المال حيلة استنبطها الإنسان لتيسير شؤون المعيشة، كما استنبط النار والإبرة والدولاب وحروف الهجاء والطباعة وسواها من الحيل التي تشهد له بعبقرية لا نفاذ لخزانها.
فقد كان من المستطاع لرجلٍ في حالة الهمجية أن يقايض جاره شاةً بمئزر من جلد غزال. أما أن يسوق رجل اليوم ثوراً إلى حانوت جواخ أو خوام ليتركه هناك ويعود بثوب أو أثواب من الجوخ أو الخام فأمرٌ إن لم يكن متعذراً بالتمام كان مرهقاً ومستهجناً إلى أقصى حد.
وهنا جاء المال فجعل المتعذر ممكناً، والمرهق سهلاً، والمستهجن مستحباً. وذاك بأن أقام لكل ما يتداوله الناس أثماناً، وأقام للأثمان رموزاً يسهل حملها ونقلها.
وهذه الرموز قد تدرجت على الأيام من قطع من الخشب أو الحديد إلى نقود نحاسية وفضية وذهبية، ثم إلى أوراق تقوم مقام النقود، فإلى سندات وحوالات على مصارف تقوم مقام الأوراق. حتى أصبح من الممكن لرجل في أقاصي المشرق أن يبتاع من رجل في أقاصي المغرب أشياء قد تملأ مركباً أو مراكب فلا يعطي لقاءها غير وريقة تحمل توقيعه واسم مصرف من المصارف ورقم الثمن المطلوب دفعه. هذه أمور أولية قل من يجهلها من أبناء اليوم. فهم يعرفون أن المال رمز إلى الثروة وليس الثروة.
ولكنهم في الغالب يجهلون – وبعضهم يتجاهل عن قصد وتصميم – ذلك السر الذي يجعل من الرموز وثناً لا حد لسلطانه فراح الناس يتهالكون في سبيله. حتى أنهم ليضحون له بأثمن ما في حياتهم من صدق وشرف ووجدان. ناهيكم بالأعمار التي يحرقونها على مذبحه شمعاً وبخوراً. فما هو ذلك السر؟
لا بد لنا قبل الجواب من أن نحدد الثروة التي جعلنا المال رمزاً لها. فما هي الثروة؟
هي جميع مقومات الحياة البشرية التي تقدمها لنا الطبيعة بغير انقطاع فلا نستطيع التمتع بها إلا بإنفاق جهد جليل أو ضئيل، قد يكون من أعصابنا، وقد يكون من أدمغتنا. وهذا الجهد جهد مشترك يستحيل على إنسان واحد، أو جماعة واحدة من الناس، القيام به.
إنه لجهد الانسانية على بكرة أبيها من آدم حتى اليوم، ومن أعلم عالم حتى أجهل جاهل. وهو جهد متماسك تماسك الخيوط في النسيج، ومتساند تساند الحجارة في البنيان. فلا يقوم عمل، مهما يكن نوعه، ودمها المحموم.
هي نضالها الأبدي المستميت مع الأرض لتجعل منها نقطة الوثوب إلى السماء، بل لتجعلها السماء.
وليس في استطاعة بشر أو ملاك أن يميز في القيمة أو الأهمية بين جهد إنسان وإنسان، أو جيل وجيل، أو شعب وشعب ما دام الكل ينتهي بتقديم حياته في سبيل الكل. ومن منكم يجرؤ أن يثمن الحياة؟
إذن كانت الثروة الحياة.
أما الفلس فقد فعل ما لا تستطيع فعله الأبالسة ولا الملائكة. إذ أقام أثماناً فردية للجهود الفردية، فجعل الواحد بمقام الألف – وأحياناً بمقام المليون. وجعل قيمة البعض صفراً عن اليسار.
ههنا السر. ههنا الفخ والمزلقة. ههنا منبع هائل من منابع البغض والحسد والنزاع بين الناس.
لقد كان من خدعة الفلس الجهنمية أن أصبح في استطاعة إنسان واحد أن تكون له حصة ألف إنسان في ثروة البشرية المشتركة، وأن يكون ألف إنسان بدون حصة واحدة.
