صالح عبدالرحمن الحصين's Blog

April 11, 2020

كلمة للشباب

الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك وخليلك سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه، اللهم اهدنا إلى الطيب من القول، واهدنا إلى صراط الحميد.





أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى` وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا` هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ` وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا﴾ [الكهف:13-16].





قصة عجيبة تحكي عن فتية، أناس في الغالب في مرحلتكم العمرية في مرحلة الشباب العمرية، وُجدوا لسوء حظهم في مجتمع غريب من ناحية سلوكه وتفكيره، ولكنه ليس غريبًا في الحياة، فنحن نجد أمثلة له في الحياة العامة في كل عصر.





هذا المجتمع اسفنجي التفكير، فهو لا يفكر لنفسه، وإنما يتلقى، فعمله سلبي من ناحية التفكير، ولهذا فهو لا يميز بين الحقيقة والخيال، بين الحق والخرافة، بين التصور الصحيح والتصور المنحرف.





هذا المجتمع مجتمع منغلق تحكمه غريزة القطيع، ولهذا فهو حتى لا يسمح بظهور الطاقات الطبيعية الموجودة والتي خلقها ربنا في الإنسان، فهذا المجتمع مثل ما ذكرت مجتمع متلقي وليس مجتمع فاعل، يسمع في هذا الصباح معلومة فيصدقها، ثم يسمع في المساء معلومة تناقضها فيصدق بها، وبالتالي فهو لا يميز، وهذه صورة عجيبة، ولكن عند التأمل تجد لها تطبيقات كثيرة في الحياة.





من شأن مثل هذا المجتمع أن يكون متعصبًا ومتشددًا لا يسمح بحرية التفكير وحرية التأمل، فهؤلاء الفئة الذين وُجدوا في هذا المجتمع وُجدوا فيه ولكن بحكم طبيعة البشر التي خلقها الله فيهم كان الأمر لديهم من الملَكات التي جعلها الله في الإنسان أن يستجيبوا لهذه الملَكات، ويستجيبوا لهذه الطاقات التي لديهم، فهم يتفكرون في سلوك هذا المجتمع وتفكيره فيُعجبون، يتأملون ربنا رب السماوات والأرض، فلم هؤلاء يعبدون بشر مثلهم، يعطونهم خالص الحب وخالص الخضوع وخالص القصد والتصديق والولاء؟!





قال تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف:14]. هؤلاء قومنا يعبدون غير الله، ما هي الحجة؟! ليس لهم حجة، ﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف:15]، فليس لديهم حجة ولا برهان؛ لأنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالسلوك الطبيعي وأن تحكمهم العقلانية، ويحكمهم التفكير المنطقي، وتحكمهم المحاكمة إلى مقتضيات العقل السليم.





حاول هؤلاء الشباب تغيير هذا الوضع، وحاولوا هداية هذا المجتمع بعد أن هُدوا هم أنفسهم لذلك، ولكن هذا المجتمع المنغلق الذي لا يسمح بالحوار ولا يسمح بالتفكير ولا يسمح بالتأمل لا يملكه بنفسه، ولا يسمح لغيره أن يملكه، فكان رد فعلهم رد سيء، فوضعوا هؤلاء الفتية بين خيارين: إما أن يرجموهم حتى الموت، أو يُكرهوهم على أن يعودوا ويُسكتوا داعي العقل ويكونوا مثلهم.





كان التهديد خطيرًا، فلم يملك هؤلاء الفتية إلا أن يفروا بأنفسهم إلى كهف، ولكنهم كانوا على درجة من الإيمان والأمل. في هذه اللحظات لم يفقدوا إيمانهم، ولم يفقدوا أملهم، ولم يفقدوا اعتقادهم بأن المستقبل سوف يتغير، وأنهم سوف يغيرونه.





جاءت الروايات دائمًا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا شبابًا، والحقيقة أنك لما تتبع سير الصحابة الأولين الذين اعتنقوا الإسلام في أول مرة تجدهم كلهم في مرحلة الشباب، لم يجاوزوها إلى مرحلة الكهولة، ربما كان أكبرهم أبو بكر رضي الله عنه ولكنه كان وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة كان عمره ثمانية وثلاثين، فالصحابة -رضي الله عنهم- الأولون الذين انتبهوا وعرفوا حقيقة ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم والتغيير الذي يريد أن يجري في المجتمع الصغير (مجتمع قريش)، ثم في المجتمع العالمي، فهموه بسرعة؛ لأنهم على عادة الشباب في حدة الذهن والقدرة على التفكير الشامل العميق الناقد النافذ.





