درس مهم في مستقبل أفغانستان
أبدأ هذا المقال باعتذار لإخواني فيالإمارة الإسلامية بأفغانستان، فلقد شغلتنا المصائب القريبة في مصر وفلسطينومنطقتنا العربية عن متابعة أحوالهم والعناية بها على النحو اللائق. على أن لهذاالنسيان جانب طيب، وهو ما لدينا من الثقة في قيادة هذا البلد، تلك القيادة التيأنجزت التحرير، وأنجزت معه معركة التفاوض.. ومن طبيعة المرء أن ينشغل عن الأمرالذي يتولاه الكفء ثقة فيه، ثم يذهب للاعتناء بالأمر الذي لا يجد الأكفاء!!
وقد بدأت بهذا الاعتذار، لأنني سأذكرفي هذا المقال أمورًا لستُ أدري ماذا تكون سياسة الإمارة الإسلامية فيها: هل هميعرفونها ويقومون بها، أم ثمة قصور في المعرفة أو في التطبيق. فإن كان الأمر علىما يرام فالحمد لله رب العالمين، وإن كانت الحاجة إليه قائمة، فتلك السطور هي أهمما يرى مثلي أنها أمور أحق بالعناية بها.
لقد احتفلنا –وحق لنا الاحتفال-بالتحرر الأفغاني من الاحتلال الأجنبي، وقد مضى من الوقت ما يكفي لأن ننتقل منمقالات الاحتفاء والاحتفال إلى مقامات النصح والبيان، فالدين النصيحة، وهو واجبٌعلينا في كل وقت.
وإن من أشد ما أخشاه للتجربةالأفغانية، بل ولكل تجربة إسلامية أخرى أدركت التحرر، أن تذهب في اتجاه: بناء دولةحديثة مركزية، كما هو النموذج الشائع في العالم كله، وإن نموذج "الدولةالحديثة" هو نموذج شديد الإغراء لكل منتصر وزعيم، وذلك أنه يوافق لذة نفسه فيتمكين سلطته، وهو يوافق النظام العالمي القائم، وقد يرى المنتصر المُحَرِّر أنإقامة هذا النموذج هو الذي يحقق بالفعل مصلحة البلد ويقيها أخطار التمزق والتفرق!وقد يجد في علماء المسلمين من يتقبل نموذج الدولة الحديثة هذا ويرى له تخريجاإسلاميا يجعله غير مخالف للدين.. وهكذا.
أريد أن أقول هنا إن من أعظم مزاياالإسلام، ومن أعظم معجزاته في بنائه لنظامه السياسي أنه كان ضد فكرة الدولةالحديثة ومنطقها، حتى قبل أن توجد هذه الفكرة في واقع الناس!
لقد حرص الإسلام على بناء سلطة قويةنعم، لكنها سلطة محدودة الصلاحيات، تهتم بجوانب الأمن والدفاع وما يتعلق بهما،وأما بقية الجوانب والأنشطة من الاقتصاد والتعليم والثقافة وغيرها، فهي من شأنالمجتمع الذي ينطلق لخدمتها وإشباعها، فالسلطة لا تهيمن عليها ولا تتحكم فيها،إنما تدعمها وتراقبها.
ومن هاهنا اهتم الإسلام كثيرا بتقويةالمجتمع وتمتينه وتعميق روابطه: روابط الإسلام والأرحام والجوار، وكانت عباداتالإسلام وشعائره وأحكامه ميدانا خصبا لتنمية هذه العلاقات وتقويتها، بحيث ينشطالمجتمع من تلقاء نفسه ولا يكون رهينا بالسلطة!
إن شرح هذا يطول، ولعل من أرادالاستزادة أن يرجع إلى كتابيّ "منهج الإسلام في بناء المجتمع"و"سبيل الرشاد".
ومن أهم ثمرات هذا الوضع أن الحضارةالإسلامية واصلت ازدهارها حتى في أوقات ضعف السلطة أو انهيارها، ومن أهم الثمراتأيضا أن السلطة إذا انهارت كان المجتمع قادرا على مقاومة المحتل الأجنبي واستئنافمقاومة شعبية، كما أنه كان قادرا على تدبير شؤون نفسه وإدارتها بمعزل عن سلطةالاحتلال أو سلطة العملاء.
وتلك كانت العقدة التي واجهت الأمريكانفي احتلال أفغانستان، والتي عبَّر عنها صُنَّاع القرار عندهم، إن قوة المجتمع وضعفالسلطة الأفغانية جعل الاحتلال الأجنبي لا يعرف كيف يقضي على المقاومة، ولا كيفيمسك بخناق هذا الشعب الباسل، إن المقاومة روح عامة سارية، والشعب يمكنه أن يديرنفسه دون احتياج إلى السلطة، وبذلك فشلت محاولاتهم في إنشاء سلطة مركزية على نمطالدولة الحديثة، تلك السلطة التي تستطيع أن تكبل المجتمع وتقيده.
سأذكر بعض تلك الأقوال التي سجلوهابأنفسهم في كتبهم، لكي يطِّلع إخواننا الأفغان على أهمية هذا الأمر، ومن خلالهيطَّلعون على خطورة أن يذهبوا باتجاه إقامة دولة حديثة ذات سلطة مركزية مهيمنة،وذلك كي تبقى مسيرة بناء الحكم الجديد متسقة مع الإسلام أولا، ونافعا للشعبالأفغاني ثانيا، ومخالفة لهوى الأعداء ثالثا..
