أنوار الدجى
لا بد للأمة المستضعفة التي تحاولالنهوض من تقديم الشهداء في سبيل ذلك، هذا قانون الدنيا الذي يعرفه المسلموالكافر، الصالح والطالح، بل هو إجماع العقلاء!
ولئن كان المرء يعرف بالبديهة والطبعأنه لا نجاح في الدنيا بغير التعب والجهد، فبمثل ذلك –بل هو أولى منه- أن لا نهضةلأمة ولا عز لها ولا مجد ولا جاه إلا ببذل الشهداء! فما وصلت أمة إلى السيادة إلىبعد طريق الكفاح المرير! وانظر حولك وفتش في الأمم وفي التاريخ: هل رأيت أمة غلبتوسادت إلا بعد أن انتصرت في المعارك؟!
ولهذا ترى الأمم تمجد شهداءهاومقاتليها أكثر مما تمجد مهندسيها ومعمارييها وفنانيها، فلولا الحروب والانتصارفيها ما استطاع المهندس والمعماري والفنان أن يصنع شيئا! فالمقاتل والشهيد همصُنَّاع المجد وأساسه، وأما البقية فهم أصحاب زخرفته وتزيينه وتلميعه!
وقد صدق شوقي حين قال:
ولا يبني الممالك كالضحايا .. ولايُدْني الحقوق ولا يُحِقُّ
ففي القتلى لأجيال حياة .. وفي الأسرىفدى لهمُ وعتق
وللحرية الحمراء باب .. بكل يد مضرجةيُدقُّ
(1)
ليست أمتنا في قوانين الدنيا بدعا منالأمم، ولكنها كذلك في المعاني التي تهيمن عليها وتصوغ نفسها ومزاجها، فلن تنتصرأمتنا ولن تنهض ولن تسود إلا إذا خاضت المعارك وانتصرت فيها ووضعت خيرة أبنائها فيمنازل الشهداء. لكن الشهداء في ديننا ليسوا الثمن المدفوع في سبيل المجد فحسب،ولكنهم السادة الراقون إلى ذروة سنام الإسلام! الصاعدون إلى أعالي الجنان!
ولأن الله هو خيرُ من سُئل وأجود منأعطى وأوفى من وعد، فإنه كافأ الذين بذلوا حياتهم له تصديقا بما وعد وتنفيذا لماأمر، كافأهم بدوام الحياة، ولهذا قال تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِيسَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِأَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَاآتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوابِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُأَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171].
قال إمام التفسير ابن عطية الأندلسي فيهذه الآية: " أخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون.هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حيةكأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيادائمة لهم".
وأخبرنا نبينا أنه ما من أحد يدخلالجنة فيتمنى أن يعود إلى الدنيا، إلا الشهيد، وهو إنما يتمنى ذلك ليعاود القتالفيُقتل من جديد، ففي حديث أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجعإلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتلعشر مرات لما يرى من الكرامة».
ولقد تمنى نبينا ﷺ هذه المنزلة لنفسه،وهو أفضل البشر وسيد المرسلين، ففي حديث أبي هريرة أنه ﷺ قال: والذي نفسي بيده،لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأُقتل، ثم أحيا ثم أُقْتَل، ثم أحيا ثم أُقتل!
بل إن الذي خرج إلى الجهاد، حتى لو لميُقْتَل ولم ينل الشهادة، يعطى من الأجر ما لا يعطاه أحد غيره، وقد سُئل ﷺ عن عمليعدل الجهاد، فقال: «لا أجده». ثم قال ﷺ: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخلمسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟. ثم أضاف أبوهريرة، راوي الحديث، عبارة تفسيرية مدهشة يقول فيها: «إن فرس المجاهد ليستن فيطوله، فيكتب له حسنات»،أي أن المجاهد يُعطى أجرا على المرح الذي يمرحه حصانه!!
والآيات والأحاديث في فضل الشهادةوالجهاد كثيرة لا يستوعبها هذا المقام..
(2)
المقصود أن هذا الحشد الحافل من النصوصالقرآنية والنبوية، ومعها تلك السيرة المزدحمة بأخبار الشهادة والجهاد منذ زمنالنبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم، كل هذا قد جعل أمتنا دفاقة بالمجاهدين فياضةبالشهداء، ولولا هذا كله ما بلغنا السيادة والتفوق والعزة التي كنا فيها لألف سنةتقريبا، لقد بُنِي هذا المجد كله على صرح من الأشلاء والجماجم التي بذلها أصحابهافي سبيل الله!