لقد نتج عنها استعباد الإنسان للإنسان، وانقياد الجماهير للفرد، واستثمار من حالفهم الفلس لمن عاداهم.
تلك هي المأساة – مأساتنا، وذلك هو الخزي – خزينا، كلما تمادينا في عبادتنا للرمز فجعلناه شكيمة في فم المرموز إليه، وغلاً في عنقه، وأداةً لاستعباده.
يا للحيف أن يجوع من يزرع، ويعرى من ينسج، ويبقى بدون مأوى من يبني القصور!
يا للعار أن يكون فينا من يريد أن يعمل فلا يجد ما يعمله، ومن يحب الأرض فنقيم سدوداً معينة بينه وبين الأرض، ومن يطلب لقمة يتبلغ بها فلا يجد إليها سبيلاً سوى يد ممدوة، وعين كسيرة، ولسان يكيل الدعاء بغير حساب!
ثم يا للفضيحة أن نستر خزينا، وحيفنا، وعارنا بستار واهٍ من فضيلة جرباء ندعوها الإحسان!
إنما الحياة حق من علُ لا صدقة من أسفل. وللبطيء فيها والكسيح والضرير والأبرص مثلما للسريع والقوي والمبصر والسليم.
أما الحسنة فتخدير لضمير المحسن وقتل لوجدان المحسن إليه.
فلتكن حسنة الإنسانية إلى المعوزين من أبنائها أن ترد لهم حقهم في خيرات الحياة المشتركة. وأن تجعل من المال – إن لم يكن منه بد – شهادةً من الإنسان للإنسان بأن عرق الاثنين ودمهما قد امتزجا في النضال. وأن للواحد من الحق في الغنيمة مثلما للآخر.
وبغير ذلك لن تستقيم لنا حياة.
فما دمنا نثمن الحياة التي لا تثمن دامت أثماننا مترجرجة كالزئبق فما كان لشيء في حياتنا استقرار، ودام المال وثناً تغرينا عبادته براحة كلها تعب، وسعادةٍ قلبها شقاء، وقوةٍ عضلاتها من خيوط العنكبوت.
فقد كان من المستطاع لرجلٍ في حالة الهمجية أن يقايض جاره شاةً بمئزر من جلد غزال. أما أن يسوق رجل اليوم ثوراً إلى حانوت جواخ أو خوام ليتركه هناك ويعود بثوب أو أثواب من الجوخ أو الخام فأمرٌ إن لم يكن متعذراً بالتمام كان مرهقاً ومستهجناً إلى أقصى حد.
وهنا جاء المال فجعل المتعذر ممكناً، والمرهق سهلاً، والمستهجن مستحباً. وذاك بأن أقام لكل ما يتداوله الناس أثماناً، وأقام للأثمان رموزاً يسهل حملها ونقلها.
وهذه الرموز قد تدرجت على الأيام من قطع من الخشب أو الحديد إلى نقود نحاسية وفضية وذهبية، ثم إلى أوراق تقوم مقام النقود، فإلى سندات وحوالات على مصارف تقوم مقام الأوراق. حتى أصبح من الممكن لرجل في أقاصي المشرق أن يبتاع من رجل في أقاصي المغرب أشياء قد تملأ مركباً أو مراكب فلا يعطي لقاءها غير وريقة تحمل توقيعه واسم مصرف من المصارف ورقم الثمن المطلوب دفعه. هذه أمور أولية قل من يجهلها من أبناء اليوم. فهم يعرفون أن المال رمز إلى الثروة وليس الثروة.
ولكنهم في الغالب يجهلون – وبعضهم يتجاهل عن قصد وتصميم – ذلك السر الذي يجعل من الرموز وثناً لا حد لسلطانه فراح الناس يتهالكون في سبيله. حتى أنهم ليضحون له بأثمن ما في حياتهم من صدق وشرف ووجدان. ناهيكم بالأعمار التي يحرقونها على مذبحه شمعاً وبخوراً. فما هو ذلك السر؟
لا بد لنا قبل الجواب من أن نحدد الثروة التي جعلنا المال رمزاً لها. فما هي الثروة؟
هي جميع مقومات الحياة البشرية التي تقدمها لنا الطبيعة بغير انقطاع فلا نستطيع التمتع بها إلا بإنفاق جهد جليل أو ضئيل، قد يكون من أعصابنا، وقد يكون من أدمغتنا. وهذا الجهد جهد مشترك يستحيل على إنسان واحد، أو جماعة واحدة من الناس، القيام به.
