إرث "شهيد" في صفحات "الصمود"

 


ما زلت بعد عشرة أيام من استشهاد الشيخأبي محمود نائل بن غازي لا أتمالك أعصابي لأكتب عنه كتابة مستقرة مطمئنة مفهومة،وفي كل لحظة كهذه أتذكر حكمة القائل: إنما الكلمات وسائل تعبير عن مشاعرناالصغيرة، فأما المشاعر الكبيرة فالكلمات دونها!

وقد عبَّر نبي الله موسى عليه السلامعن هذا المعنى حين كُلِّف بمخاطبة فرعون ودعوته، فقال عليه السلام {ويضيق صدري ولاينطلق لساني}، وطلب مؤازرة أخيه هارون لكونه فصيحا {وأخي هارون هو أفصح مني لسانافأرسله معي ردءا يُصدقني، إني أخاف أن يُكذّبون}، وقد أجابه الله لسؤاله {قال:سنشدّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما، بآياتنا أنتما ومن اتبعكماالغالبون}. فبهذا السلطان وبهذه المؤازة استطاع موسى عليه السلام أن ينطق بالدعوةويبينها وأن يجابه فرعون!

وأما من لم تسعفه الفصاحة، ولم يكن لهمن الله مثل هذا السلطان.. فما يستطيع أن يقول ما في نفسه.. وهذه حالي الآن، وحالهذه السطور!

 

(1)

وأبدأ بنفسي..

فإني في مقعد القاعدين أكون في حال منالحرج الشديد إذ أكتب عن المجاهدين.. وما أدراك ما حال القاعدين إلى حالالمجاهدين، إنما مثله ومثلهم كالذي يشير إلى الشمس وإلى القمر، فأين المشير منالمُشار إليه؟!! وما قيمة أصبع يرتفع ولسان يهتف إلى جوار النور الطالع والضياءالمشرق؟!

ينبغي للحياء أن يشملني، ولا بأس أنأقول صريحا: ينبغي للعار أن يجللني، إذ أكتب عن المجاهدين والشهداء.. ولكن: هل ليأن أمتنع؟!

هل أستطيع إذا طلب مني إخوانناالمجاهدون في الإمارة الإسلامية شيئا أن أمتنع؟!

فهل إن كان الذي طلبوه هو الكتابة عنأخي الشيخ الحبيب نائل بن غازي.. هل لي أن أمتنع؟!

ثم هل إن كان المطلوب في المقدور.. هليجوز لي أن أمتنع؟!

طلبٌ يطلبه مجاهدون، أن أكتب تقدمة عنشهيد، والكتابة أمر مقدور.. فما نفعي في الحياة إن امتنعت؟!

لَأَن أوصف بقلة الحياء وأنا أتقدم إلىالمقامات الرفيعة، أحب إلي من أن أوصف بالامتناع عن إجابة طلب السادة المجاهدين فيشأن السيد الشهيد!.. وما يجوز لعبدٍ إذا قيل له اجلس مع السادة إلا أن يقول: سمعاوطاعة.. حتى وإن عُدَّ جلوسه في تجاوز الحد، فالامتثال خير من الأدب..

 

(2)

وأثني بقول القائل: لا يعرف الفضللأهله إلا ذووا الفضل!

ما مرت عشرة أيام على استشهاد الشيخالحبيب أبي محمود، إلا وقد جَهَّز إخوته في الإمارة الإسلامية هذا الكتاب، وذاأمرٌ لم يبلغني أنه قد صُنِع مثله في ديار أخرى، وما في ذلك من عجب.. فالجهاد رحمبين أهله، وأهل الفضل أعرف بأهل الفضل..

وكما كان الشيخ أبو محمود منفعلا معقضايا المسلمين كلها، من أفغانستان إلى الشام إلى مصر إلى غيرها، فقد هيأ الله لهمن يجمع كلامه ليُنشر من بعده، فيتصل عمله ويمتد فضله ويتسع أثره وينتشر نوره،ويكون –إن شاء الله- من العلم النافع الذي يزداد به ميزان حسناته ويثقل على كرّالأيام ومرّ العصور.

لقد اتصل الفضل في هذا الكتاب بينالشيخ سعد الله البلوشي، سفير الإمارة الإسلامية في إندونيسيا، وبين أبي محمودنائل بن غازي.. وما هذا الاتصال إلا صورة مصغرة من اتصال الفضل والجهاد بين أنحاءالأمة وأرجائها.

إن انتصار المسلمين في مكان هو انتصارلهم في كل مكان، ليس على مستوى المشاعر وحدها، بل على مستوى الواقع والحقيقة..

