أماني عبد السلام's Blog

March 7, 2022

سجينتان

حملت ( سلمى) طبق الغسيل الكبير وتوجهت نحو شرفة منزلها مُقعرة ظهرها تحاول التخلص بلطف من صغيرها ذي العام وبضعة أشهر والذي يتشبث بساقها كلبلاب يتسلق على جذع شجرة نحيلة. المهمة التي تبدو بسيطة - وهي نشر الملابس على الحبل- يتضاعف وقتها وحملها منذ أتى الصغير إلى الدنيا.
تركت طبق الغسيل الكبير في ركن ما وأخذت صغيرها تحاول تنويمه قبل أن تقوم بمهمتها الانتحارية : نشر الغسيل! كل شيء أصبح مخيفاً . فتح النوافذ أو باب الشرفة ، فتح باب المنزل أو الرد على طارق ما ، إجابة مكالمة من رقم مجهول، ركوب سيارة أجرة بمفردها ، الاتصال بالجيران ... قائمة الممنوعات التي وضعها زوجها تزداد طولاً كسلاسل حديدية في معتقل من القرون الوسطى.
أخيراً نام الصغير وحملت نفسها حملاً لتكمل مهام المنزل وألا تستسلم للسرير الذي يحاول ابتلاعها. وقفت تنشر الملابس الصغيرة جداً والكثيرة جداً تلفحها الشمس تارة ، وتهب عليها نسمة من نسمات الخريف اللطيفة لتصالحها. تتوقف قليلاً تتأمل الشجرة الكبيرة أسفل المنزل تتمايل غصونها مع الهبات الخافتة . ابتسمت في حنين للأيام الخوالي وظل الشجرة التي كان يجمعها مع صديقاتها في إجازة الصيف. دارت بعينيها تنظر لشرفات الجيران فتوقفت عيناها عند نافذة في الطابق الأرضي لبناية تواجه شرفتها تماماً. هناك كانت نافذة محاصرة بالقضبان الحديدية تقف خلفها امرأة عجوز بدينة ترتدي جلباباً وردياً واسعاً تلوح بيدها تجاهها، أو هكذا بدا لها.
تعجبت سلمى وأشاحت بوجهها تقول ( إنها لا تلوّح لي بالتأكيد). تظاهرت باللامبالاة، وأكملت نشر الملابس تلقي طرفها من آن لآخر تجاه النافذة فتجد المرأة مازالت تلوح. ربما تلوح لبائع في الطرقات؟َ! لا صوت يصدح هنالك ولا عربة تمر. ربما تلوّح لجارة تعرفها تسكن في الطوابق السفلى؟ ربما !
الغسالة تعمل يومياً . الصغار يسببون مكاسب لا بأس بها لشركتي الكهرباء و الماء ، ولأطباء العظام أيضاً . تخرج سلمى كل صباح بطبق الغسيل متسللة قبل استيقاظ الطفل لتنتهي من نشر الملابس و جمع غيرها ، أو تنتظر إلى المغرب حيث يأتي الزوج فيحمل صغيره إلى أن تنتهي من مهامها. ثلاثة أيام.. أربعة.. خمسة ، والمرأة العجوز تظهر يومياً من خلف النافذة تلوح بيدها. تظهر صباحاً ، عصراً ، و مساءً. وقر في نفس سلمى أنها ربما مريضة نفسية. حكت لزوجها و اتفق معها في نظريتها .
قررت سلمى في اليوم السادس أن تراقب النافذة سبب القلق من خلف شيش أحد غرف المنزل المطلة على نفس النافذة. استيقظت لصلاة الفجر و نظرت من خلف شيش غرفتها. ارتدت مصعوقة فالمرأة كانت هناك تنظر جهتها و تلوح بذراعها المفرود تقف خلف القضبان.
