شريك السكن_ قصة قصيرة

"مرحباً يا باشمهندس محمد"
قالها جمال السمسار و ليلة وصولي لسوهاج و هو يقودني للشقة اللقطة الرخيصة التي اتفق لي عليها لأقضي بها أيام دراستي في الجامعة .
حملت حقيبة سفري السوداء و اتجهت خلفه و هو يغادر محله و ركبنا السيارة و انطلق. لم أتعامل مع سمسار في حياتي. كنت دائماً اتخيل السمسار رجلاً بدينا يرتدي جلباباً و يبتسم بخبث و هو يحك كفيه ببعضهما .. اقرب شبهاً بالراحل زكي رستم و هو يقول عبارته الشهيرة " ربنا يجازي ولاد الحرام".
الحقيقة ان الرجل يبدو طبيعياً. سبحان الله يرتدي قميصاً و بنطالاً و ليس بدينا . و لكنه ثرثار و منافق. لقد مدحني و مدح نفسه و مدح الشقة و مدح الجيران .. سيسكنني في جنة الفردوس شخصياً.
وصلنا لمنطقة سكنية . عمارات من خمسة أدوار متشابهة متجاورة كمكاتب المصالح الحكومية. و تثير في النفس الكآبة مثلها. ظل يوغل في غابات البنايات الأسمنتية تلك و تاه بي داخلها و لا أعلم كيف سيخرج. وصلنا لمربع مكون من ثلاث بنايات و سور عال. العمارة المطلوبة هي التي في مواجهتي و السور على يساري ويمينها تماماً.
الظلام دامس أسفل العمارة. لا يوجد مصباح واحد يضيء المكان . فقط تتسلسل الأضواء البعيدة من المدينة العامرة. ياللبخل!
مخاضة من ماء الصرف تضيف إثارة لمحاولة دخول البناية المطلوبة. الطريق إلى الجنة محفوف بالابتلاءات هذا طبيعي . حمار و عربة "كارو" أفلتا من فم الزمن بأعجوبة ، يربضان بجوار باب البناية.
قفزت فوق المخاضة و دخلنا البناية الأشد إظلاماً. الطوابق الأعلى أكثر إضاءة بسبب الأنوار التي تزورها من بعيد. شخص واحد كدت أطرق الباب عليه و أصافحه بحرارة إذ أضاء " البسطة" أمام شقته بمصباح تنجستون أصفر مزعج أفلت من نفس الثقب الأسود الذي أفلتت منه عربة الكارو.
السلم ضيق جدا و طويل جداً. لولا أنني صاعد لا نازل، لظننت نفسي أسعى إلى أحد مقابر الفراعين باحثاً عن كنز. وصلنا الشقة أخيراً. فتح جمال الباب و أسرع يضيء الأضواء و يفتح النافذة و سرى في الشقة يفتح الأبواب المغلقة و يضيء بقية المصابيح . توترت حين نظرت من النافذة المفتوحة و انا لا أزال أقف عند باب الشقة. أمام النافذة بالضبط كان يرتفع برجٌ كنسي يحمل الصليب و يتدلى جرسه ظاهراً للعيان. ابتلعت ريقي و اقتربت من النافذة انظر للأسفل. نعم هذا هو أقرب طريق للفردوس. فالسور العالي الذي رأيته بالأسفل كان يحيط بالمقابر !
سألت السمسار بضيق " لماذا لم تخبرني بموضوع المقابر هذا " قال ببساطة " مالك و للمقابر؟ على الأقل هؤلاء الجيران لا يثيرون صخباً ستستطيع التركيز جيداً" قالها و ضحك ضحكة عالية و هو يربت على كتفي بقوة.
