الفصل الأول من رواية فرح على الأرض

تقر السردية الدينيّة بأنّ إكرام الميت دفنه. تعود روحه إلى خالقها لتُحاسب على ما اقترفته من أفعال، فيُجازى بحياة في نعيم أبدي أو يُعاقب بعذاب لا ينتهي. عهدناها مسلّمة، توارثناها عبر الأجيال. عرفتُ يوم مات أبي أنّه ذاهب من دون رجعة. وحين رحلت أمي، سلّمتُ بغيابها وتجرّعتُ مرارة فقدانها من دون اعتراض على حكمة الخالق. «هُم السّابقون ونحن اللاحقون».

لكنّ ذاكرتي تخونني في استرجاع المشاعر التي حلّت بي حين جاء وقتي. حُرمت من إدراك لحظة الموت مثل باقي البشر لأنّ ملاك الموت لم يزرني نتيجة إصابة بذبحة صدرية أو تعرّض لحادث قاتل، وإنّما لازمني كظل قاتم لسنوات طويلة؛ سحب الزهايمر الحياة من شراييني تدريجيًّا. مدّ أذرعه ببطء ليخنق روحي ويطفئ النّور عن عالمي، تاركًا أفراد عائلتي وأحبّائي والمقرّبين منّي عاجزين عن حمايتي حتى مُت. وحين عاد إليّ الوعي بعد سنوات طويلة، أخبروني أنّ موتي لم يختلف عن موت باقي الخلق.

غادرت روحي جسدي كأي روح أخرى، تاركة إيّاه جُثّة هامدة بلا حياة. غسلوني كما يُغسل الموتى وصلّوا عليّ كما تجري العادة، ولفّوني بكفن أبيض قبل أن يدفنوني تحت الرمال في أرض مزرعة العائلة في منطقة العالوك.

لم أشك في حكمة الخالق التي تقضي بأننا خُلقنا من تُراب وإلى التُّراب نعود، ولم أتصوّر أن الأمور ستختلف يومًا في المستقبل. غابت عنّي حقيقة أنّ الثّبات محصور بالله وحده من دون غيره، وأنّ إدراكنا لحكمته كان، وما زال، وسيبقى قاصرًا.

«شو هالحكي؟ عم تمزحوا معي شكلكم!»، اعترضت على كلامهم حين أخبروني أنّي مُت لمدّة مئة عام. ضحكت وأنا أتنقّل بين وجوههم المبتسمة قبل أن أضيف: «مجنون يحكي وعاقل يسمع».

عجز عقلي عن تخيّل وصول العلم إلى مرحلة يكفل فيها توفير القدرة لنا على إضافة فقرة إلى دورة حياتنا، لتتلو عودتنا إلى التراب، عودة أخرى إلى الحياة. 

«هاي شكلها الكاميرا الخفيّة؟»، تهكّمت على جنّة لأنّي لم أصدّق كلامها. أدرت وجهي عنها ومددت ذراعي نحو من قدّموه لي على أنه حفيدي وطلبت منه: «أمَل حبيبي، قرّب اقرصني». 

ضحك مُلتزمًا مكانه إلى أنّ تأكد من أنّني لا أمازحه. 

اقترب منّي بعد ذلك وقرصني بخفّة.

لم يطرأ عليّ شيء. 

صمَتُّ محتارة، غير قادرة على تصديق ما يدور من حولي. انتظرت دخول جمال إلى غرفة المستشفى لأطلب منه: «ماما حبيبي، تعال بالله عليك اُقرص إنتَ كمان، أمَل ما بعرف يُقرص منيح». 

وحين فعل ولم يتغيّر في واقعي شيء، وضعت يدي على خدي وتساءلت: «هل أنا في حلم أم في علم؟»

«أقرص مرة تانية!»، طلبت منه.

«أقوى»

«وجّعني»

«أكثر»

تعالت ضحكاتهم مع إصراري على أن يشدد جمال من قرصته لعلّني أصحو من الحلم الذي وجدت نفسي فيه. 

«طيّب أنا مُتّ عنجد وطلعت على الجنّة؟»

«هاي هي الجنّة يعني؟»، قُلت بارتباك، متمنيّة تأكيدهم على أنها من نصيبي، فيما هيأت نفسي لخيبة الأمل إن كانت هي الجنّة فعلًا؛ بدت عادية، لا تختلف عن الدنيا التي عشت فيها. 

«أنتِ جنتنا»، أجابتني جنّة والفرحة تملأ وجهها. تجاهلت سؤالي وكأنّه لم يكن في محلّه أو لم يعنِ شيئًا لها. أمسكت بكفي برفق وسألتني: «جُعتي أمي؟ شو أجبلك تاكلي؟»

«مش جوعانة، ومو فاهمة، ومو مصدقة كلامكم!»، اعترضت وسحبت كفّي من يدها. وضعته على خدّي وطلبت منها: «سيبيني في حالي هلأ».

حدّقت في جدران الغرفة أفكّر، وبعد لحظة اتّهمتهم: «إنتوا أكيد بتتخوتوا عليّ».

«لا والله ماما، عم نحكي جد»، بدت جنّة صادقة في كلامها.

حاولت التذاكي عليهم. نظرت إلى جمال وسألته، «طيّب وين ستّك وسيدك؟». إن حضروا سأكون في الجنّة وأفرح معهم وأتقبّل واقعي الجديد من دون شك في كلامهم. 

«الله يرحمهم!»