وجاء في الأثر: كان عمر رضي الله عنه يستشير الشباب يريد حدة أذهانهم. وقد واجه الصحابة –رضي الله عنهم- في وقت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t تحديات التغيير من جهتين، فهم يريدون أن يغيروا العالم، وأيضاً الوضع العالمي كان بالنسبة لهم وضعاً متحدياً؛ لأن صلته بحياتهم في جزيرة العرب صلة بينها بون شاسع، فكان هناك تحديات التغيير السلبية والتي يريدون أن يواجهوها أو يقوموها، وهناك تحديات إيجابية وهي إرادة التغيير، فلهذا كان عمر رضي الله عنه يستشير الشباب.





والذي جرى في الواقع أن نتيجة إطلاق ملكات الشباب وطاقاتهم أن جرى أعظم تغيير ربما في الدنيا، فامتد سلطان الصحابة -رضي الله عنهم- في خلال ثلاثين عامًا، فكانوا يحاربون في جبهتين، وكانت هذه  الحرب ليست اختيارًا لهم، وإنما هي حرب أُجبروا عليها؛ لأنهم في حكمتهم وحنكتهم السياسية ما كان يمكن أن يشعلوا حرب في جبهتين لعدوَّين هما أكبر دولتين في العالم وكان بينهما العداء و الحرب الضروس، وكل الأسباب التي يذكرها المؤرخون سواء كان المؤرخون مسلمون أو المستشرقون أنهم يشتركون في أسباب ودوافع هذه الحرب، وكلها كانت تتحقق بأن يحاربوا في جبهة واحدة، فإذا انتهوا منها حاربوا في الجبهة الثانية، و سير الحروب عند تأمله بعمق نرى أنه يهدي إلى هذا. كانت بداية الحرب التهديد من الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، و كان التهديد في وقت النبي صبى الله عليه وسلم وغزوة تبوك وغزوة مؤتة، وكل هذه كانت استجابة لهذا التهديد، فأبو بكر رضي الله عنه لأجل الدفاع ضد هذا التهديد أرسل المثنى بن حارث في سرية وأرسل عكرمة بن أبي جهل في سرية، لكن كلا القائدين رأى أن قوة الجبهة المقابلة أكبر من القوة التي معه فاستنجد به، ولهذا فُرضت هذه الحرب على الصحابة، وكانت من تقدير الله وتدبيره، فكانت خيرًا للبشرية، لم تشهد البشرية مثلها من الخير والنعمة فيما يُعلم من التاريخ المكتوب. فأقول إنهم في خلال خمس وعشرين سنة امتد سلطانهم، وهزموا الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، وامتد سلطانهم من القوقاز من أرمينيا إلى أقصى المغرب وإلى حدود الصين.





حدث لا يزال يحير المؤرخين في سره، كيف حدث هذا؟! فهو شيء يشبه أن يكون مما وراء الطبيعة ومما فوق تفكير البشر، في هذه المدة القصيرة كيف يمكن أن يحدث هذا الإنجاز الهائل، لكن هناك إنجاز أعجب منه، وهو أن هذه الشعوب الممتدة على هذه الرقعة والمختلفة والأديان فسيفساء من الأديان وفسيفساء من المذاهب، كل هذه جاءت الإمبراطورية الهيلينية وبعدها الرومانية، ولم تستطع أن تغير أي شيء في هذا، أما في خلال هذه المدة القصيرة انطبعت هذه الشعوب كلها بطابع الثقافة الجديدة، واعتنقت الإسلام، وتغيرت وغيرت طريقة حياتها في الأكل والشرب واللباس وفي العادات واللغة.





هناك أشياء مذهلة نتأملها الآن كأنما هي ألغاز، ولولا أن التاريخ في هذا لا يمكن أن يكذبها؛ لأننا لو كذبناها ما استطعنا أن نأخذ أي تاريخ.





