ماذا كان يمكن أن يفعل الفلسطينيون غير 7 أكتوبر؟


محمد إلهامي

يندهش العرب والمسلمون دهشة شديدة منهذه الدهشة الشديدة التي يبديها الغربيون –الأوروبيون والأمريكان- إزاء حدث السابعمن أكتوبر. كأن هذا الحادث شيء لا يمكن تفسيره، بينما يبدو مثل هذا الحادث شيئامتوقعا لأي إنسان يقرأ التاريخ أو يقرأ الواقع؟!

ربما تكون الدهشة حقيقية إزاء الجرأةالتي أبداها المقاتلون في قطاع غزة، وإزاء قدرتهم على تنفيذ هجوم بهذا الاتساع فيظل فارق هائل بين قدراتهم التقنية وبين القدرات الإسرائيلية، لكن هذا جزء فنيتفصيلي لا يتعلق بتفسير الحدث وفلسفته، بل يتعلق بإجراءاته وأدواته، بمعنى أنه إذاأخفق المقاتلون من غزة في هجومهم هذا تماما، فلن يكون المدهش هنا هو: لماذا فعلواهذا وأقدموا على هذا الهجوم الانتحاري؟

إن العالم كله –بخلاف الغربيين بالطبع-يفهم تماما لماذا قام المقاتلون في غزة بهجوم السابع من أكتوبر، بل الواقع أن هذاالهجوم كان متوقعا تماما، بل لم يكن يمكن توقع شيء آخر، فهذا هو منطق التاريخ،ومنطق الطبيعة البشرية، ومنطق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ومنطق الصراع حين لايمكن حله بالوسائل السلمية، ومنطق كل إنسان متدين حين يرى مقدساته الدينية واقعةتحت التهديد. إن كل شيء كان يقول: سيقع مثل هذا الحادث، إن لم يكن في السابع منأكتوبر 2023م، فربما في الثامن من نوفمبر 2024م، أو في التاسع من ديسمبر 2025م، أوفي أي تاريخ آخر.

"التاريخ لم يبدأ في 7أكتوبر"

هذه هي الجملة الأشهر المتداولة فيالإعلام الغربي على لسان المتحدثين المتفهمين لهذا الحادث، تبدو جملة بديهيةوطبيعية ومفهومة، لكن تكرارها وشهرتها وتداولها يدل في الحقيقة على أذن غربية صماءوعلى عقل غربي مصمت لا يريد أن يسمع ولا أن يفهم. نعم، التاريخ لم يبدأ في 7أكتوبر، فلماذا يحاول الغربيون تجاهل التاريخ؟!

إسرائيل كيان لم يكن موجودا قبل 1948م،مؤسسو إسرائيل أنفسهم كانوا يحملون جوازات سفر كُتب عليهم أنهم من"فلسطين"، العملات النقدية التي لا تزال موجودة ويمكن ببساطة البحث عنصورها على الانترنت مكتوب عليها "فلسطين"، طابور من الأدلة لا يمكندحضه، أي كتاب قد صدر قبل 1948، أو أي أطلس للخرائط لا يكتب فيه شيء عن "دولةإسرائيل"، بما في ذلك الخرائط الغربية نفسها!

فما الذي حدث إذن؟!

الذي حدث بكل وضوح أن الاحتلال الغربي،البريطاني تحديدا، سيطر على هذه المنطقة وقرر أن يمنحها لليهود، في تجاهل تام لكونهذه الأرض يحيا عليها شعب آخر عريق لم ينقطع وجوده منذ بدأ التاريخ المعروف. وإذن،كيف برر الغربيون ذلك؟ ببساطة شديدة اعتبرهم تشرشل مجرد حيوانات، وقال مقولتهالشهيرة: إن الحظيرة لن تكون أبدا ملكا للثور لأنه نام فيها طويلا!

تفاصيل كثيرة يعرفها المؤرخونوالباحثون، بمن في ذلك المؤرخون الإسرائيليون، خلاصتها: جرى تهجير وإبادة عدد منالقرى والمدن الفلسطينية، والإتيان بأمواج وأفواج من المهاجرين اليهود من كل بلادالعالم، وقبل نهاية المشهد كان لا بد من غطاء قانوني لهذه العملية الإباديةالإحلالية، فخرج قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة، ليكون أول قرار فريد من نوعهيتحكم في مصير شعب، وينشئ دولة غريبة على أرضه، دون الرجوع إليه ولا استفتائه ولامعرفة رأيه!

وهكذا جاء شعب آخر، غُرِس في هذه الأرضبقوة السلاح، بعد سلسلة من المذابح المشهورة، ثم بعد حرب هزلية خاضتها قوات عربيةمحدودة كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني نفسه، بقيادات عسكرية بريطانية، لتثبيتقرار إنشاء الدولة اليهودية.

حسنا.. فماذا حصل بعدها؟!

