وجوه متعددة..في وجهنا الواحد – قراءة ذاتية

تفتك بأحلامنا غمرة الحزن.. كما تنعشها غمرة الفرح. بين الإثنين تنحصر ساعة التوقعات والآمال حول اللحظات التي يمكن من خلالها توقع الفرح أو إيجاد باب إليه.
ليس الأمر ذاته منصرفاً على حالة الكتابة مع أنها تقود بعد اكتمالها إلى فرح عارم أو حزن باعث على اليأس، بحسب ما يترتب على نشر المكتوب وتحوله إلى كتاب يقرأ من الجميع. فعندما نتوقع أننا سنكتب نشعر غالبا أننا على وشك الدخول في دوامة من المشاعر، دون أن نملك الثقة الكاملة أنها ستترجم إلى فرح أم حزن حقيقيين، أكان ذلك فينا أم في قارئنا. أتحدث هنا من واقع تجربتين مهمتين مررت بهما وأنا أحاول أن أكتب ما يمكن أن أصفه بالعمل الأدبي المتكامل. ويهمني أن أحدد في هذا المقال أكثرها جدية، وهو كتابي المشترك “وجهنا الواحد”.
عندما كنت أبادل شريكة حياتي ومليكة قلبي عائشة مغامرة كتابة قصص قصيرة جدا في هذا الكتاب، وعلى الرغم من أن المغامرة احتوت على مجازفة من نوع جديد تتلخص في أن نكتب بشكل مستقل أقصوصتي “دهشة” بناء على عنوان مشترك يختاره أحدنا دون أن يحمل معه خارطة طريق لشكل النص أو موضوعه، فإنني كنت أتعمد في كثير من الأحيان أن أتقمص أكثر من أسلوب، وأن أجاري أكثر من نمط سردي، مستفيداً على طول طريق تلك المغامرة من رصيدي من القراءات في الأدب عموماً فضلا عن محاولتي مجاراة تجربة شريكتي الثرية في الكتابة السردية، وهي التي أصدرت قبل ذلك كتاباً بديعا من القصص القصيرة جداً، نال استحسان النقاد والجوائز على حد سواء.
جل ما كنت أحرص عليه حينها كان أن أتلاعب بالموقف اللحظي لأصل به إلى حيث يمكن للعنوان أن يقرأ كما أريد له أن يقرأ، أو أن أعيد صياغة أشياء كثيرة تخالجني لتشير بطريقة ما إلى العنوان. كانت تلك مغامرة خطيرة من ناحية أنه كتابي الأول، وأنني كنت أتبارز رغما عني مع شريكتي في الكتابة، وكنت خلال تلك المرحلة أتوقع أنني وضعت خلاصة أربع وثلاثين من أفكاري وأسئلتي بين يدي القارئ، حتى وأنا أدرك أن القارئ قد تتشكل لديه تجربة مغايرة مع ما كتبت، وقد حدث. وحينما كنت أعتقد أنني استفدت بحس الخداع من واقع أن القصص القصيرة جدا لا تزال ميدانا تجاربيا لم يستقر عالميا بعد، فإنني وقعت في مأزق معتاد باستباقات القارئ ما يتوقعه من نص يحمل اسم “قصة قصيرة جدا” موقّع باسمي الذي يعرفه البعض من أبواب أخرى، فكان الناتج أن اختلطت الآراء حول الكتاب والقصص، مع أن الكتاب حظي بنقد اقترب كثيرا من المديح والإطراء عموما، خصوصا في الصفحات الأدبية والثقافية للجرائد.
لكل منا صفحة الهامش التي لا يعرفها إلا القليل إن لم تكن سراً من الأسرار لا يعرفه أحد. وكأي من الكتّاب الذين يشون بأنفسهم في ما يكتبون، حمّلت بعضا من النصوص جزءا من ظلام وهوامش صفحاتي وذكرياتي. كان هذا بابا مفترضا لما يمكن أن يكون فرحي أو حزني، لكن الأهم أنني أردت له أن يكون باب تكفير لما احتجت له أن يخرج فيزيح بعضا من العبء الذي تحمله نظرتي للحياة بحلوها ومرها، بريئها وشقيّها. ما أريد قوله هنا أن أي كتاب أدبي يعتمد على الخيال، يحمل في النهاية بصمة لا يمكن إخفاؤها للكاتب وجزءا من هويته وعالمه وأمنياته الضائعة. الفرق أن الكاتب عندما يكتب فإنه يعيد صياغة كل ذلك بحسب ما يراه صالحا لإنجاح عمله. وقد تنتهي تلك الصياغة بصناعة عالم لا يمت لعالم الكاتب بصلة حتى وإن حمل كثيرا من عناصره. العوالم التي يصنعها الكاتب في نهاية الأمر تشبه أن تعيد ترتيب مجموعة من الأوراق كتبت كلا على حدة لتحكي ما يريد الكاتب أن يرتبط به دون أن يكون بالضرورة جزءا من حكايته.
من بين القصص التي لن يفك شفرتها كاملة سوى عائشة قصة عنوان الكتاب. كنت متعمداً لذلك. لكنني أحببت أن أرى كيف يمكن أن يقرأها سوانا. كنت أكاد أصل لحد الوقاحة في الإيحاء في بعض القصص كما حدث في “خارطة الطريق إلى الجنة” و”كائنا من كان”. كنت أشي ببعض الذكريات بطريقة فاضحة في بعض النصوص، بينما تعمدت أن يشي بعض آخر بانحراف خيالاتي الجامحة وشقاوتها. لكن ردود الفعل على الكتاب كشفت أن بعضا من المحاولات فهم أكثر من اللازم أو أنه فهم خطأ أو أنه لم يفهم أبداً. المشكلة الحقيقية تكمن في اعتقاد القارئ أحيانا أن العمل الأدبي هو ببساطة ملخص لحياة الكاتب أو كنهه. وهو ما يحدث عادة عند القارئ الغض لا المتمرس.
بدا الأمر للبعض في مجمله وكأنني قررت التعري بالكامل في غرفة تعج بالغرباء من كل ناحية، وكان الخيار الوحيد أمامي أن أقرر أي السوءتين أولى أن تغطيهما يداي. لاشك أنني كنت لأختار أن أغطي ما اعتقدت أنه أبشع السوءتين أو أشدهما فضائحية، لكنني لست متأكداً لو أن هذا ما اعتقده جميع من حولي. كنت في كل مرة أجد نقدا أو تقييما للكتاب، أجد معه نفسي في الغرفة ذاتها مرة أخرى، وهو أمر وإن لم يكن باعثا على الارتياح، إلا أنه يزودني بما يكفي من الأدرينالين لأتزحزح قليلا وأكتشف نفسي أكثر. عموما، أنا أؤمن أن العري تعبير شديد الصراحة عن جمالنا البشري بوجهيه المتألق والمليء بالزلل، لكنني مقتنع كذلك أن العري من بين أكثر المواضيع التي يمكن أن تعافها اختلافات الذوق والعرف والشعورين العام والخاص.
انتهى.. تقريبا
*مقال منشور في مجلة “قراءات خليجية” الالكترونية http://gulfread.com/archives/284
تدوينة جديدة: وجوه متعددة..في وجهنا الواحد – قراءة ذاتية ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.