جسد سلمى يرتعش بشدة و الذهول يسيطر عليها . أيقظت زوجها بفزع فانتفض من فراشه يتعجب من الرعشة التي تزلزلها. أشارت نحو النافذة فاتجه نحوها وفتحها عن آخرها. النافذة ذات القضبان مغلقة ولا أحد هناك. قالت سلمى بعينين باكيتين " أقسم لك ... المرأة تلوّحُ لي من خلف النافذة". قال متحيراً " ما الذي سيخرجها في الفجر لتلوّح لك يا سلمى؟!" ردت بنفس الصوت الباكي " لا أعرف ! منذ أسبوع أراها كل يوم تقف في النافذة وتلوّح بكفها تجاهي .. انزل الآن و اسأل من يسكن في تلك الشقة اللعينة ". أغلق النافذة و هو يغمغم " ما هذا الجنون يا ربي!". كررت بإلحاح أن عليه الذهاب في الصباح لمعرفة ساكن الشقة ، فهدأها وعاد لنومه وهو يعدها بالمرور على البناية المقابلة قبل الذهاب لعمله. يغادرها كعادته إلى عمله ، تاركاً إياها دامعة العين كما لو تركها في أبي زعبل!
لم تقترب سلمى ذلك الصباح لا من النافذة و لا من الشرفة. تركت الملابس متكومة في طبق الغسيل و حبست نفسها مع صغيرها تقاوم رعشة كفيها ونفضة قلبها حتى اتصل بها زوجها قائلاً " الشقة يا سلمى يسكن بها رجل عجوز وابنه ، لا يوجد أي نساء!"
سلمى تستمع لزوجها عبر الهاتف و هي تتجه نحو شيش الغرفة تنظر من خلفه. تعصر عينيها وتنظر . المرأة واقفة بجلبابها الوردي الواسع تلَوح لها . لم تجب زوجها . فقط فتحت عينيها لتجد نفسها في فراشها تستعيد وعيها الذي غادرها عند النافذة. صغيرها يبكي ، وأمها وزوجها بجوارها ، والقلق باد على وجهيهما.
--
تناولت سلمى حبوب علاج الاكتئاب التي وصفها الطبيب . كفت عن التكلم عن هذا الأمر تماماً .. عن المرأة العجوز ذات الجلباب الوردي التي ما زالت تخرج للنافذة تشير لها. الأقراص لا تسبب أي تحسن . على العكس تزيد من إحساسها بالمرض و العجز. تثقلها ، تدير رأسها، تذيقها ويلات الأعراض الجانبية كاملة ، أما المرأة " المُتوَهمة" التي تراها خلف القضبان فلم تتزحزح.
نظرت للصغير الذي مشي متعثراً حتى وصل إليها. محاولاته لتسلق كل شيء لا تنتهي . مهما صاحت فيه ومهما بلغ عدد مرات إنزالها له. يجري ويسقط ويملأ رأسه بالكدمات المتكورة المزرقة ، ولا يكف عن المحاولة. سعيه للتحرر من يديها ، من الجدار ، و من الجاذبية الأرضية حتى ، مستمرٌّ إلى الأبد. لمعت عيناها و نهضت بدون مقدمات ارتدت ثيابها و حملت الصغير. لم تتصل بزوجها لتخبره بنزولها – الذي لن يوافق عليه – ترددت عند باب الشقة وكأنها تلقي نفسها وصغيرها في البحر. ما الذي سيحدث على أية حال؟ "خناقة و تعدي!".
اتجهت سلمى تحمل طفلها نحو البناية المقصودة. الغريب أن المرأة اختفت والنافذة مغلقة . التردد يصيبها مع كل خطوة تخطوها تجاه البناية. لقيتها – كعادة المساكن القديمة – رائحة غير محببة و أوراق و أكياس حملتها رياح الخريف فملأت مدخل البناية الذي ضم بابين وسلماً يفضي إلى قبو، تحول إلى مسبح من الأوراق والأكياس الفارغة. خطت درجتين أو ثلاثة و دارت بعينيها في مدخل البناية الباردة المخيفة. طرقت باب الشقة المطلة على الشارع. مرت دقائق قبل أن يفتح الباب عجوز سبعيني ذو وجه بشوش ورأس أصلع ولحية بيضاء مطمئنة. اعتذرت كثيرا قبل أن تسأل عن امرأة تسكن هنا في البناية ووصفتها له. " ما اسمها يا بنتي؟ لقد سألني أستاذ آخر عن امرأة تسكن هنا" قالت بتوتر زادته حركة صغيرها الذي يحاول الإفلات من قيد ذراعيها " لا أعرف يا عمو .. أنا .. أنا كنت .. أرسل لها صدقة سابقاً". هز الرجل رأسه وكتفيه منكراً معرفة أي امرأة بهذه الأوصاف. كادت ترتحل عنه بيأس قبل أن يقول " اطرقي الباب المجاور ربما هناك خطأ في الشقة".