ولو قَدَّرنا أن انتصار المسلمين فيمكان لا يؤثر على غيرهم إلا في باب المشاعر فحسب فإن ذلك أثر عظيم ليس بالهيّن،فإن أحوج ما تحتاج إليه أمة مهزومة مستضعفة مغلوبة أن تنتعش مشاعرها ويستيقظ الأملفيها وتثور صدورها وتزهر قلوبها، فإنما ذلك أول السعي وأول العمل وأول النصر!

وكم من يائس ومحبط وكئيب أشرقت نفسهوانبعث عاملا مجاهدا حين رأى غيره قد حاول ونجح؟! وكم من خائف جبان أقدم على العملالجرئ المدهش حين رأى مقداما جريئا يقتحم ويتقدم؟!.. إن جُلَّ الحياة مشاعر!..ولقد أوصانا نبينا بالانتباه لهذا، فقال: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أنتلق أخاك بوجه طلق"، وأمر بالصدقة ولو كانت "شِقَّ تمرة"، وكلهاأمور تؤثر في المشاعر لا تغير من الحقائق، وهو –صلى الله عليه وسلم- الذي قال:"إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".

فالمشاعر وحدها أمرٌ عظيم.. وهي فيالأمة المكلومة المهزومة أعظم وأعظم!

على أن تأثير انتصار الأمة في مكان لايتوقف عند المشاعر وحدها، ولكن يتعداه إلى الحقائق.. وإن انتصار المسلمين فيأفغانستان ضد هذا الحلف الدولي الضخم الذي اجتمعت فيه قوى العالم لهو تغير فيميزان القوة، وتغير في وضع الهيبة والثقة، وتغير في خريطة العالم السياسية علىالحقيقة. إن كل عاملٍ لهذا الدين في مكان ما قد تأثر بانتصار أفغانستان.. إن قدرةالشعب الفقير المحاصر ومقاتليه البسطاء ذوي الصلابة تجعل النصر في كل مكان أقرب منطالبه، وكذلك فإن انسحاب عدو مثل أمريكا وحلفائها من أفغانستان ليجعل كل عدو غيرهاأهون منها!

ومثلما ألهمت أفغانستان غيرها، فقدفعلت غزة بطوفانها المبارك، وفعلت سوريا بانتصارها على الطاغية بشار الأسد، وتلكثمرات نجني بعضها، وسنجني بعد قليل بعضها الآخر.. فإن التفاعل مستمر، وإن الأمةتشاهد وترى، وهي تستوعب وتختزن!

وما من مستحيل بعد أن انتصرت طالبانعلى أمريكا!

وما من مستحيل بعد أن صفعت غزة إسرائيلأقوى صفعة في تاريخها، ولا تزال صامدة بعد ستمائة يوم في معجزة عسكرية لا مثيل لهابحساب ميزان القوة!

وما من مستحيل بعد أن سقط نظام بشارالمدعوم بطائفته وكتائب الشيعة وإيران وروسيا، بل لقد سقط في لحظة يعاد فيها تقبلهفي السياسة العربية الإقليمية!

ما من مستحيل بعد هذا كله.. لقد فعلتهذه الأمة المستحيلات!

ولكنه أمر لا يعرفه غير المجاهدينالعاملين.. ولا يستفيد منه ويجني ثمرته إلا الصادقين المطمئنين!

 

(3)

هذه أمة تفعل المستحيلات.. نعم! ولكنهاحين تفعله تقدم إلى الله صفوتها وطليعتها ونخبتها شهداء باذلين، صدقوا ما عاهدواالله عليه، واشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة!

مثلما تغنى أبو محمود بالملا محمد عمريوما ما، فها هو واحد من أبناء الملا محمد عمر يتغنى بأبي محمود ويجمع كلامه..

وأبو محمود ما أبو محمود.. وما أدراكما أبو محمود؟!

إن في نفسي وَجَلًا قديما وحياءً أنأبادر بالكلام مع المجاهدين، فكيف بأهل العلم منهم وشيوخهم؟!.. وما أتذكر أنيبادرت إلى ذلك مع أحد، فكل من أعرفهم من هؤلاء إنما كانت البداية منهم، فضلا منهمومنة وتكرما..

وهكذا عرفتُ أبا محمود!

كنت أرمقه من بعيد حتى ابتدأبالمراسلة.. ومن ها هنا اتصل أمري بأمره!

إن هذا الرجل الذي ترونه يخطب على المنابركأسدٍ هصور، يرعد ويبرق، يهدر وينذر، تراه في المراسلات والاتصالات الهاتفية طيفامن الحياء، ونسيما من الأدب، وسلسلا من الرقة، وروحا من الصفاء!

