدو لا يتورع عن توحشه، لأنه لا قيد عليه من أحد! لا سيما وأن استخباراتالمقاومة كانت ترصد خطط العدو لهجوم شامل مفاجئ تضرب فيه القيادات الأولىوالمفصلية، وكذلك فإن خطط الاجتياح البري لغزة كانت موجودة ومعدة وتنتظر التحسيناتالنهائية عند لحظة اتخاذ القرار، ومثلها خطط اجتياح جنوب لبنان والجولان، كل هذاكان موجودا ينتظر اللحظة المناسبة، فلم يكن العدو يتجنب المواجهة مع هذه الجبهات،بل كان يؤجلها إلى لحظة مناسبة.
لقد فاجأه الطوفان وانتزع منه زمامالمبادرة، ومعها كثير من الأسرى. لكن التوحش الذي نراه الآن كان سيحدث في كلالأحوال ولو لم يكن ثمة طوفان، لسبب بسيط: أن العدو يرى في هذا التوحش ضرورةعسكرية لصدم المقاومة وإفقادها السيطرة، لذلك فهو ينفذه كجزء من الخطة العسكرية،وبغير ضرورة عملياتية، فإن من أهداف العدو ومقصوداته: تهجير الناس وتوسيع دولته،وهذا لا يكون بغير توحش صادم وهائل! وهذه العقيدة لدى العدو حاضرة قبل الطوفانوبعده، سواء وقع الطوفان أم لم يقع.
(5)
لو أن ثمة خللا لدى المقاومة، فهوالخلل في تقدير ردّ الفعل الصهيوني، وهو الأمر الذي بُنيت عليه خطط الدفاع، وخطةالإدارة الداخلية.. ولكن من ذا يستطيع أن يلوم المقاومة إن كان هجومها قد نجحبأعلى بكثير من المتوقع؟! كما أن في محاولة علاج هذا الخلل بأثر رجعي نسيانٌ لأموروتفاصيل كثيرة كانت مراعاتها جزءا من خطة السرية التي رافقت الطوفان. إنه ما منأحد، سوى أهل المقاومة أنفسهم، يستطيعون تقدير البدائل الأفضل في حالة كهذه.
وإذن، فقد يسأل سائل: من المسؤول عماوقع؟
والجواب بوضوح: إنه لا يُسأل الذي قامبواجبه لماذا قمت بالواجب؟ بل يُسأل الذي لم يقم بواجبه لماذا لم يفعل؟.. لئن كانتغزة قد فعلت أقصى ما بوسعها بل حققت معجزة، فالسؤال ينبغي أن يُقال بعد ذلك لسائرالذين لم يقوموا بواجبهم: في فلسطين المحتلة، وفي المحيط العربي، وفي العالمالإسلامي، وفي الخارج العالمي كذلك!.. فلو أن هؤلاء جميعا قد قاموا بواجباتهم كماقد قامت به غزة، ما استطاع العدو أن ينفذ هذه المذبحة المروعة!
إن البعض يتعامل مع قضية فلسطين بمبدأ:نتمنى تحرير فلسطين، وليس بمبدأ: نريد تحرير فلسطين. فإن الإرادة تبعث عملامحموما، بل وتبعث في صاحبها روحا ووعيا يفهم بها ومعها أن الثمن اللازم لتحريرفلسطين لن يكون أقل من الثمن الذي دفعته الشعوب المحتلة، وما أعظمه! بل سيكون أكبرمن هذا الثمن لخصوصية هذه القضية وقداستها! وما دُفِع حتى هذه اللحظة ليس إلا جزءامن الثمن، ولا ندري هل ما بقي منه لا يزال هو الجزء الأكبر؟!
(6)
هل انتصرنا؟
إن الثورات وحركات التحرر لا تنتصربالضربة القاضية، بل بالضربات المتراكمة المستمرة الصبورة الدؤوبة، النصر سيكون مننصيب الأصبر الأقدر على النهوض بعد كل ضربة! من نصيب الأعلى حظا من الأمل والأكثراستمساكا بحقه!
لهذا فإن حسبة القوة المحتلة غير حسبةالواقع تحت الاحتلال، يكفي الواقع تحت الاحتلال أنه لم ينكسر ولم ينهزم، أما قوةالاحتلال فإن لم تنتصر فقد انهزمت، وإن لم تحقق أهدافها فقد خسرت! وقد تنتهي سائرالجولات على شعب لم ينتصر، لكن النهاية تكون رحيل الاحتلال الذي هو نفسه قد انتصرفي سائر الجولات الصغيرة. ولم نذهب بعيدا؟ فهذه الثورة السورية، سائر جولاتها أنهاالخاسرة، لكنها انتصرت في النهاية بعد ضربات كثيرة مؤلمة، وحين يأتي النصر تتحولالتضحيات إلى مفاخر!
ربما يقال: نحن في هذه الجولة لمتنتصر، ولكن في الأحوال جميعها نحن من سيقرر إن كنا سننهزم أم لا.. فالهزيمة قراريملكه كل أحد!
(7)
لقد أخفق العدو في استراتيجيته: تصفيرالأخطار.. لقد انتهت هذه الحرب، ولا تزال الجبهات الثلاثة: إيران ولبنان وغزةقائمة وقادرة على التهديد حتى بعد تعرضها لضربات مؤثرة، وحتى غزة التي هي أضعف هذهالجبهات والتي انصبت عليها النيران الكبرى لهذه الحرب، لم تزل المقاومة هي التيتديرها وتحكمها، وقد فشلت سائر المحاولات الإسرائيلية في تهجير أهلها –لا سيما أهلالشمال الذين أنجزوا بصمودهم أسطورة خاصة بهم- وفي حكمهم مباشرة أو عبر أجساممدنية، ولا يزال بعيدا أن تستطيع قوة ما حكم قطاع غزة دون رضا المقاومة أوبالتفاهم معها.. كذلك لا يزال بعيدا أن تقول إسرائيل بأنها قد أمنت نفسها منالتهديد الغزي.
كذلك فشلت إسرائيل في سحب القوىالدولية لتفتح جبهة إيران، وهي الجبهة التي لا تستطيع أن تفتحها بنفسها منفردة، وانتهىالحال ولا يزال التهديد الإيراني قائما.
كذلك جبهة حزب الله في لبنان، لقد فوجئالعدو بعد كل استعداداته بما لم يكن يتوقعه من استعدادات، ومع أنه نفذ ضربات جريئةجدا ليجرّ الحزب إلى حالة الحرب، بقي الحزب متمسكا بحالة جبهة الإسناد، وبقي حتىالنهاية متمسكا بضرب المواقع العسكرية فقط دون التصعيد باستهداف المدنيين! ففيالخلاصة نجح العدو في إضعاف الحزب لكن لم يقترب إطلاقا من إزالة خطره عليه.
ثم جاء النجاح المفاجئ للثورة السورية،وفي كل الأحوال فإن مآلها سيكون أنها جبهة جديدة خطرة على المشروع الصهيونية!
انتهتالمساحة المخصصة للمقال، ولم يزل ثلث الكتاب الأخير باقيا.. فلعل ما سبق يكونمحفزا لقراءة الكتاب نفسه.. والله المستعان.نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ - مارس 2025م