رغم تأكدها أن نافذته بالذات هي التي تطل منها المرأة، إلا إنها قررت طرق جميع الأبواب الممكنة . سألت العجوز : " هل هناك شقق في (البدروم) يا عمو ؟" قال " شقتان .. إحداهما مخزن و الثانية خالية منذ زمن ولم أعد أر صاحبها". عرض العجوز أن يساعدها في الخير الذي تسعى له بهذا الإصرار. أحضر مفاتيحه وطرق الباب الآخر. أطلت ربة منزل من خلف الباب. ربة منزل عادية شابة لم تكد تفتح الباب حتى فر من فرجة الباب ولد صغير لا يزيد عمره عن الثلاث سنوات. خففت سلمى وطأة ذراعيها الحديديتين عن ابنها، وتركته يتجول في مدخل البناية مع الفتى الآخر، وعيناها تتنقلان بين المرأة و العجوز و بين الصغيرين بقلق لم تخف وطأته.
بعد ترحيب وسؤال عن الأحوال ، نفت الجارة الشابة معرفتها بامرأة بهذه الصفة. فجأة علا صراخ الولدين اللذيْن انزلقا فوق الدرجات المؤدية للقبو. جرت سلمى بفزع وفي لمح البصر كانت على ركبتيها في أرض القبو الرطبة المتسخة تضم صغيرها الذي لم يصبه كثير أذى، بينما تعاملت المرأة الأخرى ببساطة وأوقفت صغيرها على قدميه قائلة بمرح " قم يا عفريت .. أهكذا تقع مثل(الجردل) ؟!". هدَأ الرجل و المرأة من فزع سلمى المبالغ فيه، وانتظرا الصغير حتى سكن . هنا ارتفعت نبضات قلوبهم للذروة. من خلف أحد البابين في المطلين على القبو كانت أنّةٌ تجاهد لتتسلل من خلف الباب الخشبي.
قالت المرأة بذهول " ما هذا الصوت يا عم محمد ؟"
أجابها بتوتر شديد :" لا أعرف يا ابنتي!"
رغم رعبها قامت سلمى تطرق الباب الغامض وتلصق أذنها بالباب. الأنة تجاهد لتعلو أكثر. أنة امرأة في الغالب. قالت سلمى " ما العمل ؟ " قال العجوز بحزم " اتصلي بالبوليس وانا سأتصل بابني ليأتي فوراً."
كادت سلمى تشتعل من لهفتها .. تطرق الباب وتنادي، وتحاول فتحه بقلة حيلة حتى وصلت سيارة شرطة النجدة. تعاون شرطيان وفتحا الباب الموصد . تراجع الجميع وقد هبت رائحة كمشرحة سيئة التهوية. وهناك كان أبشع مشهد من الممكن أن يراه إنسان.
امرأة عجوز مشلولة ترتدي جلباباً كان وردياً تركت هناك في فراش اتسخ بفضلاتها. فئران أكلت من أثاث الغرفة ما أكلت ، وقضمت من أصابعها وأذنها ما قضمت. قرح الفراش اخترقت عظامها ونحل جسدها حتى بدت كمومياء. المرأة تركت هناك لتموت فحدث لها ما هو أسوأ من الموت. امرأة تركها شخص تعرى من الرحمة. الغريب أنها كانت لا تزال على قيد الحياة ، تئن وتشكو إلى ربها!
--
جلست سلمى في غرفتها تضم صغيرها النائم لا تملك كبحاً لمدامعها التي انسدلت . دخل زوجها بتردد . تنهد ومد يده يربت على كتفها فانتفضت. هدَأها وقال " حقك عليّ يا سلمى .. لم يكن أحد ليصدق هذا" هزت رأسها بتفهم. مسحت دموعها تتمتم بحمد الله و قد ثبت للجميع براءتها من الجنون. قالت : " لازلت أنا لا أصدق ما حدث، ولا أفهمه أيضاً!"
قال : " لعلها رؤيا كالتي أخرجت يوسف الصديق من السجن"
أومأت موافقاً وتمتمت: " رؤيا في اليقظة! لعلها كذلك بالفعل!"