أوردت كونداليزا رايس –وقد شغلت منصبيوزير الخارجية ومستشارة الأمن القومي الأمريكي- في مذكراتها أن بول وولفوتيز،معاون وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، اقترح أن يكون البدء بضرب العراق لاأفغانستان، مع أن العراق لا علاقة له بأحداث سبتمبر، والسبب في ذلك أن مواجهة جيشنظامي في العراق سيكون أسهل كثيرا، مما يمكن معه تحقيق نصر سهل وسريع تحتاجهالمعنويات الأمريكية! لم يؤخذ برأيه في نهاية الأمر لأسباب سياسية، لكن الرجل قدكشف عن السرِّ، وهو السر الذي تحقق بالفعل كما نراه جميعا.
لقد كان تركيز الأمريكان، كما يقولروبرت جيتس الذي تولى منصبي مدير المخابرات الأمريكية ثم وزير الدفاع بعدرامسفيلد، هو: "في إنشاء حكومة مركزية قوية في بلد لم يسبق له عمليا أن كانتفيه حكومة".
والأمريكان يحبون تسمية الدولة غيرالمهيمنة على كل شيء باسم قبيح، "الدولة الفاشلة"، لا لكونها تفشل فيخدمة شعبها، بل لكونها ثغرة في جدار النظام الأمني العالمي الذي يخدم أمريكا، تقولرايس: "تبين لنا أن الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا علىالولايات المتحدة. فهي لا تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمنللإرهابيين، لذلك فإن إعادة بنائها يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن... ومع أن هذهالفرق (فرق الإعمار الإقليمي) كانت متنوعة التركيب والنشاط إلا أن لها جميعا هدفاواحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية".
وهذه العبارة الأخيرة ذاتها يقولهاأيضا روبرت جيتس، "كانت عشرات الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غيرالحكومية منخرطة في محاولة مساعدة الأفغان على تأسيس حكومة فاعلة".
وقبيل الانسحاب الأمريكي من أفغانستانكان هنري كيسنجر متأسفا على الخطأ الذي قام به أوباما حين حدد مواعيد نهائيةلانتهاء المهمة في أفغانستان، وذلك أن كيسنجر يرى أن هدفا مثل تأسيس حكومة مركزيةفي بيئة أفغانية هو شيء لا يمكن أن يُلتزَم فيه بالوقت، لكونه يحتاج أمدا طويلا.. والسببفي هذا أن أفغانستان لم تتعود على هذه الحكومة المركزية، يقول: "فقدناالتركيز الاستراتيجي. لقد أقنعنا أنفسنا أنه في نهاية المطاف، لا يمكن الحيلولةدون إعادة إنشاء القواعد الإرهابية إلا من خلال تحويل أفغانستان إلى دولة حديثةذات مؤسسات ديمقراطية وحكومة تحكم البلاد بطريقة دستورية. ومثل هذا المشروع لايمكن أن يكون له جدول زمني قابل للتوافق مع العمليات السياسية الأمريكية"،ويواصل قائلا: "إن بناء دولة ديمقراطية حديثة في أفغانستان، بحيث تسري أوامرالحكومة بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد يعني ضمنا أن يكون هناك إطار زمني يمتدلسنوات عديدة، بل عقودا؛ وهذا ما يصطدم مع الطبيعة الجغرافية والعرقية الدينيةلأفغانستان. لقد كان تناثر مناطق أفغانستان، وعدم إمكانية الوصول إليها وغيابالسلطة المركزية هي على وجه التحديد التي جعلت منها قاعدة جذابة للشبكات الإرهابيةفي المقام الأول".
وكان هنرى كيسنجر نفسه، حين بدا لهالانسحاب الأمريكي وشيكا من أفغانستان، قد أراد تحريض سائر دول المنطقة ليكملوا همما فشل فيه الأمريكان، فنادى على باكستان وإيران وروسيا والصين، أن انهضوا للحفاظعلى أمنكم بعد أن يرحل الأمريكان عن أفغانستان، فأنتم أشد حاجة من أمريكا إلى هذاالأمان..وصدق الذي قال: برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين!
تحتاج التجارب الإسلامية اليوم إلىاجتهاد ذكي ومنضبط، يراعي تنزيل الشرع الإسلامي على أرض الواقع غير الإسلامي، وفيبيئة المنظومة الدولية التي شكلتها الهيمنة الكُفرية على العالم، فإنه لن يمكنناالانخلاع من العالم ولا من تقاليد الحكم فيه مرة واحدة، كذلك لن يمكننا تطبيقالإسلام كما كان في عهد النبي والراشدين دفعة واحدة. يجب على الأقل أن نعرف ماذانريد وأن نحث السير إليه، حتى لو كانت الظروف لا تسمح بتطبيق ما نريد على النحوالذي نريد.
وفقالله رجال الإمارة الإسلامية لما فيه خير البلاد والعباد.. وأسأل الله تعالى كماأيدهم بالنصر على أعدائه وأعدائهم أن يؤيدهم بالنصر على أنفسهم وأن يستعملهم فيمرضاته وأن يُمَكِّن لهم خير ما يمكن به لعباده الصالحين.
نشر في مجلة الصمود - الناطقة بلسان الإمارة الإسلامية في أفغانستان - سبتمبر 2025
كونداليزارايس، أسمى مراتب الشرف، ص114، وما بعدها.
روبرت جيتس،الواجب، ص238.
كونداليزارايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.
روبرت جيتس،الواجب، ص248.
مقالهنري كيسنجر في الإيكونوميست بتاريخ 25 أغسطس 2021م.
هنري كيسنجر،النظام العالمي، ص313، 314.


