سجينتان

حملت ( سلمى) طبق الغسيل الكبير وتوجهت نحو شرفة منزلها مُقعرة ظهرها تحاول التخلص بلطف من صغيرها ذي العام وبضعة أشهر والذي يتشبث بساقها كلبلاب يتسلق على جذع شجرة نحيلة. المهمة التي تبدو بسيطة - وهي نشر الملابس على الحبل- يتضاعف وقتها وحملها منذ أتى الصغير إلى الدنيا.
تركت طبق الغسيل الكبير في ركن ما وأخذت صغيرها تحاول تنويمه قبل أن تقوم بمهمتها الانتحارية : نشر الغسيل! كل شيء أصبح مخيفاً . فتح النوافذ أو باب الشرفة ، فتح باب المنزل أو الرد على طارق ما ، إجابة مكالمة من رقم مجهول، ركوب سيارة أجرة بمفردها ، الاتصال بالجيران ... قائمة الممنوعات التي وضعها زوجها تزداد طولاً كسلاسل حديدية في معتقل من القرون الوسطى.
أخيراً نام الصغير وحملت نفسها حملاً لتكمل مهام المنزل وألا تستسلم للسرير الذي يحاول ابتلاعها. وقفت تنشر الملابس الصغيرة جداً والكثيرة جداً تلفحها الشمس تارة ، وتهب عليها نسمة من نسمات الخريف اللطيفة لتصالحها. تتوقف قليلاً تتأمل الشجرة الكبيرة أسفل المنزل تتمايل غصونها مع الهبات الخافتة . ابتسمت في حنين للأيام الخوالي وظل الشجرة التي كان يجمعها مع صديقاتها في إجازة الصيف. دارت بعينيها تنظر لشرفات الجيران فتوقفت عيناها عند نافذة في الطابق الأرضي لبناية تواجه شرفتها تماماً. هناك كانت نافذة محاصرة بالقضبان الحديدية تقف خلفها امرأة عجوز بدينة ترتدي جلباباً وردياً واسعاً تلوح بيدها تجاهها، أو هكذا بدا لها.
تعجبت سلمى وأشاحت بوجهها تقول ( إنها لا تلوّح لي بالتأكيد). تظاهرت باللامبالاة، وأكملت نشر الملابس تلقي طرفها من آن لآخر تجاه النافذة فتجد المرأة مازالت تلوح. ربما تلوح لبائع في الطرقات؟َ! لا صوت يصدح هنالك ولا عربة تمر. ربما تلوّح لجارة تعرفها تسكن في الطوابق السفلى؟ ربما !
الغسالة تعمل يومياً . الصغار يسببون مكاسب لا بأس بها لشركتي الكهرباء و الماء ، ولأطباء العظام أيضاً . تخرج سلمى كل صباح بطبق الغسيل متسللة قبل استيقاظ الطفل لتنتهي من نشر الملابس و جمع غيرها ، أو تنتظر إلى المغرب حيث يأتي الزوج فيحمل صغيره إلى أن تنتهي من مهامها. ثلاثة أيام.. أربعة.. خمسة ، والمرأة العجوز تظهر يومياً من خلف النافذة تلوح بيدها. تظهر صباحاً ، عصراً ، و مساءً. وقر في نفس سلمى أنها ربما مريضة نفسية. حكت لزوجها و اتفق معها في نظريتها .
قررت سلمى في اليوم السادس أن تراقب النافذة سبب القلق من خلف شيش أحد غرف المنزل المطلة على نفس النافذة. استيقظت لصلاة الفجر و نظرت من خلف شيش غرفتها. ارتدت مصعوقة فالمرأة كانت هناك تنظر جهتها و تلوح بذراعها المفرود تقف خلف القضبان.
جسد سلمى يرتعش بشدة و الذهول يسيطر عليها . أيقظت زوجها بفزع فانتفض من فراشه يتعجب من الرعشة التي تزلزلها. أشارت نحو النافذة فاتجه نحوها وفتحها عن آخرها. النافذة ذات القضبان مغلقة ولا أحد هناك. قالت سلمى بعينين باكيتين " أقسم لك ... المرأة تلوّحُ لي من خلف النافذة". قال متحيراً " ما الذي سيخرجها في الفجر لتلوّح لك يا سلمى؟!" ردت بنفس الصوت الباكي " لا أعرف ! منذ أسبوع أراها كل يوم تقف في النافذة وتلوّح بكفها تجاهي .. انزل الآن و اسأل من يسكن في تلك الشقة اللعينة ". أغلق النافذة و هو يغمغم " ما هذا الجنون يا ربي!". كررت بإلحاح أن عليه الذهاب في الصباح لمعرفة ساكن الشقة ، فهدأها وعاد لنومه وهو يعدها بالمرور على البناية المقابلة قبل الذهاب لعمله. يغادرها كعادته إلى عمله ، تاركاً إياها دامعة العين كما لو تركها في أبي زعبل!