ومن هذه الصور الثلاث التي ذكرت نأخذ الخصائص الطبيعية للشباب:





الشباب حاد الذهن، تعود على التفكير النافذ الناقد، تعود على ألا تحكمه تصورات مسبقة بحيث توجه تفكيره، وتجعله جامد في قالب لا يتغير، عنده قدرة على التفكير المرن.الاستعداد لمواجهة تحديات التغيير، فهناك تحديات إيجابية تقتضي من الإنسان أن يدعم ويؤيد التغييرات الصالحة، وهناك تحديات سلبية تقتضي من الإنسان أن يواجهها وأن يقاومها، ولا يسمح بوجودها، فإذا وجدت يحاول رفعها.العزم والإرادة للتغيير، هذا العزم يتجلى في البذل التطوعي الذي لا عائد مادي أو معيشي له، وإنما يتعلق بالمثل، ويكون لديهم استعدادًا للبذل لها من الوقت والجهد وكذلك بذل النفس عند الحاجة.



فهذه هي خصائص الشباب الطبيعية التي إذا وُجدت وهيأ لها المجتمع البيئة الصالحة تعمل عملها الصحيح.





ويهمني منها الآن مسألة الاستعداد للبذل، والاستعداد للتطوع، نجد دائمًا في الحياة أمثلة عجيبة لهذا الاستعداد، استعداد الإنسان للبذل التطوعي الذي هو بذل بدون انتظار جزاء وبدون انتظار عائد، وإنما تحقيق معنى الحياة.





في عام 1936- 1937م كان الشباب في أوروبا يتركون وظائفهم وعوائلهم من كل مدينة ومن كل قرية، ويذهبون للالتحاق بالانترناشيونال بريقيد، وهي تسمية لهذه البيئة التي وُجد فيها هؤلاء المتطوعون الذين بذلوا أنفسهم، وجاءوا مستعدين للموت في سبيل إيمانهم بمبدأ مقاومة الفاشية، فهم جاءوا للحرب مع الجمهوريين ضد الفاشية والدكتاتورية، والشيء الطبيعي أن تكون هذه الصورة العظيمة من البذل والتطوع موضع فخر لأوروبا ونقط مضيئة في تاريخها.





ظهرت أيضًا في الآداب العالمية، حيث أن الكاتب المشهور (جورج أورويل) صاحب الكتاب المشهور، وهناك جيل قبلكم أكثرهم قرأ هذه الرواية العالمية، وترجمت في وقتها إلى عدة لغات كانت ضد الشيوعية في ذروة طغيانها وقوتها، وظهر في العربية بعنوان (مزرعة الحيوانات)، وكان جورج أورويل من هؤلاء الشباب في ذلك الوقت الذين ذهبوا إلى الالتحاق إلى (الانترناشيونال بريقيد)، وكان نتيجة هذا أن ألف روايته العالمية الجميلة Homage to Catalonia.





تكرر هذا في عقد الثمانينات من القرن المنصرم الميلادي، لكن في صورة أخرى، فكان الروس دخلوا بدبابتهم إلى كابول في أول يوم من عام 1979م تحت شعار نشر الديموقراطية الاجتماعية، وتحرير المرأة، ومقاومة التخلف والرجعية، تمامًا مثل ما حصل بعد عشرين سنة عندما غزت أمريكا أفغانستان وكانت تقود تحالف من أربعين دولة، تحت شعار نشر الديموقراطية السياسية، وتحرير المرأة، ومقاومة التخلف والقضاء عليه.





إن من أهم خصائص الشباب في هذا العصر القدرة الذهنية، والفكر الناقد النافذ، والاستعداد للتغيير والقدرة عليه، والعزم، وبذل الجهد، والبذل التطوعي الذي لا يرجى منه الجزاء الدنيوي، أي التعلق بالقيم وبالمثل.