صمت قليلا وجلس أمامها ثم قال بصوت حزين: " لقد توفيت المرأة اليوم في المستشفى!" نظرت له بدهشة وسالت دمعتان أخريان على خديها. أخذ من حضنها الطفل الصغير ووضعه على الفراش برفق. غمغمت بصوت باك "ليتني تجرأت مبكراً قليلاً."
--
ودعت سلمى صغيرها عند باب الحضانة محاولة تجاهل قلبها الذي يتمزق من سماع بكائه خلفها. أوقفت سيارة أجرة واتجهت بها إلى المكتب الذي تعمل به كسكرتيرة . تنطلق بها السيارة والهواء يرتطم بوجهها يثير زوبعة من الذكريات. تتذكر المرأة ذات الجلباب الوردي خلف القضبان التي أشارت لها يوماً فحررت امرأتين في يوم واحد .. دعت لها بالرحمة وهي لا تعلم اسمها حتى اللحظة ، وربما لا أحد يعلم. تتمتم لنفسها بتأثر " و لكن الله يعلم!"
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 07, 2022 01:31 Tags: قصة-قصيرة

February 28, 2022

شريك السكن_ قصة قصيرة

"مرحباً يا باشمهندس محمد"
قالها جمال السمسار و ليلة وصولي لسوهاج و هو يقودني للشقة اللقطة الرخيصة التي اتفق لي عليها لأقضي بها أيام دراستي في الجامعة .
حملت حقيبة سفري السوداء و اتجهت خلفه و هو يغادر محله و ركبنا السيارة و انطلق. لم أتعامل مع سمسار في حياتي. كنت دائماً اتخيل السمسار رجلاً بدينا يرتدي جلباباً و يبتسم بخبث و هو يحك كفيه ببعضهما .. اقرب شبهاً بالراحل زكي رستم و هو يقول عبارته الشهيرة " ربنا يجازي ولاد الحرام".
الحقيقة ان الرجل يبدو طبيعياً. سبحان الله يرتدي قميصاً و بنطالاً و ليس بدينا . و لكنه ثرثار و منافق. لقد مدحني و مدح نفسه و مدح الشقة و مدح الجيران .. سيسكنني في جنة الفردوس شخصياً.
وصلنا لمنطقة سكنية . عمارات من خمسة أدوار متشابهة متجاورة كمكاتب المصالح الحكومية. و تثير في النفس الكآبة مثلها. ظل يوغل في غابات البنايات الأسمنتية تلك و تاه بي داخلها و لا أعلم كيف سيخرج. وصلنا لمربع مكون من ثلاث بنايات و سور عال. العمارة المطلوبة هي التي في مواجهتي و السور على يساري ويمينها تماماً.
الظلام دامس أسفل العمارة. لا يوجد مصباح واحد يضيء المكان . فقط تتسلسل الأضواء البعيدة من المدينة العامرة. ياللبخل!
مخاضة من ماء الصرف تضيف إثارة لمحاولة دخول البناية المطلوبة. الطريق إلى الجنة محفوف بالابتلاءات هذا طبيعي . حمار و عربة "كارو" أفلتا من فم الزمن بأعجوبة ، يربضان بجوار باب البناية.
قفزت فوق المخاضة و دخلنا البناية الأشد إظلاماً. الطوابق الأعلى أكثر إضاءة بسبب الأنوار التي تزورها من بعيد. شخص واحد كدت أطرق الباب عليه و أصافحه بحرارة إذ أضاء " البسطة" أمام شقته بمصباح تنجستون أصفر مزعج أفلت من نفس الثقب الأسود الذي أفلتت منه عربة الكارو.
السلم ضيق جدا و طويل جداً. لولا أنني صاعد لا نازل، لظننت نفسي أسعى إلى أحد مقابر الفراعين باحثاً عن كنز. وصلنا الشقة أخيراً. فتح جمال الباب و أسرع يضيء الأضواء و يفتح النافذة و سرى في الشقة يفتح الأبواب المغلقة و يضيء بقية المصابيح . توترت حين نظرت من النافذة المفتوحة و انا لا أزال أقف عند باب الشقة. أمام النافذة بالضبط كان يرتفع برجٌ كنسي يحمل الصليب و يتدلى جرسه ظاهراً للعيان. ابتلعت ريقي و اقتربت من النافذة انظر للأسفل. نعم هذا هو أقرب طريق للفردوس. فالسور العالي الذي رأيته بالأسفل كان يحيط بالمقابر !