وقد استطاع المسلمون أن يوازنوا بينأمريْن لا يمكن لغيرهم الموازنة بينهما، فهم قوم يكرهون القتال، كما وصفهم ربهم فيالقرآن الكريم، ويُقَدِّمون عليه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبدؤون دعوتهمبالحجة واللسان والبيان، فإذا تعذر ذلك أقدموا على الجهاد إقدام من يحب الموتويطلبه ويشتاق إليه ويتعشقه! وما ذلك إلا لأنهم علموا أن الخير فيما كتبه اللهوقدَّره، وهو العليم، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌلَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْتُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
ومن هنا فقد كان جهاد الأمة مفارقاللوحشية التي اصطبغت بها حروب الأمم الجاهلية، وكانت أخلاقها عاصمة لها من تكرارسيرة الغزاة السفاحين السفاكين. وفي ذات الوقت لم يكونوا الجبناء المتخاذلين ولاالضعفاء الخوارين!
قال مؤرخان فرنسيان نظرا في تاريخالإسلام بين تاريخ الأمم: "الإسلام دين أبطال أكثر منه دين شهداء، ففور وفاةالرسول، ستنطلق القوة الهائلة التي كان قد أنشأها لفتح العالم"،وقولهما: دين شهداء إنما قصدوا به المعنى النصراني للشهادة، معنى الموت المستسلمأمام طواغيت الدنيا لأن ملكوت الرب لن يتحقق إلا في الآخرة.
وكما يقول ولفرد كانتول سميث: "النصرانيةأرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياةالدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أماالإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا فيالآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخكلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية فيالإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح مااعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمامعجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسهالعجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيحمسارها وردها إلى الصراط المستقيم".
إن هذه المعاني الفكرية المنحوتة التياستخلصها أصحابها بعد البحث والتأمل تتسرب إلى المسلم وتتشربها الجموع المسلمة فيسلاسة وعذوبة وروحانية رفيعة في مصادرها الإسلامية، وخذ هذا المثال: لقد كتب ابنالنحاس كتابا في فضل الجهاد والشهادة، فأسماه بهذا الاسم الفاخر: "مشارعالأشواق إلى مصارع العشاق، ومُثير الغرام إلى دار السلام"، وقال في مقدمته:
"ومما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم،وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفسذائقة الموت، وأن ما قدر أزلا لا يُخْشَى فيه الفوت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف،وأن الرِّيَّ الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمهالله على النار، ومن أنفق دينارا كُتِبَ بسبع مائة -وفي رواية- بسبع مائة ألفدينار، وأن الشهداء حقا عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ منالجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له من جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يُشَفَّع فيسبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه أَمِن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لايجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموتعلى الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم فيسواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النارَ عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عملهالصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوما من أيامه، وأن رزقه يجري عليهكالشهيد أبدا لا ينقطع، وأن رباط يومٍ خير من الدنيا وما فيها أجمع... إلى غير ذلكمن الفضل الذي لا يضاهى، والخير الذي لا يتناهى. وإذا كان الأمر كذلك فيتعين علىكل عاقل التعرض لهذه الرتب وإن كان نيلها مقسوما، وصرف عمره في طلبها وإن كان منهامحروما".
(3)
من نظر في التاريخ عرف بغير كثير ونظروتعب أن ما نحن فيه الآن من الذلة والضعف إنما كان بسبب التهاون في الجهاد،والتراخي فيه، حتى تركه بالكلية. فما إن وقع التكاسل في باب الجهاد هذا حتى بدأتالأمة يُنتقص من أطرافها، ويدخل عدوها عليها، حتى صرنا إلى هذا الحال الذي نحنفيه.
ولأننا اليوم أمة مستضعفة فلا بد أنتتنوع فينا أنواع القتل، وتتكاثر فينا أصناف الشهداء:
فثمة من يقتل في جهاد يدفع بها الكفرةالمحتلين، كما يفعل أهل غزة وأهل فلسطين الميامين وهم يدفعون الصهاينة ويصاولونهم،يوقفون أنفسهم على مهمة حماية الأقصى أن يُهْدَم وأن يُستباح وأن يعود كما كان فيأيام الصليبيين حظيرة خنازير، أو كما يراد له أن يكون في خيال اليهود: معبدًايُساء لله فيه!