أبرز صفة في هذا العصر هي التغير المتسارع، فأنا من جيل أدركت الإيقاع الزمني البطيء، فكانت الحياة تمضي مائة سنة، مائتين سنة، ألف سنة، بل قرون، ولا تغيير، فالعصر الذي عشت فيه كان تمامًا مثل العصر الذي فيه الإنسان قبل ألفين سنة، كان الناس يزرعون مثل ما يزرعون، ويتنقلون مثل ما يتنقلون ، فهم يتشابهون أيضًا في طريقة التصنيع، ويتشابهون في أسفارهم ورحلاتهم ووسائلهم وطريقة حياتهم، ثم جاء هذا التغيير الذي لا يكاد الإنسان يلاحقه. وبالنسبة لمثلي أنا أعتبرها ميزة؛ فنحن الآن نتصور التاريخ على حقيقته لأننا عشناه، أنتم شباب تتصورونه شيئًا مقروءًا أو مكتوبًا أو مسموعًا، وصحيح هذه الألفاظ تؤدي معنى، لكن لا توصل إليكم الإحساس ولا تستطيعون تصور الزمن كمن عاشه، وقد تابعت التغير وانتبهت له لأنني أعيشه وأشاهده، والآن لو فكرت في بيتك، في غرفة من غرف بيتك وقمت بحصر الأشياء التي فيها، فلن تجد شيئًا كان موجودًا من ستين سنة، فكلها أشياء جديدة استوردناها من مصادر أخرى، فهي ليست لنا وإنما هي أشياء جديدة. فهذا هو التغيير المادي، ويسهل علينا إدراكه، أما الذي قد يصعب علينا إدراكه هو اللغة، فاللغة تغيرت، وقد كتب أحد الإخوة عن اللهجة العامية في الوشم، فأخذت هذا الكتاب وقرأت منه صفحتين على ابن أخي الذي يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، فلم يفهم منه كلمة واحدة، وهذا يدل على أن اللغة قد اختلفت كثيرًا، فلو أن أحدهم خرج من قبره وجاء إلينا فلن يستطيع فهمنا؛ لأن قطعاً نصف المفردات والألفاظ والتعبيرات التي يستعملها لا تستعمل الآن، وكذلك قد فاته التعبيرات والألفاظ التي نستعملها نحن ليس بهل معنى عنده، فقد تغيرت اللغة ربما أكثر من التغير المادي.





اللغة تفكير ناطق، والتفكير لغة صامتة، والإنسان لا يفكر إلا باللغة، وبتغير اللغة تغيرت التصورات لدينا كثيرًا، وهذا أخطر شيئ. ومن في سني يلاحظ هذا التغيير كما يلاحظ تغير اللغة والتغير المادي، ومع الأسف فإن هذه التصورات قد تكون صحيحة أو لغير صحيحة، وقد تكون صالحة أو غير صالحة.





الحضارة الغربية وما نسميه الآن الثقافة أو الحضارة العالمية المعاصرة من العدل أن نسميها الحضارة الغربية، ولأن الحضارة الغربية الحقيقة لما طلعت شمسها على الكرة الأرضية امتدت عليها جميعًا، لكنها كانت مثل عصا موسى، تلقف الثقافات الأخرى وتبتلعها أحياناً، فتموت في جسمها بدون أن تستفيد منها، أو أحيانًا تلفظها بإفرازاتها وتغيير وضعها.





الحضارة الغربية بإشعاعها وبكل أطياف هذا الإشعاع أثرت على الحياة البشرية، والاستجابة من الثقافات الأخرى كانت مختلفة، منها ثقافات أشخاصها أو الحاملين لها كانوا أقوياء، وكان لديهم اعتزاز بألوان من ثقافاتهم، فكانوا يرونها نافعة، وهي في الحقيقة ثبت أنها نافعة، وكان عندهم الشجاعة والجرأة والقدرة على مقاومة التغيير فحافظوا عليها. يمكن نذكر مثالا اليابان، هناك شعوبًا أصل الأفكار وهذه الثقافات ليست قوية ولا موضع لها في هذا العصر، وأهلها أيضاً لم يكن عندهم الجرأة، فماتت وكان من السهل أن تموت.





بالنسبة للعالم الإسلامي فقد حدث أمر غريب، فلديه الأفكار القوية، لكنه ضعيف وانهزامي، فلم يميز، ففي كثير من مجتمعاته مع الأسف الشديد انطبقت عليه صفة مجتمع وفتنة أهل الكهف، فصارت هذه المجتمعات مجتمعات إسفنجية، تتشبع وتتشرب ولا تعطي، ولا تفرق في التصورات بين ما هو صالح وما هو غير ذلك، وهذا هو سر مشاكلنا، وهذا ما يحتاجه وما يتطلبه العالم الإسلامي من الشباب بقدرتهم وقدرتهم على التغيير، وأن يحاولوا تغيير هذا الوضع، وهو وضع غريب، والإمكانيات الهائلة في ثقافتنا الحقيقية، فالفرق بين ثقافتنا التقليدية السائدة الآن وثقافتنا الحقيقية التي كان يجب أن تكون هي ثقافتنا وهي الإسلام، والإسلام لديه من الإمكانيات ما يمكن أن يغير حياتنا ويصنع لنا التقدم، والمشكلة أننا غير واعين بهذه الإمكانيات، فهذه الإمكانيات ليست فقط لصنع ووجود تقدمنا، بل هو تقدم البشرية.