إنه لجهد الانسانية على بكرة أبيها من آدم حتى اليوم، ومن أعلم عالم حتى أجهل جاهل. وهو جهد متماسك تماسك الخيوط في النسيج، ومتساند تساند الحجارة في البنيان. فلا يقوم عمل، مهما يكن نوعه، ودمها المحموم.
هي أعصابها المكدودة، ودماغها الملتهب، وأحلامها المشردة، وأيامها ولياليها الضاحكة – الباكية.
هي نضالها الأبدي المستميت مع الأرض لتجعل منها نقطة الوثوب إلى السماء، بل لتجعلها السماء.
وليس في استطاعة بشر أو ملاك أن يميز في القيمة أو الأهمية بين جهد إنسان وإنسان، أو جيل وجيل، أو شعب وشعب ما دام الكل ينتهي بتقديم حياته في سبيل الكل. ومن منكم يجرؤ أن يثمن الحياة؟
إذن كانت الثروة الحياة.
أما الفلس فقد فعل ما لا تستطيع فعله الأبالسة ولا الملائكة. إذ أقام أثماناً فردية للجهود الفردية، فجعل الواحد بمقام الألف – وأحياناً بمقام المليون. وجعل قيمة البعض صفراً عن اليسار.
ههنا السر. ههنا الفخ والمزلقة. ههنا منبع هائل من منابع البغض والحسد والنزاع بين الناس.
لقد كان من خدعة الفلس الجهنمية أن أصبح في استطاعة إنسان واحد أن تكون له حصة ألف إنسان في ثروة البشرية المشتركة، وأن يكون ألف إنسان بدون حصة واحدة.
لقد نتج عنها استعباد الإنسان للإنسان، وانقياد الجماهير للفرد، واستثمار من حالفهم الفلس لمن عاداهم.
تلك هي المأساة – مأساتنا، وذلك هو الخزي – خزينا، كلما تمادينا في عبادتنا للرمز فجعلناه شكيمة في فم المرموز إليه، وغلاً في عنقه، وأداةً لاستعباده.
يا للحيف أن يجوع من يزرع، ويعرى من ينسج، ويبقى بدون مأوى من يبني القصور!
يا للعار أن يكون فينا من يريد أن يعمل فلا يجد ما يعمله، ومن يحب الأرض فنقيم سدوداً معينة بينه وبين الأرض، ومن يطلب لقمة يتبلغ بها فلا يجد إليها سبيلاً سوى يد ممدوة، وعين كسيرة، ولسان يكيل الدعاء بغير حساب!
ثم يا للفضيحة أن نستر خزينا، وحيفنا، وعارنا بستار واهٍ من فضيلة جرباء ندعوها الإحسان!
إنما الحياة حق من علُ لا صدقة من أسفل. وللبطيء فيها والكسيح والضرير والأبرص مثلما للسريع والقوي والمبصر والسليم.
أما الحسنة فتخدير لضمير المحسن وقتل لوجدان المحسن إليه.
فلتكن حسنة الإنسانية إلى المعوزين من أبنائها أن ترد لهم حقهم في خيرات الحياة المشتركة. وأن تجعل من المال – إن لم يكن منه بد – شهادةً من الإنسان للإنسان بأن عرق الاثنين ودمهما قد امتزجا في النضال. وأن للواحد من الحق في الغنيمة مثلما للآخر.
وبغير ذلك لن تستقيم لنا حياة.
فما دمنا نثمن الحياة التي لا تثمن دامت أثماننا مترجرجة كالزئبق فما كان لشيء في حياتنا استقرار، ودام المال وثناً تغرينا عبادته براحة كلها تعب، وسعادةٍ قلبها شقاء، وقوةٍ عضلاتها من خيوط العنكبوت.