حتى الآن، وربما هذه معلومة لا يعرفهاالغربيون، لا تعترف إسرائيل بحدودها، بل –ويا للطرافة- ترسم على علمها وتكتب فيوثائقها ويتكلم الكثير من المسؤولين فيها بأن حدودها تمتد من النيل إلى الفرات!..أي أن حدود 1948م، لم تكن إلا قطعة الأرض الأولى التي ستتوسع منها الدولة.

لا يعرف الغربيون أيضا –فيما عداالباحثون والمؤرخون- أن إسرائيل لم تُهاجَم أبدا من قبل أي دولة عربية، إن طبيعةالأنظمة العربية من جهة، وطبيعة الدعم الغربي المتدفق دائما من جهة أخرى، كان يجعلإسرائيل دائما في موقع الهجوم والاستيلاء على الأرض. ويمكن لأي قارئ لا يصدق أنيرجع إلى أرشيف الأمم المتحدة، ويمسك بأي تقرير لتقصي الحقائق عن الخروقات لخطوطالهدنة بين الدول العربية وإسرائيل، وسيرى ذلك بنفسه!

بعد نحو عشرين عاما من التأسيس جاءالتوسع الثاني؛ في 1967م احتلت إسرائيل سائر فلسطين التي لم يكن بقي منها حينئذإلا قطاع غزة (تحت الإدارة المصرية) والضفة الغربية (تحت السيادة الأردنية)، وشبهجزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية. وجاء توسع ثالث في 1982 لتحتلإسرائيل الجنوب اللبناني، ولا تزال بعض المناطق اللبنانية خاضعة للاحتلال.

استطاع المصريون شنّ هجوم مفاجئ في 6أكتوبر 1973م، ثم مدوا أيديهم بالسلام، ووقعوا اتفاقية السلام (1979م)، ولم يحصلواعلى كامل أرضهم إلا بعد عشر سنوات في (1989م) بعد مفاوضات مضنية وتحكيم دولي،وتنازلوا عن بعض أرضهم مثل قرية أم الرشراش، وعن سيادتهم على أراضٍ أخرى متاخمةلإسرائيل (في نسختها التوسعية الثانية). كذلك تنازل الأردنيون عن الضفة الغربية(1988م)، ووقعوا اتفاقية سلام أخرى (1994م)، وما زال السوريون لم يسترجعوا أرضهمحتى هذه اللحظة!

إذا وضع القارئ نفسه مكان الفلسطينيالذي جرى احتلال أرضه، ويجب ملاحظة أن الأرض الفلسطينية تحتوي على مقدسات إسلاميةومسيحية تهم الجميع، ولئن كان المسيحيون الغربيون قد تخلوا عن مقدساتهم فيما يبدو،فهذا الأمر لم يفعله المسلمون حتى الآن. في الواقع لدى الغربيين نفاق فظيع فيمايخص إسرائيل تجعلنا في العالم العربي نرى إسرائيل كنسخة أخرى من الممالك الصليبيةفي القرون الوسطى، بل أسوأ، لأن إسرائيل تعتدي بالفعل على المقدسات المسيحية دونأن يهتم الغربيون لهذا كثيرا.

ليس هذا موضوعنا الآن، ولكن: الفلسطينيالذي يريد تحرير أرضه، كما هي طبيعة كل إنسان يقع تحت الاحتلال، لا بد له أنيقاوم، حتى لو كانت مقاومته هذه تبدو عبثية وغير ذات فائدة، هذا هو الأمر الذيفعلته كل الشعوب عبر التاريخ. ليس شيئا عجيبا ولا غير متوقع! يعرف من قرأ التاريخأن الاحتلال الإحلالي الإبادي الذي يريد سحق شعب وإسكان آخر مكانه، إما أن ينجح فيالإبادة (كما فعل الأوروبيون في الأمريكتين وأستراليا) أو سيبقى يواجه موجاتمتجددة من المقاومة، مثلما أخفق نفس هؤلاء الأوروبيون في سائر المناطق الأخرى عبرالعالم واضطروا إلى تصفية الاستعمار والبحث عن بدائل أخرى توفر لهم الهيمنة دونالوجود العسكري والحكم المباشر. كما هو الحال الآن!

في أواخرالثمانينات من القرن الماضي انطلقت انتفاضة شعبية، تبدو عبثية تماما، ماذا يفعلشعب ليس عنده إلا الحجارة أمام دولة إسرائيل المدججة بالسلاح، يمكن للقارئ أن يبحثقليلا في الانترنت ليرى كيف كان الجنود يُمسكون الفلسطيني فيكسرون ذراعه لئلا يلقيبالحجارة مرة أخرى! سيرى خلال بحثه كيف أن المرأة العجوز تحمل طفلا صغيرا بيدهااليسرى وتلقي الحجارة بيدها اليمنى! يبدو المشهد عبثيا حقا، حتى إن كثيرا من جنودالاحتلال الإسرائيلي كان يطلق النار ثم يضحك عائدا لرفاقه!