الحضارة المعاصرة مع الأسف الشديد بهذه الخيرات والنعم والمنجزات التي أعطتها للإنسان في هذا العصر، سواء الثروة المعرفية أو التكنولوجيا في التنظيم و تكنولوجيا إنتاج النضج الفكري، بل أيضًا حتى في المجال الخلقي، مثل ما نسمع الآن عن حقوق الإنسان وعن القيم الكونية من العدل والحرية والمساواة أمام القانون، فكل هذه أشياء أهدتها الحضارة الغربية للعالم المعاصر، وهي لا شك أنها هدايا قيمة، والمفروض أن نحاول أن نستفيد منها إلى أقصى حد ممكن، لكنها مع الأسف من جانب آخر أوجدت لدى العالم ثلاث أزمات لا تزال تتعقد ولا تُحل، فطوال هذه القرون صارت هذه الأزمات تتراكم، ثلاث أزمات هي سر شقاء الإنسان الآن، وسر العَنَت الذي يعانيه، وسر الحياة الضنك التي يعانيها بالرغم من كل وسائل السعادة.





الأزمة الروحية



أول هذه الأزمات، الأزمة الروحية: وهي فقد الإيمان المؤسس على السببية العقلية، إما أن يكون إيمانًا مبنيًا على خرافة، والمفروض أن هذا العصر ضد الخرافة، أو لا إيمان، ينتج عن الإيمان المبني على غير السببية العقلية أنه عرضة لأن يتزلزل وأن يزول، أما عدم الإيمان، فالحقيقة أنه يفقد الحياة، فيفقد الإنسان معنى الحياة، وأهم شيء أنه يفقد الأساس الأخلاقي كما نشاهد، فنحن نسمع عن الأخلاق، لكنها في الحقيقة مجرد كلمة تُردد ويعجب الناس بها، لكنها من ناحية التطبيق فهي في أزمة.





الأزمة السياسية



الأزمة الأخرى، وهي الأزمة السياسية، والعلاقات بين الدول تبنى على المصلحة الذاتية والمصلحة القومية وعلى القوة.





أي قاطع طريق، هل له مبدأ غير هذا؟





أي عصابة إجرام، هل لها مبدأ غير هذا؟





أي حيوانات في الصحراء أو في الغابة لها مبدأ غير هذا؟





هذا هو سر هذه الحروب والمظالم، وامتهان كرامة الإنسان وامتهان حريته، وسر هذه الحروب المجنونة الحمقى، وأسوأ ما فيها أيضًا أن حتى كلمة (المصلحة الذاتية) كثيرًا ما تكون عكس ذلك، فليست مصلحة ذاتية، ولا مصلحة وطنية، ولا مصلحة قومية، وإنما هي مصلحة طائفة معينة.





ولنضرب مثالًا: حرب العراق، هذه الدولة التي تعتبر رمزًا للحياة الثقافية المعاصرة وهي أمريكا، خسرت نفوساً حوالي أربعة آلاف من زهرة أبنائها حسب الإحصاءات الرسمية، وخسرت المليارات، وخسرت سمعتها ولطختها، وانتهكت ما تسميه قيمها الأمريكية أو الكونية، والذي استفاد هنا هو دولة واحدة صغيرة، واستفادت مائة بالمائة ولم تخسر حتى واحد بالمائة.





فأين العقل؟ !





فبناء العلاقات الدولية على المصلحة القومية أو المصلحة الوطنية والقوة، و التي نرددها نحن الآن كترديد الببغاء، هذه هي التي خلقت الأزمة السياسية التي أوجبت هذه المعاناة للبشر.





الأزمة الاقتصادية



قد تكون هذه الأزمة أساس لهذه الأزمات، والحقيقة أننا لا ندري أين السبب وأين النتيجة، فكل أزمة منها سبب لآخر ونتيجة له في نفس الوقت.





من عهد آدم سميث، وطوال مائتين سنة الماضية عجزت الحضارة الغربية، وبالتالي ما نسميه الآن بالحضارة أو الثقافة العالمية المعاصرة عن حل، والتوفيق بين الاتجاه الجماعي والاتجاه الفردي في الاقتصاد. جاءت الشيوعية فطبقت الاتجاه الفردي بكل قوة خلال مدة طويلة تقريبًا سبعين سنة، ثم فوجئ العالم بانهيارها، ولم يكن انهيارها بسبب التوازن في التسلح، أو أن القوة العسكرية اختل توازنها، بل لأنه انكشف أنه اتجاه هش لا يستقيم مع الحياة.





