لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟
من أعجب ما يأخذ النظر والفكر أنتُسَمَّى سورة البقرة بهذا الاسم!
ذلك أن هذه السورة هي أطول سور القرآنالكريم، تشغل ما يقرب الجزئين ونصف الجزء من الثلاثين جزءا التي هي كل القرآنالكريم، ثم هي حافلة بآيات القصص والأخبار، وحافلة بآيات الأحكام والشرائع، وحافلةبآيات الوعظ والترغيب والترهيب..
فلماذا من بين كل هذا المشهد الحافل،سُمِّيت باسم: البقرة؟
(1)
خلاصة قصة البقرة المذكورة في السورةالكريمة أن رجلا من بني إسرائيل قتل آخر، فأصبحوا وقد عرفوا القتيل وجهلوا قاتله، فذهبواإلى نبيهم وزعيمهم موسى –عليه السلام- ليسأل الله أن يدلهم عليه، ثم عاد موسى يقوللهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
فاستغربوا الطلب وقالوا: أتتخذناهزوا؟!
قال موسى: أعوذ بالله أن أكون منالجاهلين (أي: المستهزئين)، والمعنى: أن هذا أمرٌ من الله لهم، والله مطلع عليهموعالِمٌ بأنهم الآن ينشغلون بأمر القاتل.
فلما ظهر لهم أن هذا أمرٌ من اللهأبلغهم به رسوله، طفقوا يسألون عن البقرة!
قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟
فسأل موسى ربه ثم عاد إليهم يقول: إنهيقول إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكر، أي: لا هي مُسِنَّة ولا هي صغيرة، وإنما وسط بينذلك. فافعلوا ما تُؤْمَرون.
فعادوا يقولون ويسألون: ادع لنا ربكيبين لنا ما لونها؟
فعاد إليهم موسى يخبرهم قول ربهم: إنهابقرة صفراء، بل شديدة الصفار (فاقعٌ لونها)، وفوق لونها الأصفر فهي حسنة الشكل(تسُرُّ الناظرين).
ومع هذا فقد عادوا يسألون مرة أخرىسؤال الذي يتحير لكثرة ما عنده من الاختيارات: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، إنالبقر تشابه علينا. فكانوا هذه المرة يسألون: هل هي سائمة أم عاملة؟
فجاءهم الجواب من ربهم على لسان موسىعليه السلام: إنها بقرة لا عاملة، فهي لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، وهي خاليةمن العيوب، وخالية من أي لون غير الأصفر.
وقد وردت تفاصيل كثيرة في كتب التفسيرتصف بحثهم عن هذه البقرة، نتجاوزها الآن اختصارا، إلا أنهم وجدوها في النهاية،وغالى صاحبها في ثمنها كثيرا، فاشتروها وذبحوها!
فأمرهم الله تعالى أن يضربوا هذاالقتيل بجزء منها، قيل: بلسانها أو بذيلها، فلما ضربوه، قام من موته فقال: قتلنيفلان وفلان.
فكان هذا درسا عمليا لبني إسرائيل علىقدرة الله تعالى وإحيائه الموتى.
هذه خلاصة القصة، ولمن شاء التوسع،فعليه بكتب التفسير.. ولكن السؤال الذي يهمنا الآن: لماذا سُمِّيت هذه السورةالطويلة الحافلة باسم البقرة، البقرة التي هي بطل هذه القصة؟!
(2)
من قرأ سورة البقرة وأطال النظر فيها،وجد أنها رغم هذا الطول والتنوع والاحتشاد بالآيات تكاد تكون على قسميْن؛ القسمالأول: أخبار بني إسرائيل. والقسم الثاني: تشريعات إسلامية! وأما ما قبل هذينالقسمين أو ما بعدها فآيات قليلة للغاية.
فأما القسم الأول، وهو أخبار بنيإسرائيل، فهو يذكر إعراضهم عن رسالة نبينا محمد ﷺ، ويعيدتذكيرهم بما كان منهم في حق موسى عليه السلام من إتعابه وإرهاقه، ومن استعصائهمعليه، واتخاذهم العجل بعد أن نجاهم الله من فرعون، وقائمة طويلة طويلة من عصيانهمواتباعهم الباطل، وصلت إلى حد القول الصريح {سمعنا وعصينا}، وهو القسم الذي يستمرحتى مطلع الجزء الثاني.