«ماتوا؟» 

«آه ماما مالِك؟ ماتوا قبل ما تموتي!»، قالت جنّة لتتأكّد من سلامة ذاكرتي. 

أعرف أنّهم رحلوا قبلي لكنّي لم أفهم. كيف أعود إلى الحياة بعد أن مُت من دون أن يعودوا معي؟ هل كنت في غيبوبة طويلة ويريدون إقناعي بأنّي مُت وصحوت من الموت؟ أيُعقل هذا؟ كيف لي أن أموت كل تلك السنوات لأعود وأجد جنّة وجمال مازالوا في صباهم؟ ومثلهم، في أعمار متقاربة، أزواجهم وأبناؤهم وأحفادهم؟ كيف لهم الإنكار أنّ هذه هي الجنّة؟ وإن كانت الجنّة، كيف لها أن تكون ناقصة؟ 

كُدت أُجن. 

«طيب وين أبوكِ؟ ما إجى من الرّياض؟»، سألتها متجاهلة ادّعاءها مرور مئة عام على وفاتي. 

ترددت للحظة ثم أجابتني قائلة، «بيجي إمّي»، متفادية إخباري أنّه رحل منذ زمن خوفًا من ردّة فعلي. 

أردت الوثوق بهم وتصديقهم، لكن الأمور بدت غريبة. غاب المنطق عن كلامهم، وبدت الأجواء من حولي طبيعية بشكل كبير، ما زاد من حيرتي. كأنّه يوم اعتيادي لا يختلف عن أيّ يوم آخر؛ سرير المستشفى يشبه الأسرّة التي استلقيت عليها عند دخولي المستشفيات. طعام المستشفى الذي أعرف. جدران الغرفة وإنارتها المعتادة، كذلك الثّلاجة الصغيرة التي توضع في غرف المرضى، وعصير البرتقال وعلبة اللبن التي يحضرونها للمرضى، ومناديل الورق وشراشف السرير وصحن الشوكولاتة إلى جانب السرير، وباقات الورد المهنئة، وخزائن الحائط وغرفة قضاء الحاجة.

نظرت إلى النّافذة فوجدت السّماء زرقاء صافية، تتخللها شمس النهار السّاطعة. 

«في أي مستشفى احنا ماما؟»، سألتهم. 

«في مستشفى العبدلي»، أجابتني جنّة. 

«وكيف جبتوني لهون؟»، سألتها بعد فشلي في تذكّر لحظة وصولي إلى المستشفى، رغم أنّي شعرت بذاكرتي قويّة وشديدة الوضوح – كما عهدتها قبل اشتداد المرض عليّ. 

وبعد لحظة تذكّرت زيارتي لعيادة الطبيب الذي أشرف على مرضي في منطقة الدّوار الرّابع. حسبت أن الزّيارة جرت قبل مُدّة قصيرة. جَلَسَتْ جنّة إلى جانبي في العيادة تمسك بيدي ونحن نستمع إلى كلام الطبيب. وجّه حديثه إليّ وسألني عن صحّتي مستفسرًا عن الألم الذي شعرت به في الليلة الماضية. لم أتذكر تفاصيل ما أصابني فلم أستطع إجابته. شعرت بصداع حين حاولت مطابقة شرح جنّة لما حصل مع ما جاهدت ذاكرتي في استرجاعه، ولوهلة أدركت أنّي تكلّمت بأمور غير مفهومة، فاعتذرت منهم وادّعيت بأنّي أشعر بالتّعب. 

«حملناكِ من قبرك في المزرعة وجبناكِ لهون عشان الدكاترة يرمموا عضامك وخلايا جسمك ويرجعوكِ النا مثل ما كنتي وأحسن»، شرحت لي جنّة ببساطة. أسرعت بعد ذلك بتغيير الموضوع وسألتني: «المهم كيف حاسّة هلأ إمّي؟ تعبانة شي؟»

«مو تعبانة ولا شي. مرتاحة ومبسوطة إنكم عندي بس مش فاهمة»، بالفعل بدا لي جسدي فتيًّا وكأني عُدت إلى صباي مثلهم. 

سألتها: «قديش صرلي مريضة هون؟»

ضحكوا مجددًا ولم يجبني أحد منهم، بينما سألني جمال بشيء من الفضول: «ما حسيتي شي إمّي وأنتِ ميّتة؟»

بدا سؤاله لي غريبًا، لأني مازلت لا أصدّق كلامهم عن موتي، لكنني أجبته بأنّي لم أشعر بشيء. 

«ما حسّيتي بعذاب القبر ستّي؟ ولا حد حاسبك على أعمالك»، سألني أمَل بدوره.

«لسّة يوم الحساب ما إجى يا خالو»، ردّ عليه جمال مُصحّحًا ما ألمح إليه بسؤاله. 

«طيّب الحمدالله لسّة ما إجى. فكّرته اجى وراح عليّ!»، مازحتهم. أضفت: «يعني ما ضاع عليّ شي؟»

أخطأت فيما قلت حين وعيت أنّ مئة عام من الحياة ضاعت عليّ. سنوات طويلة أمضيتها بعيدة عنهم في قبري تحت الأرض. 

تركتهم يصارعون الدنيا من دوني ويعيشون آلام فقداني ورحيلي عنهم. 

وها أنا ذا أعود إليهم بكامل صحّتي وقواي العقلية، جاهزة للقيام بدوري مجدّدًا،كأم وجدّة وصديقة لهم جميعًا.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 09, 2025 04:00
No comments have been added yet.