سفر الغرباء
سفر الغرباء
يمكن القول إن ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 ستظل موضوعة روائية غنية، ومادة ممكنة للإبداع على مدى سنوات قادمة، فهذا الحدث الجسيم، بدا كالزلزال المفاجئ لسيرورة الحياة في مصر، وربما كانت رواية “سفر الغرباء” لمحمد ذهني، هي واحدة من الأعمال الإبداعية القليلة التي صدرت بعد هذه الثورة بحوالي سنة واحدة فقط، وبينما كان الحراك الثوري يفعل فعله في الحياة المصرية، وبالرغم من ذلك ستكون رواية مرجعية من حيث تأريخها لما لم يدونه التاريخ المعتاد، إذ أنها تستعرض من منظور مواطن عادي غير منتمٍ، حزبيَّا أو سياسيَّا، جانباً من أحداث هذه الثورة، وهو استعراض ذو طابع تأملي لتحولات الجماعة البشرية المصرية في لحظة تاريخية خاصة ومن منظور تراجيدي كاشف لبعض من ملامح الشخصية المصرية، بكل ما فيها من قوة وضعف وتردٍّ، وكل ما آلت إليه ملامحها في بلد عانى على مدى ثلاثة عقود، فانفجر أهله، بهذه الثورة غير المسبوقة في التاريخ.
الضحية والجلاد
عبر جملة من الخطابات التي يرسلها المواطن المصري عماد الشرقاوي إلى ابن الرئيس المخلوع بعد الثورة، في مقره الباريسي، وعلى مدى عشرين سنة، يرسم ذلك المواطن لابن الديكتاتور صورة الوطن وقت الثورة، وهي صورة تشكلت ملامحها من زمن الاستبداد الممتد خلال فترة حكم الأب. فذلك الاستبداد وما لازمه من فساد تجلى وقت الثورة في أعمق صورة، وكما يقول عماد الشرقاوي في إحدى رسائله “مصر صارت كشخص لم يستحم منذ عام. تخيل شخصًا لم تمتد إليه يد النظافة منذ عام. تخيل شكله ورائحته وسلوكه وأمراضه. هكذا صارت مصر”.
ويمضي المواطن في خطابه قائلاً: “نحن الآن في دولة بلا قانون، ولا شرطة ولا ضمير. دولة لم تمتد إليها يد العناية وزاد عليها أن أفسدها شعبها. بلد مليئة بالأورام والدمامل فإذا بها وقد انفجرت وسال القيح والصديد”.
إن الرواية وعبر امتدادها، ومن خلال هذه الخطابات، تبدو وكأنها محاكمة توصيفية لنظام فاسد قمعي، لكنها أيضاً تحاكم الثورة رغم عنفوانها البادي المشبوب، إنها ترسم بانوراما ممتدة للحالة التراجيدية المصرية، بالأحرى حالة التمزق السياسي والاجتماعي الذي عاشته مصر منذ عقود ممتدة إلى القرن الماضي، وهو مأزق بلغ ذروته مع تنامي الثورة وصعودها.
وتبدو خطابات عماد الشرقاوي في تواترها على مدى عشرين سنة كقطرات الماء المتساقطة قطرة تلو قطرة على صخرة صلدة، لكنها تنجح في النهاية بتفتيتها، فابن الديكتاتور يقرر العودة مرة أخرى إلى مصر بعد غياب عشرين سنة من اندلاع الثورة، لا لشئ إلّا كي يلتقي بمن أرسل له الخطابات وأيقظ ضميره، حتى جعل دموعه متساقطة على خديه بينما هو ذاهب للقائه في مدينة الإسكندرية.
المهمة الصعبة
لعل أصعب الروايات تلك الروايات التي تتناول أحداثاً تاريخية كبرى، إذ أن مهمتها ليست فقط في إعادة إنتاج مشاهد التاريخ وتجسيدها روائياً، ولكن ربما كان دورها الأهم هو التساؤل حول هذه المشاهد والسعي لاستنباط إجابات تتعلق بها، إن المسكوت عنه والمهمش والمتجاهل ربما كان هو الأهم في تلك المشاهد من منظور الرواية والإبداع، إن الرواية تنزع الألوان عن التاريخ وتبقى على الأبيض والأسود فيه حتى تتحقق مقولة المتنبي: “بضدها تتبين الأشياء” ورواية سفر الغرباء حاولت الإمساك بالأسود والأبيض في ثورة يناير 2011، إنها ترسم المفارقات لتلك اللحظة التاريخية حتى تستبين من خلال الدلالة، إنها لا تمجد الثورة على نحو عاطفي، مثلما فعلت أعمال روائية أخرى، بل هي تسعى لتقديم شهادة حية للتاريخ وللأجيال المقبلة مثلما يرى بطل الرواية مرسل الخطابات لأجل ابنته الصغيرة أولًا وقبل كل شئ.