وأما القسمالثاني، وهو التشريعات، فآيات كثيرة في تحويل القبلة والحج والمباح من الطعاموالمعاملات وأحكام في الصيام والوصية والزواج والطلاق والخلع والخمر والجهاد والحجوالنفقة والربا والدَّيْن والرهن، تستمر من مطلع الجزء الثاني حتى نهاية السورة.
ويتداخل القسمان بطريقة القرآن العجيبةالتي لا تشعر معها بالانتقال من خلال قصة تحويل القبلة، فلقد كان هذا الحدث هوالباب الذي انتهت إليه وخُتِمت به أباطيل بني إسرائيل وأساليبهم في الصد عن دعوةالإسلام، وكان هو نفسه الباب الذي ابتدأ به الحديث عن الأحكام الخاصة بأمةالمسلمين.
فإن القارئ يدخل إلى قصة تحويل القبلةوهو يظن نفسه ما يزال في أخبار بني إسرائيل وأساليبهم في التكذيب والنكران، فمايخرج منها إلا وقد ابتدأ في رحلة تلقي الأحكام.
ولقد بدا هذان القسمان واضحيْن لكثيرمن العلماء الذين تناولوا سورة البقرة، ودارت عبارتهم حول معنى الربط بين هذيْنالقسميْن، وكيف أن هذه السورة:
1. قد قُسِمَتْ بين أمة الدعوة (بنيإسرائيل) وأمة الإجابة (أمة الإسلام).
2. وأنها سورة نزع الخلافة من بني إسرائيل(وهذا قسمها الأول) وتكليف المسلمين بها (وهذا قسمها الثاني).
3. وأنها سورة بناء المجتمع المسلم علىنحو النهي والأمر: النهي عن أن يكونوا مثل بني إسرائيل، والأمر بإطاعة ما نزلإليهم من التشريعات.
وبهذا التوضيح لموضوع سورة البقرة نكونقد اقتربنا خطوة مما نريد فهمه، وهو: لماذا من بين سائر هذه المواضيع سُمِّيتالسورة على وجه التحديد باسم: البقرة؟
(3)
سورة البقرة هي أول سورة نزلتبالمدينة، واستمر نزولها طوال الفترة المدنية، فهي التي رافقت الجماعة المسلمةالأولى وهم يعايشون اليهود، وأخذت في تشييد بنائهم التشريعي حتى آخره، حيث نزلتحريم الربا في آخر الفترة المدنية، وفي نهاية الآيات التي نزلت تحرم الربا نزلتآخر آية من القرآن الكريم وهي قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِإِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: 281].
وقد سمعت من بعض مشايخنا أن الجزءالأول من هذه السورة إنما هو بيان لأعداء الأمة الإسلامية، فهو التنبيه الربانيلعباده على الفئات التي ستنابذهم العداء وستقف في طريقهم.
ولهذا، فبعد مقدمة قصيرة للغاية عنصفات المؤمنين، تأخذ الآيات في وصف الأعداء الأربعة على هذا الترتيب: الكافرون، المنافقون،الشيطان، اليهود.
ومن العجيب المثير للتأمل أن يكونالوصف على هذا النحو:
1. تكون البداية بالكافرين، وكان نصيبهمآيتيْن فحسب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْلَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَىسَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6، 7].
2. ثم يأتي الحديث عن المنافقين، فإذا بهيستغرق اثني عشرة آية!
3. ثم يأتي الحديث عن الشيطان الذي أغوىأبينا آدم وأزله عن الجنة فتستغرق القصة كلها تسع آيات!
4. ثم يأتي الحديث عن اليهود فيستغرق أكثرمن مائة آية!!
فكأن الخطر الذي يمثله اليهود على أمةالإسلام ودعوته أشد من خطر بقية الأعداء الثلاثة: الكفار والمنافقين والشيطان!