وثمة من يقتل في جهاد الجبابرةوالطواغيت، عملاء المحتلين الذين يبغضون الدين ويطاردون المؤمنين ويُمَكِّنون فيأرض الإسلام للصهاينة والصليبيين والوثنيين، كما يفعل أهل الثورات والجهاد المباركفي الشام وفي غيرها من بلاد الثورات، ومؤخرا التحقت بهم بنجلاديش، والتي نسأل اللهأن يجنبهم زلل الثورات العربية وأخطاءها، وأن يجنبهم أولياء طاغيتهم التي أزالوها،فإن من وراء طاغيتهم دولة وثنية حقود كؤود هي الهند التي تعيش الآن عصرا هندوسيامتعصبا!
وثمة من يقتل في جهاد البغاةوالصائلين، وأولئك هم عملاء عملاء المحتلين، كما يحدث في السودان الخصب الحبيب،الذي تسلط عليه السفاح المجرم حميدتي، الممدود بحبل شيطان العرب ابن زايد، والذييقترف من جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب ما ليس معروفا أنه كان في تاريخ السودان،إذ أهل السودان من أطيب الناس وأكثرهم هدوءا، وهو ثاني اثنين من بلاد العرب –معموريتانيا- يمكن أن يعيش فيها رئيس سابق، ولعلها الوحيدة التي يعيش فيها قائدانقلاب عسكري إذا فشل انقلابه!! وذلك لشدة ما عند القوم من اللين والتسامح! فأيشيطان هذا الذي أفسد أهل السودان حتى أحدث فيها هذا الحدث العظيم الشنيع؟!
وثمة من يُقتل صابرا محتسبا قابضا علىدينه كما في تركستان الشرقية وأراكان المنسية، وغيرها من البلاد التي اشتدت فيهاوطأة الكافرين وانعدم فيها النصير للمؤمنين، ومثلهم في ذلك مثل من يموت في سجونالأنظمة العربية: إما تحت التعذيب، وإما بالترك ينهشه المرض ويؤخر عنه العلاج حتىيموت!
وهؤلاء جميعا هم ثمن الهزيمة المدفوع،ولعلهم يكونون في ميزان سيئات من تركوا الجهاد قديما، وإنه لمريع مروع أن يتصورالمرء كيف ستكون موازين الذين تركوا الجهاد إذا عاقبهم الله فوضع في موازينسيئاتهم كل هؤلاء القتلى والجرحى والمقهورين!
ولكنهم مع ذلك هم وقود النهضة القادمة،فهم الذين يمهدون السبيل ويعبِّدون الطريق، وفي موازين حسناتهم سائر انتصاراتالأمة الآتية، وإنه لأمر هائل عظيم أن يجد الشهيد في ميزان حسناته ملايين الناسالذين اهتدوا لموته، واقتدوا بسيرته، واستفادوا من ثمرة عمله!
(4)
لئن كان المرء لا يختار زمانه ولامكانه، فما له إلا أن ينظر ويتأمل لمَ هيَّأه الله وفيمَ أقامه، فلا اعتراض علىقدر العليم الخبير، وهل للعبد الجاهل الغرير أن يعلم حكمة الرب الكبير؟!
فلئن لم نختر الحياة بأيدينا، فلا أقلأن نختار نوع الموت الذي ينفعنا ويرفعنا ويُرَقِّينا، فما من الموت مفر ولا مهرب،وليس لنا في هذه الحياة الدنيا –مع الذلة والضعف- لذة ولا مكسب!
ولئن كان المسلم في زمن العزة يملك أنيتخير من الثغور ما يجاهد فيه، فإن المسلم في زمن الذلة هذا لا ينفك عن ثغر يجدنفسه فيه!
ولنا على السابقين فضل الأربعين ضعفا،وأن نكون مندرجين في أحباب النبي الذين اشتاق إليهم صفة ووصفا!
نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ، سبتمبر 2024
ابن عطية، المحرر الوجيز فيتفسير الكتاب العزيز، 1/540.
البخاري (2817)، مسلم (1877).
البخاري (2785)، مسلم (1878).
جان برو وغيوم بيغو، التاريخالكامل للعالم، ص93.
ولفرد كانتول سميث، الإسلامفي التاريخ الحديث، ص9، نقلا عن: محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص102.