وإن هذا الأصولي القوي، والكاتبالبليغ، واللسان الفصيح، تراه إن اقتربت منه وتحاورت معه آية في التواضع، ومَثَلًافي خفض الجناح، وطيب المعشر!

ولقد كلمته في غضبه، بل في شدة غضبه،فكان يُلَمِّح ولا يُصَرِّح، وكان يتألم ولا يحب أن يتكلم، ودار الحديث بيننا حولعدد من الناس تخصصوا في الحط من شأن المقاومة وكانوا عليها لسانا سليطا حديدا، فماجاوز الرجل حدّ قول كلمة لا تليق به!

وعلى قدر ما كان قويا في ردّ الباطلودحض شبه المشككين كان رؤوفا رحيما بالأمة..

وقد شاء الله أن يُخرج منه أحسن ما فيهفي آخر أيامه.. فلقد كتب كثيرا عن "التربية بالأحداث"، فمزج فيها بينعلمه بالأصول، وعلمه بالتربية، وعلمه بالجهاد، وعلمه بالسياسة.. فردَّ على الغلاةوالجفاة، وردَّ على الخوارين والمثبطين معًا. فكأن هذا الطوفان كان التنور الذيأخرج من أبي محمود أنضج ما فيه وأطيب ما فيه.

وكانت آخر مكالمة لي معه قبل يومين مناستشهاده، ففي ذلك اليوم قُصِفت خيمته لكن أصيب فيها بعض أهله وجيرانه، وأشيع خبراستشهاده.. ولحيائي منه وخوفي عليه تتبعت الخبر من غيره حتى عرفت بسلامته ولمأراسله، فاتصل بي في هذه الليلة يطمئنني على نفسه ويخبرني بمن أصيب من أهلهوجيرانه.. فإذا بالذي هو في حومة الموت وفي غمرة الكرب يطمئنني أنا، فأي فضل وأيرفعة وأي مقام؟!

فلما عرفتُ أني منه قريب إلى هذا الحد،وسمعت نبأ استشهاده، بادرت فراسلتُه مطمئنا عليه، وهي الرسالة الوحيدة التي لميرها، فلقد صحَّ الخبر عنه هذه المرة، واستشهد وارتقى مع أهله وولده إلى الجنةبإذن الله..

وإن ربنا الرؤوف الرحيم قد اختار لأبيمحمود ميتة لو أن الناس يختارون ميتاتهم لما اخترتُ سواها، ولكنها دالة بإذن اللهعلى مقامه عند الله.. فقد اجتمع له شرف المعركة وشرف الزمان وراحة البال.. فانظروتأمل!

1.   فأما شرف المعركة فلقد ارتقى أبو محمودشهيدا في معركة هي من أخلص المعارك وأوضحها وأسطعها، معركة لا يمتري فيها مؤمن،ولا يتشكك فيها عاقل.. معركة حق وباطل! ثم هي معركة في أكناف بيت المقدس.. مسرىالنبي وموضع صلاته إماما بالأنبياء، فهي ليست مجرد قطعة من أرض الإسلام، بل هي فيأرض الإسلام البقعة المقدسة المباركة! ثم هي معركة مع أعداء الله، وأعداء ملائكته،وأعداء رسله الذين عُرفوا بقتل الأنبياء، وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا!

2.   وأما شرف الزمان فقد ارتقى في يومالجمعة، وهو خير أيام الأسبوع.. ثم كان يوم جمعة من الأيام العشر من ذي الحجة التيهي أفضل الأيام عند الله.. والغالب عليه أنه مات صائما، فما كان مثله ليُفطر فيأيامٍ يعرف فضلها، وفي حالٍ من المجاعة التي تسود غزة حتى يضطر فيها إلى الصوم منتعود الفطر!

3.   وأما راحة البال فقد ارتقى هو وأهلهجميعا.. هكذا في لحظة واحدة، نُقلوا من دار الشقاء إلى دار السعادة بإذن اللهتعالى. لم يبق منهم من يحزن على من مات! ولم يخشى أحدٌ ذهب على من بقي.. وتلكلعمري ميتة يحبها كل عامل –ولعله كل عاقل- في هذا الزمان!

رحم الله الشيخ الشهيد أبا محمود نائلبن غازي مصران، ولا حرمنا الله أجره ولا فتننا بعده، وغفر لنا وله.. اللهم آجرنافي مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليهراجعون!

وحفظ الله الشيخ سعد الدين البلوشي،وجعله عمله هذا في ميزان حسناته..

وأكرمنا وإياكم بالشهادة في سبيل الله،مقبلين غير مدبرين ولا مبدلين ولا خزايا ولا مفتونين..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

محمد إلهامي

اسطنبول

15 ذي الحجة 1446ه =  11 يونيو 2025م

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2025 11:50
No comments have been added yet.