سألت السمسار بضيق " لماذا لم تخبرني بموضوع المقابر هذا " قال ببساطة " مالك و للمقابر؟ على الأقل هؤلاء الجيران لا يثيرون صخباً ستستطيع التركيز جيداً" قالها و ضحك ضحكة عالية و هو يربت على كتفي بقوة.
الشقة عبارة عن صالة مربعة صغيرة . على اليسار توجد النافذة و برج الكنيسة و الجرس المدلى. تحت النافذة وضعت كنبة اسطنبوللي عتيقة تمت تغطيتها بقماش سكري منقوش بزهور ثمانينية و مقعدان آخران منجدان و تمت تغطيهما بقماش مماثل. طاولة خشبية بيضوية تتوسط هذا الصالون الفاخر. الجدران مطلية بدرجة مزعجة من اللون الوردي سببت لي مع مصباح التنجستون الأصفر درجة من درجات هياج الأعصاب. تلفاز صغير و جهاز ريسيفر ينطق أخيراً بأننا في القرن الواحد و العشرين . و الأرض تحمل قطعة سجاد تم مضغها. في مواجهة الباب تقع الغرفة الوحيدة بالشقة. أخيراً شيء مبشر. الغرفة مطلية بلون سماوي وبها مصباح نيون يضيء الغرفة الأبيض و يجفل منطفئاً كل بضعة دقائق كطالب مصاب بالنعاس يسقط جفناه من وقت لآخر.
سرير حديدي على اليمين عليه مرتبة اكبر من حجمه حشرت حشراً بين دفتيه. خزانة خشبية مزخرفة بالخدوش و الخربشات ، طاولة أخرى للدراسة على اليسار و مقعد خشبي تقليدي .
ناداني جمال لأرى الحمام الواقع على يمين الداخل هو و أرضيته من ال"موزايكو" و قد طليت جدرانه بالوردي. تعجبني رومانسية صاحب الشقة. لا يهم أي شيء المهم أنه يوجد حمام افرنجي فالآخر يصيبني بالفوبيا !
مطبخ قديم خشبي مكون من قطعتين فوق بعضهما البعض، ثلاجة إيديال تطقطق و موقد من إنتاج المصانع الحربية تم تصميمه بواسطة خريجي هندسة الصواريخ.
تنهدت، فحالي أفضل قليلاً من الفتى الذي ألقى بنفسه من أعلى برج القاهرة. أنا الشاب الذي أسكن في مصر الجديدة و أزلقني مجموع الثانوية العامة إلى هذه الشقة و إلى كلية الهندسة جامعة سوهاج.
دفعت لجمال العمولة و الإيجار مقدماً و أخذت الإيصال و العقد و أغلقت الباب أتمنى النوم.
أغلقت النافذة البغيضة. انا لا أتشاءم و لا أتفاءل و لكن المقابر مقبضة و من يدعي غير ذلك فهو يكذب. المضحك أنني حتى لو حاولت تناسي أن المقابر أسفل شقتي سيظل البرج واقفاً يخرج لي لسانه كلما فتحت النافذة، و سيظل جرسه ينخزني لو أغلقتها.
ارتديت ثياب النوم و توضأت و وقفت لأصلي العشاء مواجهاً للتلفاز المغلق الموضوع على طاولة صغيرة بجوار باب الغرفة. كبرت و أخذت أتلو فلمحت ظل رجل منعكساً على الشاشة المظلمة. ظل رجل أصلع قصير يقف جواري!
شعر جسدي انتصب بالكامل . استعذت بالله و نظرت لموضع السجود و قرأت كل المعوذات و آية الكرسي و كل ما يمكن قراءته . صليت و قلبي متسارع أشعر به كمثقاب ينخر صدري بصوته العالي الذي يصك الأسنان . لم أدر كيف صليت. التفت حولي و لم يكن هناك أحد. أسرعت نحو هاتفي بيد مرتعشة أفتح أي تطبيق يقرأ القرآن. يداي يسري فيهما تيار عالي الجهد.
بعد قليل هدأ قلبي قليلاً و أخذت أسخر من نفسي كاذباً. أيها الجبان !
