عزام الشثري’s Reviews > أيام إيمانويل كانط الأخيرة > Status Update

كان كانط قد كتب في مذكرة منفصلة منذ سنوات عن أسلوب الجنازة التي يرغب أن تُخصص له ونمطها؛ فقد أراد أن تكون في وقت مبكر من الصباح، مع أقل قدر ممكن من الضوضاء والإزعاج، وأن يحضرها عدد قليل فقط من أصدقائه المقربين

أصابه وهن شديد لدرجة أن رأسه تدلى على ركبتيه، متكوما على الجانب الأيمن من الكرسي، رتبت وسائده لرفع رأسه، وقلت: والآن يا سيدي العزيز، أنت في وضع سليم مجددا

كانت دهشتنا عظيمة عندما أجاب بوضوح بعبارة عسكرية رومانية: نعم، درعا وقامة، مستعد للعدو، متأهب للمعركة

كانت قدراته الذهنية تتوهج ببطء في رمادها، ترسل بين حين وآخر بعض اللهب المتقد، أو فيضا مبهرا من الضوء، يدل على أن النار القديمة ما زالت تضطرم تحت الرماد

كان ما يزال يحاول الوقوف، لكنه كاد يسقط أرضًا، وأشرت إلى الطبيب بأنني على معرفة جيدة به، وأنه لن يجلس مهما عانى من الوقوف إلى أن يجلس زواره، وبدا أن الطبيب يشك في ذلك، لكن كانط الذي سمع ما قلته بجهد مدهش أكد معرفتي بتصرفه، وقال هذه الكلمات بكل وضوح:

سأكون منحطا، لا سمح الله، لو نسيت الواجبات الإنسانية.

:(

.

في عامه الأخير، جاء شخص مميز من برلين لزيارته، تلبية لدعوة تلقاها منه خلال الصيف الماضي، فصدم تماما إذ رآه على ذلك النحو، وقال: «ليس هذا كانط الذي أعرفه، لكنها الصَّدَفَة التي تخفيه!».

في يوم الاثنين الأخير من حياته، وبعد أقصى ما بلغه من عجز جعل أصدقائه يذرفون الدموع، جلس بيننا غير مدرك لكل ما يمكن أن نقول له، منهارا على كرسيه مثل كومة لا شكل لها؛ أصم، أعمى، شبة خدر، وبلا حراك، ولكنني رغم ذلك همست للآخرين بأنني سأدعو كانط للمشاركة في الحديث بحيوية، لم يصدقوا ذلك، فاقتربت منه وسألته عن الموريين في الساحل البربري، فأعطانا فورا ملخصا عن عاداتهم وأعرافهم أن حرف (ج) في كلمة «الجزائر» يجب أن يلفظ معطشا

من اللافت، أنه في أسوأ تدهور لصحته آخر حياته، وقد صار عاجزا تماما عن التحدث في شؤون الحياة العادية، كان لا يزال قادرًا على الإجابة بشكل صحيح وواضح، وبدرجة مثالية ومذهلة، عن أي مسألة فلسفية أو علمية، لا سيما في الجغرافيا الطبيعية أو الكيمياء أو التاريخ الطبيعي. تحدث جيدا في أسوأ حالاته، عن الغازات، وذكر مقترحات مختلفة تمامًا عن كيبلر، وخاصة قانون المسارات الكوكبية.

كان متعبا من الحياة، ويتوق إلى ساعة الرحيل. قال ذات مرة: «لن أكون مفيدا للعالم أكثر من ذلك، أنا عبء على نفسي».

ولما سأله خادمه المفصول لسوء خلقه شهادة مكتوبة، شعر بحرج، لأن توقيره للحقيقة تعارض مع دوافعه الخيرة، فجلس متوترا قلقا لفترة طويلة، وأمامه الورقة البيضاء، ناقشني ولم أكن مستعدا لإبداء الرأي. فكتب أخيرا ما يلي، دون أن يعلم أن الخادم كان يسرقه

لقد خدمني لفترة طويلة بإخلاص، لكنه لم يصبر - مع ما لديه من مؤهلات خاصة - على خدمة رجل عجوز ومقعد مثلي

يحرص كانط على وجود عدد مناسب من الشبان يكونون غالبًا من صغار السن ويتم اختيارهم من بين طلاب الجامعة، لأنهم يضفون على المحادثات طابعًا من المرح والدعابة اللذين تتميز بهما الأرواح الشابة، وكان ذلك دافعًا إضافيا، كما أعتقد، لكي يُبعد ذهنه بهذه الطريقة عن الحزن الذي خيم عليه بسبب الوفاة المبكرة لبعض أصدقائه من الشباب الذين أحبهم.

- أولا، يجب أن يكون المدعوون متنوعي التخصصات لضمان قدر كاف من تنوّع المحادثة. ولذلك، كانت حفلاته كأنها صورة مصغرة من مدينة كونيغسبرغ، تضم فئات متنوعة من مختلف مشارب الحياة، كأصحاب المناصب والأساتذة والأطباء ورجال الدين والتجار المستنيرين.