المرسل والمرسل إليه
تبدو الرسائل المشكلة لبنية الرواية وكأنها أداة ووسيلة وتقنية توسلها الكاتب للكشف والتعرية لجملة من التفاصيل الهائلة التي واكبت ثورة يناير، فالظاهر أن المرسل إليه هو نجل الديكتاتور السابق، غير أن الباطن هو أن هذه الرسائل مرسلة إلى كافة عموم المصريين، فهي لا تكشف عن المرض المجتمعي المصري فقط، لكنها تعري شخصية المرسل إليه وعالمه هو وأسرته أمام المتلقي، إنها لا تستهدف إحداث حالة من التطهير الأرسطي لابن الديكتاتور، لكنها تكشف عن مواطن العلة والعيب في الجماعة البشرية المصرية كلها، فكما يقول البطل في إحدى رسائله: “صار مستخدمو الإنترنت في مصر أشبه بشوارعها. صناديق قمامة يحوم حولها الذباب. ضوضاء تهيج الأعصاب… روائح نتنة”.
إن رسائل البطل إنما هي مرسلة إلى ملايين الناس، لكن يمكن اعتبارها لسان حال ملايين الناس أيضًا، فعماد الشرقاوي هو امتداد أدهم الشرقاوي، إنه المتمرد الرافض الذي لم يزل قادراً على قراءة المشهد واستبصار ما وراءه رغم التضليل السياسي والإعلامي.
المكان والتاريخ
لعل من أصعب جوانب الكتابة الإبداعية المتسائلة عن التاريخ هو تجسيد المكان، حيث إن تفاصيل المكان تشي بدلالات تسهم في رسم الشخصيات الروائية وعوالمها، وتفتقد رواية سفر الغرباء إلى رسم الأمكنة على نحو واضح منذ بدايتها وحتى منتهاها، إلا فيما ندر، إن وصف وتصوير المكان يكثف الخطاب الروائي ويثريه، مثلما هو الحال مع التصوير الخارجي للشخصيات، والرواية كان من الممكن أن تكون أكثر غنى إذا تم الاعتناء بذلك.
بقي القول إن اللغة كانت من الممكن أن تكون ذات أداء أفضل بالنص، فثمة قولبة حيناً، وثمة تأثر بالمترجمات التليفزيونية مثل أن يقول أحدهم مثلاً: حسنًا سأخاطب سفيرنا.
……………….
سلوى بكر
http://www.kataba.org/%D8%B3%D9%81%D8...
يمكن القول إن ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 ستظل موضوعة روائية غنية، ومادة ممكنة للإبداع على مدى سنوات قادمة، فهذا الحدث الجسيم، بدا كالزلزال المفاجئ لسيرورة الحياة في مصر، وربما كانت رواية “سفر الغرباء” لمحمد ذهني، هي واحدة من الأعمال الإبداعية القليلة التي صدرت بعد هذه الثورة بحوالي سنة واحدة فقط، وبينما كان الحراك الثوري يفعل فعله في الحياة المصرية، وبالرغم من ذلك ستكون رواية مرجعية من حيث تأريخها لما لم يدونه التاريخ المعتاد، إذ أنها تستعرض من منظور مواطن عادي غير منتمٍ، حزبيَّا أو سياسيَّا، جانباً من أحداث هذه الثورة، وهو استعراض ذو طابع تأملي لتحولات الجماعة البشرية المصرية في لحظة تاريخية خاصة ومن منظور تراجيدي كاشف لبعض من ملامح الشخصية المصرية، بكل ما فيها من قوة وضعف وتردٍّ، وكل ما آلت إليه ملامحها في بلد عانى على مدى ثلاثة عقود، فانفجر أهله، بهذه الثورة غير المسبوقة في التاريخ.
الضحية والجلاد
عبر جملة من الخطابات التي يرسلها المواطن المصري عماد الشرقاوي إلى ابن الرئيس المخلوع بعد الثورة، في مقره الباريسي، وعلى مدى عشرين سنة، يرسم ذلك المواطن لابن الديكتاتور صورة الوطن وقت الثورة، وهي صورة تشكلت ملامحها من زمن الاستبداد الممتد خلال فترة حكم الأب. فذلك الاستبداد وما لازمه من فساد تجلى وقت الثورة في أعمق صورة، وكما يقول عماد الشرقاوي في إحدى رسائله “مصر صارت كشخص لم يستحم منذ عام. تخيل شخصًا لم تمتد إليه يد النظافة منذ عام. تخيل شكله ورائحته وسلوكه وأمراضه. هكذا صارت مصر”.
ويمضي المواطن في خطابه قائلاً: “نحن الآن في دولة بلا قانون، ولا شرطة ولا ضمير. دولة لم تمتد إليها يد العناية وزاد عليها أن أفسدها شعبها. بلد مليئة بالأورام والدمامل فإذا بها وقد انفجرت وسال القيح والصديد”.