دخلت للغرفة و أخرجت ملاءة لأنشرها فوق السرير و ألبست الوسادة كيسها فأمي تذكرني بهذا في كل مرة حتى لا أتعرق على قطن الوسادة . و لا أدري ما الضرر في أن أتعرق على وسادتي . لن أناقش أمي الآن فأنا أريدها في الحقيقة أن تأتي و أن تتركني أنام على حجرها و تضع يدها فوق رأسي و ترقيني . أطفأت نور الغرفة و تركت نور الصالة يتسلل لي ليؤنسني. استلقيت وضعت المحمول بجوار رأسي و تركت صوت القرآن يسري و قلبي مازال يرجف و الهواء البارد يعبر صدري كشاليه مفتح النوافذ !
وصل إشعار إلى المحمول أوقف تطبيق القرآن فنهضت أستند إلى مرفقي لأعيد تشغيل السورة. و على ضوء المحمول في الظلام وجدت وجه رجل أمامي مباشرة.
ما حدث لي ليس انتفاضاً بل هو نوبة صرع عنيفة . شهقة فزع خرجت من فمي. و من صعقتي وجدت نفسي ملقى على الأرض.
أسرعت أضيء الأنوار و أنا اقرأ كل ما أحفظه من القرآن. لم يكن وهماً. نفس الرجل الذي رأيته منعكساً على شاشة التلفاز .. رجل قصير أصلع. شغلت تلاوة سورة البقرة مرة أخرى على المحمول و رفعت الصوت للنهاية . التصقت بالحائط و جلست أرضاً ألهث مذعوراً.
أنا لا أحب افلام الرعب و ادريناليني حساس للغاية يرتفع للسماء مع رؤية صرصور طائر. لطالما كنت مثار سخرية زملائي. ليتهم يأتون الآن و ليريني أحدهم رجولته.
الثلاجة اللعينة تطلق صوت طقطقة كل فترة تزيد حالتي سوءا ً و تطلق خيالي نحو حافرين أحمرين كحوافر تيس عملاق تخطوان في الصالة. أبتلع ريقي بصوت أعلى من صوت الثلاجة. قلبي عالق بحلقي يمنعني من التنفس.
ارتفع رنين الهاتف فانتفضت ثانية و وقع الهاتف على الأرض. أمسكته و عيناي متسعتان أخاف ان أرمش فيأتيني الرجل الأصلع من أي جهة. كان المتصل هو جمال. " ألو يا باشمهندس" " انت بخير؟ ما رأيك الشقة مريحة ؟ هل ينقصك شيء؟ "
أسرعت أقول محاولاً التظاهر بالرجولة التي ودعتني للأبد ربما " أستاذ جمال تحدث أشياء غريبة في الشقة"
هتف جمال " يا إلهي لقد رأيته ؟! ظهر لك مبكراً .. في العادة ينتظر بعض الوقت !"
هتفت برعب " ماذا تقول يا رجل ! من هو ؟ هل أعيطتني شقة مسكونة أيها ال..."
ضحك مرة اخرى و قال " لا تخف يا باشمهندس .. إنه جني مسلم يسكن الشقة و سيرحل لا تقلق .. إنه غير مؤذٍ". الحمد لله طمأنتني يا أستاذ مروض العفاريت!
لهذا لا ينصرف مع كل هذا القرآن. و لعله ظهر مبكراً لأنه يستمتع بسماعه. ياللمسخرة !!
قلت لجمال " و ماذا علي ان أفعل؟ هل أقدم له عشاء؟!"
ضحك جمال ثالثة : " لا داعي .. هو يتصرف"
**
أستعد للذهاب للكلية . اليوم هو امتحان السنة الثانية. اعتدت المكان. أفتح النافذة صباحاً أسمح للشمس بالدخول- بناء على توصية امي - لتتعامل مع ميكروباتي و رائحة جواربي. أنظر لماء الصرف المتراكم بالأسفل. لقد جف قليلاً و لن نحتاج للقفز و عم برعي أو مرعي أو أي اسم آخر يعد عربته و حماره لينطلق إلى رزقه. أعددت قهوتي و شطيرة فولي الخرسانية و جلست في الصالة أتناوله. لمحت صديقي الأصلع القصير ماراً من باب الشقة إلى الغرفة. هتفت " صباح الخير يابو عمو... تفضل الإفطار !"
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 28, 2022 14:33 Tags: قصة-قصيرة