الشقة عبارة عن صالة مربعة صغيرة . على اليسار توجد النافذة و برج الكنيسة و الجرس المدلى. تحت النافذة وضعت كنبة اسطنبوللي عتيقة تمت تغطيتها بقماش سكري منقوش بزهور ثمانينية و مقعدان آخران منجدان و تمت تغطيهما بقماش مماثل. طاولة خشبية بيضوية تتوسط هذا الصالون الفاخر. الجدران مطلية بدرجة مزعجة من اللون الوردي سببت لي مع مصباح التنجستون الأصفر درجة من درجات هياج الأعصاب. تلفاز صغير و جهاز ريسيفر ينطق أخيراً بأننا في القرن الواحد و العشرين . و الأرض تحمل قطعة سجاد تم مضغها. في مواجهة الباب تقع الغرفة الوحيدة بالشقة. أخيراً شيء مبشر. الغرفة مطلية بلون سماوي وبها مصباح نيون يضيء الغرفة الأبيض و يجفل منطفئاً كل بضعة دقائق كطالب مصاب بالنعاس يسقط جفناه من وقت لآخر.
سرير حديدي على اليمين عليه مرتبة اكبر من حجمه حشرت حشراً بين دفتيه. خزانة خشبية مزخرفة بالخدوش و الخربشات ، طاولة أخرى للدراسة على اليسار و مقعد خشبي تقليدي .
ناداني جمال لأرى الحمام الواقع على يمين الداخل هو و أرضيته من ال"موزايكو" و قد طليت جدرانه بالوردي. تعجبني رومانسية صاحب الشقة. لا يهم أي شيء المهم أنه يوجد حمام افرنجي فالآخر يصيبني بالفوبيا !
مطبخ قديم خشبي مكون من قطعتين فوق بعضهما البعض، ثلاجة إيديال تطقطق و موقد من إنتاج المصانع الحربية تم تصميمه بواسطة خريجي هندسة الصواريخ.
تنهدت، فحالي أفضل قليلاً من الفتى الذي ألقى بنفسه من أعلى برج القاهرة. أنا الشاب الذي أسكن في مصر الجديدة و أزلقني مجموع الثانوية العامة إلى هذه الشقة و إلى كلية الهندسة جامعة سوهاج.
دفعت لجمال العمولة و الإيجار مقدماً و أخذت الإيصال و العقد و أغلقت الباب أتمنى النوم.
أغلقت النافذة البغيضة. انا لا أتشاءم و لا أتفاءل و لكن المقابر مقبضة و من يدعي غير ذلك فهو يكذب. المضحك أنني حتى لو حاولت تناسي أن المقابر أسفل شقتي سيظل البرج واقفاً يخرج لي لسانه كلما فتحت النافذة، و سيظل جرسه ينخزني لو أغلقتها.
ارتديت ثياب النوم و توضأت و وقفت لأصلي العشاء مواجهاً للتلفاز المغلق الموضوع على طاولة صغيرة بجوار باب الغرفة. كبرت و أخذت أتلو فلمحت ظل رجل منعكساً على الشاشة المظلمة. ظل رجل أصلع قصير يقف جواري!
شعر جسدي انتصب بالكامل . استعذت بالله و نظرت لموضع السجود و قرأت كل المعوذات و آية الكرسي و كل ما يمكن قراءته . صليت و قلبي متسارع أشعر به كمثقاب ينخر صدري بصوته العالي الذي يصك الأسنان . لم أدر كيف صليت. التفت حولي و لم يكن هناك أحد. أسرعت نحو هاتفي بيد مرتعشة أفتح أي تطبيق يقرأ القرآن. يداي يسري فيهما تيار عالي الجهد.
بعد قليل هدأ قلبي قليلاً و أخذت أسخر من نفسي كاذباً. أيها الجبان !
دخلت للغرفة و أخرجت ملاءة لأنشرها فوق السرير و ألبست الوسادة كيسها فأمي تذكرني بهذا في كل مرة حتى لا أتعرق على قطن الوسادة . و لا أدري ما الضرر في أن أتعرق على وسادتي . لن أناقش أمي الآن فأنا أريدها في الحقيقة أن تأتي و أن تتركني أنام على حجرها و تضع يدها فوق رأسي و ترقيني . أطفأت نور الغرفة و تركت نور الصالة يتسلل لي ليؤنسني. استلقيت وضعت المحمول بجوار رأسي و تركت صوت القرآن يسري و قلبي مازال يرجف و الهواء البارد يعبر صدري كشاليه مفتح النوافذ !