(4)
والآن، إذا حاولنا أن نربط كل هذاالكلام بعضه ببعض، لوجدنا أن قصة البقرة هي القصة الجامعة لكل موضوع سورة البقرة،فكأنها قلبُ السورة، إذ نرى أن المعاني الكامنة فيها هي المعاني التي تنتشر فيبقية السورة، كأنما هي قلب تنبعث منه الشرايين والأوردة! فما من معنى في هذهالسورة الطويلة الحاشدة إلا وهو كامن في قصة البقرة!
وتعال تأمل معي:
إن في قصة البقرة تحذير من الله ونهيلعباده المسلمين أن يجادلوا في الأحكام النازلة إليهم كما فعل بنو إسرائيل فيالأمر الذي جاءهم مع أن فيه مصلحتهم وفيه كشف سر القاتل الذي يبحثون عنه.. فهذهالقصة هي أنسب القصص التي يجب أن يفهمها قومٌ يُعدّهم الله تعالى للرسالة الخاتمة،ويتهيؤون لكثير من الأحكام التي ستنزل عليهم.
فهذه السورة الحافلة بالأحكام والتشريعاتفي قسمها الثاني تناسب قوما يقولون: سمعنا وأطعنا.. قوما يعرفون أنه لا ينبغي لهمأن يجادلوا في أحكام الله وأوامره ونواهيه كما فعل أصحاب البقرة.. قوما يعرفون أنجدالهم وكثرة سؤالهم يشدد الأمر عليهم ويزيده عسرا، وقد قال رسول الله ﷺ: "لوذبحوا أي بقرة كانت لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". فمنبعد ما كان المطلوب ذبح بقرة، أي بقرة، ظلوا يسألون ويتمحكون حتى صار المطلوب منهمذبح بقرة لا مسنة ولا صغيرة، صفراء فاقعة اللون، حسنة المنظر، لا تثير الأرض ولاتسقي الحرث، لا عيب فيها ولا يشوب لونها شائبة!!
وفي قصة البقرة تنبيه للمسلمين إلى هذهالطباع الخبيثة لبني إسرائيل، وما تنطوي عليه قلوبهم من عصيان الله وإرهاق نبيهم،ولقد سمعت بعض مشايخنا يقول: تأملوا، كيف يفاوض هؤلاء القوم؟!! إنهم يفاوضون فيبقرة! ويفاوضون ربهم في علاه! ووسيط التفاوض نبيهم الذي خلصهم وأنقذهم من العذاب:موسى! ويفاوضون على أمر نزل إليهم فيه مصلحتهم!.. فتأمل كيف يمكن أن يفعلوا معغيرهم من البشر، فيما هو أجل من البقرة، مع وسيط تفاوض لا يبلغ شسع نعل موسى عليهالسلام؟!
وهذا الفهم لنفسية اليهود هو ضروريلقومٍ سيحملون الرسالة الخاتمة، ويتحملون عبء الدعوة.. ضروري من جهتيْن على الأقل:
1. من جهة أن يتجنبوا هذه الطباعويحاربونها في أنفسهم فيعظمون ربهم ولا يرهقون نبيهم ولا يتكلفون في الدين ولايسألون عما لم يُبْد لهم، فبذلك يبقى فيهم شرف الرسالة فلا ينزع منهم كما نُزِع منبني إسرائيل.
2. ومن جهة أن يعرفوا عدوهم وطباعهوطرائقه في التمحل والتكلف والمناورة، فيتأهبون لذلك.
وإن في قصةالبقرة معجزةٌ تؤكد أصل الإيمان الكبير: وهو الإيمان بالبعث واليوم الآخر، وذلكحين أحيا الله القتيل أمام أعينهم، فنطق وتكلم بمن قتله، ثم عاد إلى موته. وقدأحياه الله لهذه الغاية، {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْآيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].
والإيمانباليوم الآخر، والحياة بعد الموت، هو الأصل الذي فرَّق بين المؤمنين والكافرين،فإن كثيرا من الكافرين يؤمنون بوجود الله، ويؤمنون بأنه خلق السموات والأرض، بلوبأنه خلق الناس.. فما كان أهل قريش يكفرون بوجود الله، ولكنهم لا يريدون الإيمانباليوم الآخر.
