{فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}

 

بينما نُعِدُّلهذا العدد الجديد، أخبرت أستاذنا الفنان الكبير د. علاء اللقطة الذي يصمم لناغلاف المجلة، بأن العدد سيحوم حول معانى الحج وغزة.. فما لبث أن جاءنا بهذا الغلافالبديع الذي حوَّل مسار مقالي هذا تماما.

كنت أخطط لأنأكتب حول هذه المعاني:

1. إن أولى ماينبغي الكلام فيه الآن هو: كيف ينبغي أن تستثمر الأمة موسم الحج في نصرة غزة، بدايةمن الدعاء ومرورا بالمقاطعة والحث على النصرة وتحريض المؤمنين، وانتهاء بالمشاركةبالمال والسلاح في هذا الجهاد الشريف.

2.ما أقرب الحج من الجهاد، وما أقرب الجهاد من الحج، وقد جاء الاقتران بينهما في عددمن أحاديث النبي ﷺ، كقوله ﷺ حين سُئل عن أفضل الأعمال: "إيمان بالله ورسوله،ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور".وكقوله ﷺ جوابا لسؤال عائشة رضي الله عنها: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟فقال ﷺ: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور".ولهذا فقد أتبع بعض العلماء الحديث عن الحج بالحديث عن الجهاد، كما فعلالإمام النووي في أشهر كتبه: رياض الصالحين. ففي كلا الأمرين: الحج والجهاد، يخرجالمسلم من حظ الدنيا ويترك الأهل والولد والديار، ويتعرض للصعاب والمشقات، وتفرضعليه العبادة الزهد في الدنيا من ملبس ومأكل ومشرب، ويقترب بنفسه وبقلبه من يومالقيامة والدار الآخرة. وفي كلا الأمرين: يرى المسلم نفسه متبعا لخطوات نبيه ﷺوخطوات الصدر الأول: إما في المكان كما هو حال الحاج، أو في الهدي والطريقةوالسبيل كما هو في الجهاد.

3.إن نصرة غزة الآن وبذل المال والجهد لها مُقدَّم على الحج، لا سيما إن كان حج النافلة،فإن الحج فريضة فردية لازمة ونصرة غزة فريضة يتعدى نفعها للأمة، وإن الحج فريضةعلى التراخي بينما النصرة الآن واجب الوقت الذي لا يحتمل التراخي. فمن كان يرجوثواب الله حقا لا حظ نفسه، فإن رضا الله في نصرة عباده.

4. إن الأنظمةوالحكومات التي تُصَعِّب طريق الحج وتقيم دونه الحواجز هي ذاتها التي تقطع الطريقعلى نصرة غزة وتقيم دون الجهاد فيها كل الموانع والحواجز. ومن الغريب المثيرللتأمل والتفكر أنهم يفتحون البلاد للسياحة ويسهلون زيارتها بغرض الترفيه والرقصوالطرب ومطالعة آثار الكافرين، ثم هم أنفسهم يعاقبون ويتشددون في تعقب من يزور بيتالله الحرام ومسجد نبيه ﷺ ويحيطون ذلك بجملة من التصريحات التي تصد عن سبيل اللهوعن بيته! فكل نظام يحاول أن يستصفي من أموال الحجاج ما استطاع، وهم يعرفون أن فيهذه الأمة من الفقراء والضعفاء من يقضي عمره كله يجمع الأموال ليحج إلى بيت اللهالحرام.. إن هؤلاء الذين يصدون عن المسجدين هم أنفسهم الذين فرطوا وخانوا المسجدالثالث، ويقفون الآن يدا واحدة مع الصهاينة في تهديده وتهويده وقتل المجاهدينالمدافعين عنه!

هذا ما كنتأنوي الكتابة فيه، حتى جاءني هذا الغلاف الذي ترونه لهذا العدد.. فدارت رأسي حقا،وأنا أتأمل وجها جديدا من الشبه والقرب لم أنتبه إليه:

1. هذه الخيامالتي ينزلها الحجاج، ما أقرب مشهدها بالخيام التي يأوي إليها النازحون المشردونالذين أفلتوا من نيران العدو الصهيوني وجحيمه!

2. وهذاالاغتراب عن البيوت والديار، ما أقرب الشبه فيه بين حاجٍّ وبين لاجئ، كلاهما قدفارق أهله، واستبدل بهم أهلا وجيرانا آخرين!

3. وما أقربالقائمين في هذه الخيام ممن يعظون أهلها عن المناسك والعبادة بالذكر، بالقائمين فيخيام النازحين يعظونهم في الصبر والثبات والاستبشار بنعيم الجنة وبالثواب العظيمالذي كتبه الله للمجاهدين وأهلهم الصابرين الثابتين.