ونفس الشيء بالنسبة للاتجاه الرأسمالي؛ لأنه عبارة عن أزمة دولية، وأحيانًا تكون أزمة مثل أزمة عام 1929م التي أتت بالحرب العالمية الثانية، والآن انظروا إلى صور الأغنياء الكبار بها يصطفون في طوابير لأجل الحصول على خبز الصدقة.





فالأزمة الاقتصادية أزمة عالمية، والناس الآن في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الحالية، ولا أحد يعلم كيف تتطور الأمور؟





الإسلام أثبت التاريخ، وستثبت المحاكمة المنطقية كلما اقتربنا منه اقتربنا من حل لهذه الأزمات.





وقد حدث بالفعل أنه وُجد مبدأ للعلاقات الدولية طُبق من جانب واحد، وهو جانب المسلمين الأوائل، ومع أنه يُطبق من جانب واحد لكنه نجح. وآية نجاحه مثلما ذكرت في أول المقدمة، هذه الظاهرة التي يقف أمامها العالم حائراً ولا يستطيع تفسيرها.





الأزمة الاقتصادية مع الأسف تحتاج إلى ليس مجرد إشارات فقط وأنا لا أحبذ اختصار الحديث حول موضوع مهم في مجرد كلمات لأن ذلك لا يعطي نتيجة بل يشوه، لكنها فعلاً انتهت إلى التوفيق بين الاتجاه الفردي والاتجاه الجماعي بأخذ كل إيجابيات هذا، وتفادي سلبيات ذاك، أخذت الملكية الجماعية بدون أن تؤثر على حافز الربح، وأخذت بالاتجاه الحر من غير أن تؤثر على العدالة الاجتماعية، ولا تحتاج المسألة إلا إلى تفكير قليل واستعادة شريط التاريخ. أما بالنسبة لمسألة الأزمة الروحية فهذا أمر واضح، فهو أمر فوق الكلام.





من حسنات الثقافة العالمية المعاصرة والحضارة الغربية اهتمامها بالعامل الإنساني وبالتطوع، وفي آخر عام 1428 عقد مركز الرحمانية في الغاط ندوة، كان يشارك فيها وزير الشئون الاجتماعية في المملكة، ومندوب عن وزارة الداخلية، وشخص ثالث، فكان وزير الشئون الاجتماعية يقارن بين التطوع والمؤسسات الخيرية بين دول العالم، وقد ذكر الإجابة ووضح أن في أمريكا لكل 163 شخصًا لهم مؤسسة خيرية، وأما في فرنسا فلكل 106، وفي ألمانيا لكل 102، وفي مصر لكل 500 مواطن مؤسسة خيرية، وكما ذكر الوزير أن في المملكة هناك جمعية لكل 7,500 شخصًا، وأعتقد أن هذا لابد أن يكون خطأ، فأعتقد أن الصحيح أنها لكل 57,000 شخص، فمثل ما ذكرت في فترة سابقة أو في الخطاب أمام الملك عندما تعرضت لهذه المقارنة أنه لو كان لدينا جمعية لكل 1,000 شخص لكان يجب أن يكون عندنا 30,000 جمعية، ولكن الموجود عندنا 600، وهذا فارق هائل بيننا وبين العالم المتقدم. فترون هذا الفارق الهائل بيننا وبين العالم المتقدم. في أمريكا تجد من كل اثنين من السكان تجد شخصًا يتطوع بخمس ساعات عمل أسبوعياً، أي أن 750 مليون ساعة يبذلها المواطنون في العمل تطوعاً بخلاف البذل بالمال، فهم يبذلون بذلك 150 مليون ساعة في اليوم، فهو عمل أكثر من كل موظفي الحكومة الأمريكية.