لم تقترب سلمى ذلك الصباح لا من النافذة و لا من الشرفة. تركت الملابس متكومة في طبق الغسيل و حبست نفسها مع صغيرها تقاوم رعشة كفيها ونفضة قلبها حتى اتصل بها زوجها قائلاً " الشقة يا سلمى يسكن بها رجل عجوز وابنه ، لا يوجد أي نساء!"
سلمى تستمع لزوجها عبر الهاتف و هي تتجه نحو شيش الغرفة تنظر من خلفه. تعصر عينيها وتنظر . المرأة واقفة بجلبابها الوردي الواسع تلَوح لها . لم تجب زوجها . فقط فتحت عينيها لتجد نفسها في فراشها تستعيد وعيها الذي غادرها عند النافذة. صغيرها يبكي ، وأمها وزوجها بجوارها ، والقلق باد على وجهيهما.
--
تناولت سلمى حبوب علاج الاكتئاب التي وصفها الطبيب . كفت عن التكلم عن هذا الأمر تماماً .. عن المرأة العجوز ذات الجلباب الوردي التي ما زالت تخرج للنافذة تشير لها. الأقراص لا تسبب أي تحسن . على العكس تزيد من إحساسها بالمرض و العجز. تثقلها ، تدير رأسها، تذيقها ويلات الأعراض الجانبية كاملة ، أما المرأة " المُتوَهمة" التي تراها خلف القضبان فلم تتزحزح.
نظرت للصغير الذي مشي متعثراً حتى وصل إليها. محاولاته لتسلق كل شيء لا تنتهي . مهما صاحت فيه ومهما بلغ عدد مرات إنزالها له. يجري ويسقط ويملأ رأسه بالكدمات المتكورة المزرقة ، ولا يكف عن المحاولة. سعيه للتحرر من يديها ، من الجدار ، و من الجاذبية الأرضية حتى ، مستمرٌّ إلى الأبد. لمعت عيناها و نهضت بدون مقدمات ارتدت ثيابها و حملت الصغير. لم تتصل بزوجها لتخبره بنزولها – الذي لن يوافق عليه – ترددت عند باب الشقة وكأنها تلقي نفسها وصغيرها في البحر. ما الذي سيحدث على أية حال؟ "خناقة و تعدي!".
اتجهت سلمى تحمل طفلها نحو البناية المقصودة. الغريب أن المرأة اختفت والنافذة مغلقة . التردد يصيبها مع كل خطوة تخطوها تجاه البناية. لقيتها – كعادة المساكن القديمة – رائحة غير محببة و أوراق و أكياس حملتها رياح الخريف فملأت مدخل البناية الذي ضم بابين وسلماً يفضي إلى قبو، تحول إلى مسبح من الأوراق والأكياس الفارغة. خطت درجتين أو ثلاثة و دارت بعينيها في مدخل البناية الباردة المخيفة. طرقت باب الشقة المطلة على الشارع. مرت دقائق قبل أن يفتح الباب عجوز سبعيني ذو وجه بشوش ورأس أصلع ولحية بيضاء مطمئنة. اعتذرت كثيرا قبل أن تسأل عن امرأة تسكن هنا في البناية ووصفتها له. " ما اسمها يا بنتي؟ لقد سألني أستاذ آخر عن امرأة تسكن هنا" قالت بتوتر زادته حركة صغيرها الذي يحاول الإفلات من قيد ذراعيها " لا أعرف يا عمو .. أنا .. أنا كنت .. أرسل لها صدقة سابقاً". هز الرجل رأسه وكتفيه منكراً معرفة أي امرأة بهذه الأوصاف. كادت ترتحل عنه بيأس قبل أن يقول " اطرقي الباب المجاور ربما هناك خطأ في الشقة".
رغم تأكدها أن نافذته بالذات هي التي تطل منها المرأة، إلا إنها قررت طرق جميع الأبواب الممكنة . سألت العجوز : " هل هناك شقق في (البدروم) يا عمو ؟" قال " شقتان .. إحداهما مخزن و الثانية خالية منذ زمن ولم أعد أر صاحبها". عرض العجوز أن يساعدها في الخير الذي تسعى له بهذا الإصرار. أحضر مفاتيحه وطرق الباب الآخر. أطلت ربة منزل من خلف الباب. ربة منزل عادية شابة لم تكد تفتح الباب حتى فر من فرجة الباب ولد صغير لا يزيد عمره عن الثلاث سنوات. خففت سلمى وطأة ذراعيها الحديديتين عن ابنها، وتركته يتجول في مدخل البناية مع الفتى الآخر، وعيناها تتنقلان بين المرأة و العجوز و بين الصغيرين بقلق لم تخف وطأته.