هذه مشاهدالقرب.. ولكن، كما قيل: ما أقرب ما بينهما وما أبعده!

فهذه الخيامما أقربها في الشبه، ولكن ما أبعد ما بين الخيمتيْن من وسائل الراحة، وما أبعد مايشعره النازلون فيها من الأمن ومن الخوف، وما أبعد الأمل الذي يرفرف على خيامالحجاج من الكرب الذي يخيم على خيام اللاجئين!

ما أبعد مابين خيمة الحاج فيما مُهِّد لها من الطرق ومن الخدمة وما بين خيمة اللاجئ التييعاني فيها من الحصول على الطعام القليل، والماء الشحيح، وضرورات الحياة البسيطةالتي يحتاجها كل كائن حي!

ثم يأتي بعضأولئك فيفتخر بما يقدم للحجيج من وسائل الراحة من بعد ما استصفى أموالها من الحجيجومن المتصدقين والمتطوعين لخدمة ضيوف الرحمن، وهو نفسه الذي يساهم بأموال المسلمينالذين غلب عليهم في ذبح المجاهدين هناك وفتح الطرق البرية والجوية والبحرية لدعمالصهاينة وإسنادهم! فكأنما فيهم نزل قول الله تعالى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَالْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِالْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُلَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُواوَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُدَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 19، 20].

وبين المشهدينالمتشابهيْن والمتباعديْن، اختار صاحبنا الفنان أن يكتب قوله تعالى {فَاجْعَلْأَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]. فيا لحسن هذاالاختيار!!

كأنما استدارالزمان على هيئته مرة أخرى، وتقلبت صفحات اليوم ليشبه آخرها أولها:

ففي ذلك الزمنالبعيد نادى بها إبراهيم يسأل الله أن ينقذ زوجه وابنه المحرومين المحتاجين في أرضالجدب والصحراء، فما أشبه ذلك بحرمان المحاصرين الذين أغلقت عليهم المنافذوالمعابر حتى صار الطعام والشراب أثمن ما يحتاجون إليه! ما أشبه الكرب الذي كانتفيه هاجر وابنها الرضيع إسماعيل بالكرب الذي فيه الآن أهل غزة، لا نصير ولا ظهيرولا أنيس ولا رفيق، كم في غزة الآن من امرأة تشبه أمنا هاجر، تضرب الأرض وتأكلهاالحيرة بحثا عن شيء تطعمه ابنها الصغير الذي يوشك أن يموت من الجوع؟!

وقد استجابالله دعوة إبراهيم، فهذه الخيام الكثيرة التي نراها في الحج هي دليل الإجابة لذلكالنداء القديم البعيد، فلقد أقبلت الأفئدة تهوي إلى البيت العتيق، ومنها ستصدحالحناجر بالدعاء للمجاهدين والنازحين في غزة، وعسى الله أن يقر أعيننا فيستجيب!ونرى المواكب تسير إلى غزة ومنها إلى المسجد الأقصى، تلبي وتكبر وتتلو آيات الفتحالمبين!

وتأمل –أخيالقارئ- في أن إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه لم يبدأ بطلب الطعام والشراب، بل بدأ بطلبالأنس والرفقة والصحبة، طلب أن تهوي إليهم الأفئدة.. أن تذهب إليهم القلوب، ثمأردف بطلب الرزق من الطعام والشراب، قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِتَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37]. فلما أجابهالله تعالى أخرج لهم الرزق، ماء زمزم، ثم جاء لهم بالناس!

لكن الوقفة هنا هي في قول إبراهيم عليهالسلام {أفئدة}..

وقد ذكر المفسرون أن "أفئدة"يمكن أن تكون جمعا لكلمة "وفود"، أو تكون جمعا لكلمة "فؤاد"..فالمعنى قد يكون: اجعل وفودا من الناس تحنّ إليهم، وقد يكون: اجعل قلوبا من الناستحنّ إليهم.

ولا يتعارض المعنيان! فلربما حنَّتالقلوب وعجزت الأجساد كما هو حال من لم يستطع أن يحج ومن لم يستطع أن يغيث غزة فيكربها، فعجزت الوفود عن الوفود! ولربما قست القلوب فلم تحنّ ولم تهوي فذلك هوالكفر والجحود والإعراض عن أمر الله بالحج، وذلك هو الخيانة والخذلان والإعراض عنأمر الله بنصرة المسلمين المستضعفين المكروبين.

ولهذا استعاذ نبينا ﷺ، وعلَّمناأن نستعيذ في كل صباح ومساء، من العجز والكسل.. فالعجز هو وجود الإراد وافتقادالقدرة، والكسل هو وجود القدرة وافتقاد الإرادة!