والسر في أنالكفار ينكرون اليوم الآخر ويرفضونه، ليس أنه متعذر عقلا، فإن الخلق من العدم،والإنشاء من النطفة، أصعب بكثير من الإحياء بعد الموت.. ولكن سر إنكار اليوم الآخرفي الحقيقة هو الرغبة في الحياة بلا تكاليف ولا تشريعات ولا مرجعية.. فاليوم الآخرهو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الثواب والعقاب.. فمن آمن به، وجد نفسهمضطرا من فوره إلى معرفة ربه، ومعرفة ما يأمر به وما ينهى عنه، ووجد نفسه مضطراإلى الطاعة والتسليم والاتباع!
فمن أرادالحياة وفق هواه وشهواته ومصالحه ومطامعه، كان أشد شيء يزعجه ويؤرقه وينغص عليهنفسه هو: الإيمان باليوم الآخر.
إن أكثرالكفار مستعدين للإيمان بإله لا أثر له في الحياة، لا أوامر له، لا نواهي له، لنيثيب ولن يعاقب ولن يجازي، ولن يبحث عن أحد أطاعه أو عن أحد عصاه، والموت نهاية كلحي.. إن مجرد الإيمان بوجود الإله أمر يتقبله الكفار ويتعايشون معه بلا مشكلات!
لكن الصراعالضخم الكبير الذي يملأ هذه الحياة هو الصراع حول الإله الذي له تعاليم وتكاليف،الصراع حول الإله الذي سيبعث الناس بعد الموت فيجازيهم؛ فيثيب الطائع ويعاقبالعاصي.. هنا يصطدم الحق بالباطل في هذه الحياة وعلى هذه الأرض، وهنا تكون المعركةالعظمى: لمن السيادة والمرجعية؟ من الذي يملك أن يقول: هذا حق وهذا باطل؟ من الذيله حق السمع والطاعة؟ ما الذي نفعله وما الذي نتجنبه؟
كل هذهالمعركة خلاصتها تكمن في هذه الجملة الواحدة: الإيمان باليوم الآخر.. وأكثر الذينلا يؤمنون بالله، إنما هم في حقيقتهم وأعماق فكرهم لا يؤمنون به فرارا من الإيمانباليوم الآخر.
لقد افترقالمؤمنون والكفار حول الإيمان باليوم الآخر مطلقا.. آمن به المؤمنون، وكفر بهالكافرون.
وافترقالمؤمنون وأهل الكتاب حول الإيمان باليوم الآخر أيضا، ولكن على جهة التفصيل، فقدزعم اليهود أنهم إن عوقبوا فلن يعاقبوا بالنار إلا أياما معدودة {وَقَالُوا لَنْتَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، فلهذا استخفوابالدين وبالتعاليم وبالشرائع، وكتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله،وارتكبوا قائمة طويلة من الجرائم.
ولهذا كان علىالمؤمنين أن يؤمنوا باليوم الآخر على هذا النحو: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةًوَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُالْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81، 82]، وذلك أنهم يتهيؤون لتلقيالتعاليم والتشريعات الكثيرة التي لا بد لهم من تنفيذها كما أنزلها الله إليهم،فليس بين الله وبين أحد نسب ولا صلة ولا قربى ولا محاباة!
(5)
من أجل هذا،كان لا بد للمؤمنين حملة الرسالة الخاتمة من الانتباه الدائم إلى هذه القصة، قصةالبقرة، القصة التي جمعت سائر أقطار هذه السورة الطويلة الحافلة، القصة التينبهتهم إلى عدوهم الخطير، وأخبرتهم بتاريخ الأمة التي نُزِع منها شرف الرسالة،وأعدتهم لطريقة التعامل مع التشريعات النازلة إليهم.
نسأل اللهتعالى أن يفقهنا وإياكم في كتابه وسننه.
نشر في مجلة "أنصار النبي"، إبريل 2024
للتوسعفي بيان سورة البقرة وموضوعها واجتهاد العلماء والمفسرين فيه، ينظر: تفسير المنارلرشيد رضا، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، وتفسير القرآن الكريم لمحمود شلتوت، والنبأالعظيم لمحمد عبد الله دراز، ودراسات قرآنية لمحمد قطب.