غير أن هذهالانتفاضة، لأنها تنسجم مع الدين والتاريخ والطبيعة البشرية، كانت واسعة وشاملةومفاجئة، سرعان ما تطورت إلى عمليات –تبدو عبثية أيضا- للرمي بالمقلاع والطعنبالسكين ووضع الحجارة في طريق مدرعات الاحتلال. ساعتها فكر الإسرائيليون والغربيونفي امتصاص هذه الانتفاضة عبر تكوين سلطة فلسطينية، تتولى هي تأمين المناطقالفلسطينية في غزة والضفة الغربية، التأمين هنا بمعنى حماية الاحتلال، وتتولىإدارة الشؤون اليومية لهؤلاء، هذا هو الذي يُعرف باتفاق أوسلو. فرض علىالفلسطينيين تأمين إسرائيل مقابل مفاوضات مفتوحة لم تنجح أبدا!

سار ياسرعرفات في هذا المسار عشر سنين، ولم يحقق شيئا، بل الأغرب، أن الحكومة الإسرائيليةالتي تأتي بها الانتخابات كانت تملك أن توقف مسار المفاوضات أو تلغيه، وبالفعل:قدم عرفات كل ما يمكن تقديمه لإيهود باراك في كامب ديفيد الثانية (2000م)، ولكنباراك لم يُرضه هذا. وفشلت المفاوضات. ومنذ ذلك الوقت كانت الحكومات الإسرائيليةضد فكرة الدولة الفلسطينية أساسا!

قُتِل عرفاتبالسُّمّ في (2004م)، ولم يستفد عرفات أي مكسب من القمع الذي سلطه على الفلسطينيينلتأمين إسرائيل، وجيئ بعده بمحمود عباس الذي يبدو أكثر "مرونة"واستعدادا للتنازل عن أي شيء، لكن محمود عباس لم يجد أبدا أي شريك للتفاوض، مع أنهمنذ عشرين سنة يعمل بكفاءة تامة في قمع الفلسطينيين ومطاردة من يريد مقاومةإسرائيل، وتعمل أجهزة الأمن الفلسطينية بكفاءة نادرة في التعاون مع الأجهزةالإسرائيلية، وكثيرا ما جرى تسليم فلسطينيين لإسرائيل، أو قتلهم تحت التعذيب فيسجون السلطة الفلسطينية!

لكن عباسا كانيريد أن يحوز نوعا من الشرعية، فأجريت انتخابات فلسطينية –برضا إسرائيلي- (2006م)غير أنها جاءت بمفاجأة صاعقة: لقد فازت حركة حماس في الانتخابات. وساعتها حدث مشهدجديد لم يكن يتوقعه أي مراقب في العالم: الغرب الذي يعتنق دين الديمقراطية رفضالاعتراف بالانتخابات النزيهة، وقرر مقاطعة الحكومة المنتخبة وفرض حصارا علىفلسطين.

حاولالمهزومون في الانتخابات اغتيال الفائزين بها، نفذت السلطة حركة انفلات أمنيواسعة، ولكن حركة حماس –القوية في غزة- استطاعت صد الأجهزة الأمنية في غزة عنمحاولاتها، فقرر محمود عباس الانقلاب على الانتخابات فحلَّ الحكومة المنتخبةوانفرد بحكم الضفة الغربية.

ومنذ ذلكالوقت (2007م) وحتى (2023م) عاشت غزة تحت حكم حماس حصارا هائلا أدى لكثير منالوفيات فضلا عن الحياة التي لا تطاق، لقد كانت أكبر سجن في العالم.

وفوق ذلك،حكومة نتنياهو التي يعاد انتخابها دائما، تخطط لكثير من الإجراءات التي تهودالمسجد الأقصى وتقرر اقتراب البدء بهدمه، وتسمح للمستوطنين والجماعات الدينيةالمتطرفة بتنفيذ طقوس شعائرية تشي بقرب تحطيمه!

إن كنت أنتمكان الفلسطيني، بالذات لو كنت في غزة، أخبرني إذن.. ماذا كنت ستفعل؟!

ماذا ستفعل،وقد فشلت محاولات السلام، فشلت المفاوضات، انسحبت الدول العربية الداعمة منالمعركة، يقترب هدم المسجد الأقصى، تعيش في حصار لا نهاية له!!

إن كان لديكجواب غير السابع من أكتوبر.. تفضل أخبرنا به!

نشر في مجلة أنصار النبي - سبتمبر 2025


طلبت هذاالمقال صحيفة أوروبية واسعة الانتشار، ثم لم تنشره! وها هو ينشر الآن على صفحاتمجلة "أنصار النبي صلى الله عليه وسلم"

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 04, 2025 10:28
No comments have been added yet.