باقة ورد لـ 29 مايو
طاف على قدميه أربعة أيام متواصلة، لم يذهب إلى منزله حتى لتغيير ملابسه، كان يريد التخلص من شيء ما ثقيل يُطبق على صدره، حاول استعادة ذكرياته القديمة والتصعلك مثل أيامه الأولى فى العاصمة، لكنه لم يجرؤ على الذهاب إلى رصيف توسَّد حنان صخره في ليلة صيفية ليست بعيدة، كل ما يذكره بوجه رفيقه في تلك الليالي حاول طمسه مثلما طمس الثرَى وجه رفيقه. كان يعتقد أن العين بالعين والبادي «الموت» أظلم، ذهب إلى أماكن جديدة أكثر نظافة، ورافق أشخاصاً أقل نبلاً، وجرب طرقاً جديدة للوصول إلى نشوى لم يعتدها من قبل، حاول بشتى الطرق طرد هاجس أنه قُتل هو أيضاً بـ29 مايو، وأن من يعيش الآن هو شبح، ليس هو على الإطلاق، وأنه غير مسؤول عن كل ما جرى، لكنه فشل.
*
يعيش حياته كأنها حلم، وتفزعه الكوابيس كأنها كلاب ضالة ظهرت فجأة أثناء سيره في شارع مظلم، من مدة تحولت أحلامه إلى كوابيس، دفقة دم تتناثر بغتة في أرجاء عالمه المسالم، حيوانات شريرة تطارد قططاً برية، وفتاته كانت تأتيه دوماً كرأس بلا جسد، وتنتظره يومياً أسفل منزله، وتقطع عليه الطريق إلى سريره ليواصل الحلم، حتى اعتقد أنه ارتكب خطيئة ما، وأن عليه دفع قربانها بنفس راضية.
هذا عامه الثالث فى العاصمة، مدينته السابقة تستحق لقب «مدينة الملائكة» بجدارة، هادئة بلا ضجيج أو غوغاء، تختلف في كل شيء، العاصمة قاتلة، زحام وقبح وتلوث بصري وتفاوت طبقي حاد، أمثاله لا يتجاوبون سريعاً مع تلك التغيرات في شكل جاد في البداية. عقب تجاوزه الخامسة والعشرين، منذ شهور قليلة، بدأ التعاطي في شكل حقيقي مع أخلاقيات المدن. في الحقيقة، هو يرى أنها بلا أخلاق، وكان قبلها لا يتورع عن التعبير عن رأيه بكل فجاجة في شخص ما يجلس أمامه، خصوصاً لو كان كاتباً تافهاً أو سياسياً منافقاً. تنكيله بكل أولئك الذين «هم أدنى»، أو الذين يملكون نفوساً رجراجة من وجهة نظره «المتطرفة» – كما يقول بعضهم، جعله يخسر في المقابل الكثير، لكنه ما زال يعيش.
*
غفا قليلاً واستيقظ على قبلاتها تمطر وجهه. كانا اتفقا على أن تكون الليلة هي الأخيرة معاً، بلا أسباب واضحة اتخذا قراراً مصيرياً كهذا. مشى معها حتى أول الشارع الرئيسي، كعادته كان تائهاً في خضم مسائل وجودية تخص الكون الكبير، ومنشغلاً تماماً بمطاردة هلاوس عن «الثورة المستمرة» و «الثورة المسروقة» ورفاق الدرب. عيناها، ما أجملهما عندما يطوف بهما حزن غريب وغامض، نظرت بحنان إلى حبيبها المفارق وقالت بسكينة: «كل الناس حسدونا»، وأدارت ظهرها ومضت بهدوء. وقف صامتاً لحظات قبل أن تعاوده هلاوس الثورة من جديد، ومضى في طريقه يفكر في حيلة مُحكمة لتمكينه من معانقة الشمس من دون أن يحترق جسده، ولو لمرة واحدة.
*
لم يفعل من قبل، حتى في عنفوان علاقته بالبنت صاحبة العينين الجميلتين، أن اشترى لها باقة ورد، بسبب ضيق ذات اليد في أغلب الأحيان، ولاعتقاده بجدوى تقديم الكتب كهدايا لحض حبيبته على المعرفة، وربما يكون هذا اعترافاً بتقصيره في حق علاقتهما، أو ربما تكفيراً عن ذنب ما يطارده ولا يدرك كنهه، تداخلت برأسه أفكار عدة. لم يكن في حال تسمح له بتفكير منطقي عقب أربعة أيام في العراء، تجول في الشارع الرئيسي ذي الأضواء المبهرة حتى وجد محل ورد فخماً. اشترى بنصف ما يحمل من نقود باقة ورد كبيرة، لم يدرِ ما يفعله بها، كان خجولاً وخائفاً كحيوان بري وجد نفسه فجأة في قلب غابة مكتظة بحيوانات أخرى غريبة، فبدأ في العواء.
انزوى في أحد أركان الشارع الكبير، وهاتفها، وجلس ينتظرها، جاءت، ولم يتبادلا أي كلام غير السلام الروتيني بين المعارف القدامى، حتى انتبه إلى أن ملامحها تبدلت فجأة بملامح امرأة أخرى غريبة عنه، وكأنه لا يعرفها. هنا أدرك أن لا شيء هنا على الإطلاق، وأنه وحيد تماماً، وغريب تماماً. حاول التخلص من حيرته، فقدم لها باقة الورد باحترام، وقال بصوت مسموع: كل سنة وأنت طيبة. ردت بسكينة وخضوع كعادتها: وأنت طيب. وانصرفت.
قصة نشرت بجريدة الحياة 10 يونيو 2014


حسين البدري's Blog
- حسين البدري's profile
- 7 followers