وصل إشعار إلى المحمول أوقف تطبيق القرآن فنهضت أستند إلى مرفقي لأعيد تشغيل السورة. و على ضوء المحمول في الظلام وجدت وجه رجل أمامي مباشرة.
ما حدث لي ليس انتفاضاً بل هو نوبة صرع عنيفة . شهقة فزع خرجت من فمي. و من صعقتي وجدت نفسي ملقى على الأرض.
أسرعت أضيء الأنوار و أنا اقرأ كل ما أحفظه من القرآن. لم يكن وهماً. نفس الرجل الذي رأيته منعكساً على شاشة التلفاز .. رجل قصير أصلع. شغلت تلاوة سورة البقرة مرة أخرى على المحمول و رفعت الصوت للنهاية . التصقت بالحائط و جلست أرضاً ألهث مذعوراً.
أنا لا أحب افلام الرعب و ادريناليني حساس للغاية يرتفع للسماء مع رؤية صرصور طائر. لطالما كنت مثار سخرية زملائي. ليتهم يأتون الآن و ليريني أحدهم رجولته.
الثلاجة اللعينة تطلق صوت طقطقة كل فترة تزيد حالتي سوءا ً و تطلق خيالي نحو حافرين أحمرين كحوافر تيس عملاق تخطوان في الصالة. أبتلع ريقي بصوت أعلى من صوت الثلاجة. قلبي عالق بحلقي يمنعني من التنفس.
ارتفع رنين الهاتف فانتفضت ثانية و وقع الهاتف على الأرض. أمسكته و عيناي متسعتان أخاف ان أرمش فيأتيني الرجل الأصلع من أي جهة. كان المتصل هو جمال. " ألو يا باشمهندس" " انت بخير؟ ما رأيك الشقة مريحة ؟ هل ينقصك شيء؟ "
أسرعت أقول محاولاً التظاهر بالرجولة التي ودعتني للأبد ربما " أستاذ جمال تحدث أشياء غريبة في الشقة"
هتف جمال " يا إلهي لقد رأيته ؟! ظهر لك مبكراً .. في العادة ينتظر بعض الوقت !"
هتفت برعب " ماذا تقول يا رجل ! من هو ؟ هل أعيطتني شقة مسكونة أيها ال..."
ضحك مرة اخرى و قال " لا تخف يا باشمهندس .. إنه جني مسلم يسكن الشقة و سيرحل لا تقلق .. إنه غير مؤذٍ". الحمد لله طمأنتني يا أستاذ مروض العفاريت!
لهذا لا ينصرف مع كل هذا القرآن. و لعله ظهر مبكراً لأنه يستمتع بسماعه. ياللمسخرة !!
قلت لجمال " و ماذا علي ان أفعل؟ هل أقدم له عشاء؟!"
ضحك جمال ثالثة : " لا داعي .. هو يتصرف"
**
أستعد للذهاب للكلية . اليوم هو امتحان السنة الثانية. اعتدت المكان. أفتح النافذة صباحاً أسمح للشمس بالدخول- بناء على توصية امي - لتتعامل مع ميكروباتي و رائحة جواربي. أنظر لماء الصرف المتراكم بالأسفل. لقد جف قليلاً و لن نحتاج للقفز و عم برعي أو مرعي أو أي اسم آخر يعد عربته و حماره لينطلق إلى رزقه. أعددت قهوتي و شطيرة فولي الخرسانية و جلست في الصالة أتناوله. لمحت صديقي الأصلع القصير ماراً من باب الشقة إلى الغرفة. هتفت " صباح الخير يابو عمو... تفضل الإفطار !"
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 28, 2022 14:33 Tags: قصة-قصيرة
No comments have been added yet.