نعم، المعركة معركة قلوب في المقامالأول، ثم هي معركة قدرة في المقام الثاني.. وبهما يكون الظفر، وقد قال الشاعرالذي وجد القدرة ولم يجد العزيمة:

وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ..إذا لم يكن فوق الكرام كرام

وقال الآخر الذي وجد العزيمة وفاتتهالقدرة:

لا تلم كفِّي إذا السيف نبا .. صح منيالعزم، والدهر أبى

ولئن كان حجاج بيت الله الحرام قدأكرمهم الله بالقدرة والهمة، فها هي الأمة كلها تقف عاجزة أمام إخوانهم في غزة، بلكثير من قلوب غير المسلمين تحركت لأجل غزة وما استطاعت أن تغيثها حتى الآن بماينفع!

وهذا هو المشهد:

قومٌ يملكون أن يفعلوا ولكنهم قلوبقاسية لا تلين ولا تحن، هي قلوب الأعداء المجرمين من الصهاينة، وقلوب من يساندهممن الغربيين والأمريكان، ثم قلوب من يخدمهم من أنظمة الخيانة والعمالة.. قلوبٌ لاتؤثر فيها الدماء ولا الدموع ولا الأشلاء.. قلوب من الصفوان الصلد الصلب! قلوبٌوصفها الله تعالى بقوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّمِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَايَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْخَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].

وقومٌ لا يملكون أن يفعلوا مهما تقطعتقلوبهم وتمزقت أحشاؤهم وضاقت عليهم نفوسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ومنهم منتعرض في سبيل نصرة غزة بالكلمة والتغريدة ورفع العلم والهتاف إلى السجن والتنكيلوالحرمان من شهادته الجامعية ومن العمل... إلخ! بل منهم من قُتِل كما وقع قبليومين من كتابة هذا المقال عن الجنود المصريين الذين أطلقوا النار على قوةإسرائيلية عند معبر رفح، فنشبت معركة استشهد فيها جنديان.

لقد شرع الله هذه العبادات الجامعةلمقصديْن كبيريْن: تطهير القلب والشعور بوحدة الأمة. فالمرء المسلم حين يصلي فيعرفأنه في نفس هذا الوقت يصلي المسلمون مثله حول العالم، وحين يصوم في رمضان فيعرفأنهم يصومون مثله في نفس هذا الشهر حول العالم، ثم هو حين يحج يرى إخوانه وقدجاؤوا إلى هذه البقعة ذاتها من كل فج عميق! في كل عبادة من هذه يتقارب المسلمون؛بداية من أهل الحي الواحد الذين تجمعهم الصلوات الخمس، وحتى أهل المعمورة كلها حينيجمعهم البيت الحرام.

وليس يمكن أن يوجد مسلم يلتزم بدينه ثمهو لا يشعر بإخوانه المسلمين حول العالم، فكيف إذا كانت مآسي المسلمين قد أيقظت منكان في قلبه مثقال حبة من خردل من فطرة ولو كان كافرا؟!!

إذا لم تهوي أفئدة المسلمين الآن إلىغزة وإلى السودان وإلى المسلمين في الهند وفي بورما وفي تركستان، فأين ستهوي وأينستذهب؟!

وإذا هوت الأفئدة والتقت الوفود، فهليعقل أو يقبل أن يمضي هذا الاجتماع وينفض كأن لم يكن؟!

ما كان هكذا حج المسلمين منذ زماننبيهم ﷺ، بل كان الحج هو مؤتمر المسلمين الأكبر،وهو مشهدهم الأعظم، وهو ملتقاهم الأضخم، فمن أكرمه الله بالحج فلا يفوت هذه الفرصةفي نصرة إخوانه المكروبين، ومن لم يكن من أهل الحج في هذا العالم فليعلم أن واجباأعظم من الحج في انتظاره: وهو واجب نصرة المسلمين المستضعفين المظلومين! وكل امرئأعلم بما يستطيع!

فإذا صدقتالأفئدة، التي هي القلوب، ظهر هذا في العمل، كما قيل: من صحّ منه العزم أُرْشِدللحيل، وهو مأخوذ من قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْسُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ومن قول نبينا ﷺ:"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله،ألا وهي القلب". 

كذلكإذا صدقت الأفئدة، التي هي الوفود، ظهر ذلك في الظفر، وقد قال تعالى {إِنْتَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقالتعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْوَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوابِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍوَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174، 175].


نشر في مجلة "أنصار النبي ﷺ"، يونيو 2024

البخاريومسلم.

البخاري.

البخاريومسلم.

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 04, 2024 15:23
No comments have been added yet.