بعد ترحيب وسؤال عن الأحوال ، نفت الجارة الشابة معرفتها بامرأة بهذه الصفة. فجأة علا صراخ الولدين اللذيْن انزلقا فوق الدرجات المؤدية للقبو. جرت سلمى بفزع وفي لمح البصر كانت على ركبتيها في أرض القبو الرطبة المتسخة تضم صغيرها الذي لم يصبه كثير أذى، بينما تعاملت المرأة الأخرى ببساطة وأوقفت صغيرها على قدميه قائلة بمرح " قم يا عفريت .. أهكذا تقع مثل(الجردل) ؟!". هدَأ الرجل و المرأة من فزع سلمى المبالغ فيه، وانتظرا الصغير حتى سكن . هنا ارتفعت نبضات قلوبهم للذروة. من خلف أحد البابين في المطلين على القبو كانت أنّةٌ تجاهد لتتسلل من خلف الباب الخشبي.
قالت المرأة بذهول " ما هذا الصوت يا عم محمد ؟"
أجابها بتوتر شديد :" لا أعرف يا ابنتي!"
رغم رعبها قامت سلمى تطرق الباب الغامض وتلصق أذنها بالباب. الأنة تجاهد لتعلو أكثر. أنة امرأة في الغالب. قالت سلمى " ما العمل ؟ " قال العجوز بحزم " اتصلي بالبوليس وانا سأتصل بابني ليأتي فوراً."
كادت سلمى تشتعل من لهفتها .. تطرق الباب وتنادي، وتحاول فتحه بقلة حيلة حتى وصلت سيارة شرطة النجدة. تعاون شرطيان وفتحا الباب الموصد . تراجع الجميع وقد هبت رائحة كمشرحة سيئة التهوية. وهناك كان أبشع مشهد من الممكن أن يراه إنسان.
امرأة عجوز مشلولة ترتدي جلباباً كان وردياً تركت هناك في فراش اتسخ بفضلاتها. فئران أكلت من أثاث الغرفة ما أكلت ، وقضمت من أصابعها وأذنها ما قضمت. قرح الفراش اخترقت عظامها ونحل جسدها حتى بدت كمومياء. المرأة تركت هناك لتموت فحدث لها ما هو أسوأ من الموت. امرأة تركها شخص تعرى من الرحمة. الغريب أنها كانت لا تزال على قيد الحياة ، تئن وتشكو إلى ربها!
--
جلست سلمى في غرفتها تضم صغيرها النائم لا تملك كبحاً لمدامعها التي انسدلت . دخل زوجها بتردد . تنهد ومد يده يربت على كتفها فانتفضت. هدَأها وقال " حقك عليّ يا سلمى .. لم يكن أحد ليصدق هذا" هزت رأسها بتفهم. مسحت دموعها تتمتم بحمد الله و قد ثبت للجميع براءتها من الجنون. قالت : " لازلت أنا لا أصدق ما حدث، ولا أفهمه أيضاً!"
قال : " لعلها رؤيا كالتي أخرجت يوسف الصديق من السجن"
أومأت موافقاً وتمتمت: " رؤيا في اليقظة! لعلها كذلك بالفعل!"
صمت قليلا وجلس أمامها ثم قال بصوت حزين: " لقد توفيت المرأة اليوم في المستشفى!" نظرت له بدهشة وسالت دمعتان أخريان على خديها. أخذ من حضنها الطفل الصغير ووضعه على الفراش برفق. غمغمت بصوت باك "ليتني تجرأت مبكراً قليلاً."
--
ودعت سلمى صغيرها عند باب الحضانة محاولة تجاهل قلبها الذي يتمزق من سماع بكائه خلفها. أوقفت سيارة أجرة واتجهت بها إلى المكتب الذي تعمل به كسكرتيرة . تنطلق بها السيارة والهواء يرتطم بوجهها يثير زوبعة من الذكريات. تتذكر المرأة ذات الجلباب الوردي خلف القضبان التي أشارت لها يوماً فحررت امرأتين في يوم واحد .. دعت لها بالرحمة وهي لا تعلم اسمها حتى اللحظة ، وربما لا أحد يعلم. تتمتم لنفسها بتأثر " و لكن الله يعلم!"
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 07, 2022 01:31 Tags: قصة-قصيرة
No comments have been added yet.