إن الرواية وعبر امتدادها، ومن خلال هذه الخطابات، تبدو وكأنها محاكمة توصيفية لنظام فاسد قمعي، لكنها أيضاً تحاكم الثورة رغم عنفوانها البادي المشبوب، إنها ترسم بانوراما ممتدة للحالة التراجيدية المصرية، بالأحرى حالة التمزق السياسي والاجتماعي الذي عاشته مصر منذ عقود ممتدة إلى القرن الماضي، وهو مأزق بلغ ذروته مع تنامي الثورة وصعودها.
وتبدو خطابات عماد الشرقاوي في تواترها على مدى عشرين سنة كقطرات الماء المتساقطة قطرة تلو قطرة على صخرة صلدة، لكنها تنجح في النهاية بتفتيتها، فابن الديكتاتور يقرر العودة مرة أخرى إلى مصر بعد غياب عشرين سنة من اندلاع الثورة، لا لشئ إلّا كي يلتقي بمن أرسل له الخطابات وأيقظ ضميره، حتى جعل دموعه متساقطة على خديه بينما هو ذاهب للقائه في مدينة الإسكندرية.
المهمة الصعبة
لعل أصعب الروايات تلك الروايات التي تتناول أحداثاً تاريخية كبرى، إذ أن مهمتها ليست فقط في إعادة إنتاج مشاهد التاريخ وتجسيدها روائياً، ولكن ربما كان دورها الأهم هو التساؤل حول هذه المشاهد والسعي لاستنباط إجابات تتعلق بها، إن المسكوت عنه والمهمش والمتجاهل ربما كان هو الأهم في تلك المشاهد من منظور الرواية والإبداع، إن الرواية تنزع الألوان عن التاريخ وتبقى على الأبيض والأسود فيه حتى تتحقق مقولة المتنبي: “بضدها تتبين الأشياء” ورواية سفر الغرباء حاولت الإمساك بالأسود والأبيض في ثورة يناير 2011، إنها ترسم المفارقات لتلك اللحظة التاريخية حتى تستبين من خلال الدلالة، إنها لا تمجد الثورة على نحو عاطفي، مثلما فعلت أعمال روائية أخرى، بل هي تسعى لتقديم شهادة حية للتاريخ وللأجيال المقبلة مثلما يرى بطل الرواية مرسل الخطابات لأجل ابنته الصغيرة أولًا وقبل كل شئ.
المرسل والمرسل إليه
تبدو الرسائل المشكلة لبنية الرواية وكأنها أداة ووسيلة وتقنية توسلها الكاتب للكشف والتعرية لجملة من التفاصيل الهائلة التي واكبت ثورة يناير، فالظاهر أن المرسل إليه هو نجل الديكتاتور السابق، غير أن الباطن هو أن هذه الرسائل مرسلة إلى كافة عموم المصريين، فهي لا تكشف عن المرض المجتمعي المصري فقط، لكنها تعري شخصية المرسل إليه وعالمه هو وأسرته أمام المتلقي، إنها لا تستهدف إحداث حالة من التطهير الأرسطي لابن الديكتاتور، لكنها تكشف عن مواطن العلة والعيب في الجماعة البشرية المصرية كلها، فكما يقول البطل في إحدى رسائله: “صار مستخدمو الإنترنت في مصر أشبه بشوارعها. صناديق قمامة يحوم حولها الذباب. ضوضاء تهيج الأعصاب… روائح نتنة”.
إن رسائل البطل إنما هي مرسلة إلى ملايين الناس، لكن يمكن اعتبارها لسان حال ملايين الناس أيضًا، فعماد الشرقاوي هو امتداد أدهم الشرقاوي، إنه المتمرد الرافض الذي لم يزل قادراً على قراءة المشهد واستبصار ما وراءه رغم التضليل السياسي والإعلامي.
المكان والتاريخ
لعل من أصعب جوانب الكتابة الإبداعية المتسائلة عن التاريخ هو تجسيد المكان، حيث إن تفاصيل المكان تشي بدلالات تسهم في رسم الشخصيات الروائية وعوالمها، وتفتقد رواية سفر الغرباء إلى رسم الأمكنة على نحو واضح منذ بدايتها وحتى منتهاها، إلا فيما ندر، إن وصف وتصوير المكان يكثف الخطاب الروائي ويثريه، مثلما هو الحال مع التصوير الخارجي للشخصيات، والرواية كان من الممكن أن تكون أكثر غنى إذا تم الاعتناء بذلك.
بقي القول إن اللغة كانت من الممكن أن تكون ذات أداء أفضل بالنص، فثمة قولبة حيناً، وثمة تأثر بالمترجمات التليفزيونية مثل أن يقول أحدهم مثلاً: حسنًا سأخاطب سفيرنا.
……………….
سلوى بكر
http://www.kataba.org/%D8%B3%D9%81%D8...
Published on April 03, 2015 07:30
No comments have been added yet.