Status Updates From ساعة الصفر 00:00

ابتسم بوقار ثم قال :
- كل القصص الإنسانية مؤلمة، مهما اختلفت الأعراق والطوائف والأديان، كل جرح هو مؤلم، خاصة عندما يكون من صنع الإنسان، الأبطال المزيفون يملؤون الدنيا صراخاً، والأبطال الحقيقيون هم الذين يعيشون ويموتون بصمت.

حسمت أمري ثم حزمت أمتعني ورحلت حاملاً معي سؤالي إلى هذه الأرض، إلى البوسنة، صرخت ملء جوفي «من أنا ؟» فوجدتُ هنا أناساً تائهين مثلي، لكنهم يذبحون بعضهم بعضاً ويُريقون الدماء أنهاراً ليجيبوا عن السؤال نفسه، ربما سيصلون إلى الإجابة لكن بعد فوات الأوان، وبمذاق مُر لوثته دماء الأبرياء، من أنا؟ أنا إنسان لا أكثر ولا أقل، إنسان خُلِقَ
ليترك أثراً في هذا العالم، لا ليُجبر الآخر على تقفي أثره . . .

الحياة كلها رحلة لا راحة فيها، تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت، وما بينهما تيه وضياع لا سبيل لتجاوزه إلا بالبحث في أعماقنا المظلمة عن بوصلة توجهنا إبرتها نحو الهدف المنشود.

- كل شيء مرتبط بأعماقنا لا بظروفنا، قد يصدمك القوي بلحظات ضعفه، والضعيف باستجماع قوته، بقلب الشرير نقطة نور قد تدفعه يوماً لفعل الخير، وقد يفعل من تعودنا منه دوماً على الخير شراً، الخوف والشجاعة، القوة والضعف، الحب والكره الوفاء والخيانة، الخير والشر كلها ثنائيات مرتبطة بدواخل الإنسان لا بمحيطه وظروفه، ولو أدرك بنو البشر ذلك، لأجابوا عن معظم الأسئلة التي تؤرق بالهم!

ودعت الجميع بالدموع والأحضان، ثم تبعته إلى سيارة جيب رباعية الدفع، وعندما ألقيت نظرة أخيرة على سماء موستار، فوجئت بأشعة الشمس متسلّلة عبر الغيوم لتغمر بنورها أرجاء المدينة، فقال برانكو مبتسماً :

- أرأيت؟ قد تحجب الغيوم أشعة الشمس لبعض الوقت، لكن العبرة بالخواتيم، الغيوم تمضي في النهاية، والشمس تبقى في
مكانها !

قلت بلهجة ذات مغزى :
- كالعادة، إنه العقل الأنثوي، الغامض والجبار
تلقفت عبارتي هذه المرة لتجيب :
- كم تبالغون بتصوّركم أنّ المرأة مخلوق تلفه الأسرار، الأنثى
أبسط بكثير من ذلك، فهي لا تبحث سوى عن الأمان المرتبط
بالحب، وتستعد للتضحية بكل شيء في سبيله، فقط !

قالت في شراسة مشوبة بالتأثر :

- أنت مخطئ، أنا لم أنسه قط !

لتضيف بعد برهة صمت :

- ذاكرة الرجل قصيرة في الحب، وحده قلب المرأة الذي يعاني في صمت، فضعفه المقيت يحرمه من نعمة النسيان ..

أجبتها وقد اختلج قلبي بين ضلوعي :

- ومن قال لك ذلك؟ قد تجدين ذاكرة معطوبة هنا، أو قلباً مزيفاً هناك، هذا ممكن، لكن قدر العشاق الحقيقيين ألا ينسوا مهما تعاقبت الأيام وتوالت الأعوام.

صمت طويلاً، وأنا عاجز عن الإتيان بحركة، قبل أن أستجمع قواي وأرد:
- قَدَرُ الغريب أن يرحل، فلا مكان له ولا وطن ...
فقال سمير بنبرته الهادئة :
- لا معنى لكل تلك المسميات والحدود التي صنعتها حماقة
البشر، أنت ترى بأم عينك كيف كنا أبناء وطن واحد، لتحولنا
الحرب إلى غرباء بعضنا عن بعض.
وأضاف رامز :
- أينما وجد الإنسان من يحبه فثمة وطنه.
اوافق رامز وبشدة 🤍.

ساخر هو القدر، عندما يربط مصير حياتك بصوت، مجرد صوت عادي، لكنه قد يحمل معه قرار إعدامك، أو بشارة انعتاقك وولادتك من جديد .

قرب حافة جسر ستاري موست، أتطلع إلى مياه نهر نيريتفا، وأستعيد مع تيارها الجاري ما ترسب في ذاكرتي من أحداث فقدت الأمل في نسيانها، فوجدتني مجبراً على التعايش معها .
ربما لأننا أضعف من أن نقف في وجه طوفان الماضي، مهما تظاهرنا بالعكس.

قلت بعصبية :
- القوانين؟ أنا لم أعد أعترف بهذا الهراء الذي يتلاعب به
الجميع ويخرقونه خدمة لمصالحهم .
أجابني بهدوء :
- ربما معك حق، ولكن لا تتجاهل نقطة في غاية الأهمية، سهل جداً أن تخرق قانون البشر وتتلاعب به خدمة لمصالحك، لكنك لن تراوغ أو تزعزع قانوناً آخر أقوى وأصلب، مهما فعلت ...
ثم أضاف بحزم :
- القانون الإلهي .

صعدت إلى قمة المئذنة مرة أخرى، باحثاً عن بعض الهدوء، والاستمتاع المؤقت بمشهد لمحته بطرف عيني ساعة الظهر ولم تسمح دقة الموقف وقتها بالتمعن فيه .
مئذنة هذا المسجد تطل على كافة أرجاء موستار، بشرقهاوغربها ، موحدة ما أفرزته الحرب من تفرقة .
يا لها من مدينة رائعة، لا يمكن أن يُشعرك منظر شوارعها الجميلة ومحلاتها المغلقة ومنازلها المسقوفة بالخشب إلا بالوداعة والهناء والعودة الإجبارية إلى القرون الوسطى!

- لن أكون مفرطاً في التفاؤل، لكنني مؤمن بأن البشر مجبرون على خوض تجارب صعبة وقاسية حتى يقتربوا ويفهموا بعضهم أكثر ولولا مرارة الأيام الصعبة ما كنا لنستشعر حلاوة الأيام القادمة، تذكر فقط أن الحياة مهما بدت ظالمة أحياناً إلا أنها تمنحنا في كل مرة فرصة لفعل الخير، أنت لا تعرف هذه الطفلة، ولا تربطك بها أية علاقة، لكنك تضحي بحياتك في سبيل إنقاذها، هذه هي الفرصة التي أثق بأنك لن تضيعها أبداً .

أنت واجهت ذنباً منفرداً خائفاً ، فقد قطيعه واعتبرك معتدياً على أرضه فحاول الدفاع عن نفسه، لم يقتلك لأنك مجرد إنسان مختلف العرق والطائفة والدين، فذئاب الطبيعة أرحم بكثير من ذئاب البشر!