مصيبتنا أننا لا نؤمن بالعمل التطوعي، فهل نحن أقل إحساس إنساني من الشعوب الأخرى والبلدان الأخرى؟





هل ماضينا يثبت بالفعل أن هذه خصيصة لنا؟





خصائص الحضارة الإسلامية:





أولًا: أنها حضارة أوقاف أو حضارة شعبية:





لا يوجد ثقافة أو حضارة في العالم بنيت على البذل التطوعي مثل ما بُنيت الحضارة الإسلامية، فهي بنيت على الأوقاف، فكانت الحكومات قبل الدول الحديثة تهتم بالأمن الخارجي والداخلي والقضاء، أما ما يحتاجه المجتمع لا تهتم به الحكومات. في الحضارة الإسلامية كل الخدمات التي يحتاجها المجتمع كانت مؤسسة ومبنية على الأوقاف من الطرق والكباري وكري الأنهار والمستشفيات والمكتبات والمدارس والمعابد يعني كل ما يتصوره الانسان يعني أشياء عجيبة، وليت هناك وقت لكنت ذكرت لكم من طرائفه. فالحضارة الإسلامية بُنيت على الأوقاف والبذل التطوعي، وحيث هذا هو شأننا، فليست خصيصة لنا، وليست طبيعة لنا، ولا ننفرد عن الشعوب بعدم الإحساس الإنساني واستجابة الإنسان لفطرته الطبيعية واستجابة الشباب لما أعطاه الله من هذه الملكات، ومنها الاستعداد للبذل.





كون الحضارة الإسلامية بُنيت عن الأوقاف، فهذا ميزها عن كل الحضارات الأخرى، فالحضارات الأخرى أنشأها الفراعنة أو الأباطرة أو القوى السياسية والعسكرية، أما الحضارة الإسلامية فما دام أنها بُنيت على الأوقاف، وهذه الأوقاف من أفراد الشعب، فبالتالي هي حضارة شعبية، وليست حضارة قوى مادية أو عسكرية أو أباطرة أو طغاة.





ثانيًا أنها حضارة إنسانية:





فالحضارات الأخرى فيها الجانب الإنساني قليل، ففيها الجانب الذي يمتهن الإنسان ويمتهن كرامته ويذيبه، أما كون الحضارة تُبنى على الأوقاف فالأوقاف شرطها الأول أن يكون القصد فيها إنساني خيري وقصد بر.





ثالثًا: الحضارة الإسلامية متجددة باقية:





نرى الحضارات الأخرى تبيد بأسباب الفناء، وأهمها: الحروب والتقلبات السياسية والأوبئة، أما الحضارة الإسلامية فكانت ممتدة، فتغلبت على الحروب والصليبيين والتتار، وتغلبت على التقلبات السياسية والأوبئة والكوارث، وما زالت الحضارة متجددة باقية.





فهذه الخصائص الثلاث من حق الشباب أن ينتبه إليها، وأن يعرف قيمته وقيمة حضارته وقيمة الإمكانيات التي تختزنها هذه الحضارة والتي يختزنها الإسلام.





الإشكال أن بانبهارنا بالحضارة العالمية وبأخذ تصورات غريبة منها، وهي تصورات أدنى من تصورات المُصدِّر نتيجتها ضعف ثقتنا بالإسلام، وهذا الضعف جعلنا لا نعي بالإمكانيات الكامنة في الإسلام، وعدم وعينا بتلك الإمكانيات جعلنا من المستحيل أن نستفيد منها.





أعلم أني أطلت عليكم، لكن هذه القضية من أكبر القضايا، فالعالم الإسلامي بخاصة مثل ما كان يُحكى عن بعض الشعوب الإفريقية التي كانت تشتري من المستعمر الخرز بالذهب، فهم لديهم الثروة لكنهم لا يقدرونها، ولا يعرفون قيمتها، ويُبهرون بتصورات.  ليت في الوقت متسع لأورد أمثلة أخرى.





وأكثر ما يؤرقني هو عدم الانتباه لوسيلة التقدم الحقيقي، نحن نتحدث عن التقدم في الحياة، لكننا لا نتحدث عن الحياة التي يسميها القرآن بالحياة الطيبة ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:97]. وهذه الحياة الطيبة ضد الحياة الضنك لمن أعرض عن ذكر الله فسوف يكون في معيشة ضنكًا.





وأختم بحمد الله، والصلاة على نبي الله عليه الصلاة والسلام ، والدعاء بأن نعي وأن نعمل.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 11, 2020 07:10

April 6, 2019

تفسير صورة العصر





المقدم:





ضيفنا اليوم عين مستشارًا بوزارة المالية والاقتصاد الوطني، ثم عين وزيرًا للدولة وعضو مجلس الوزراء من عام 91 إلى عام 94، ثم أحيل إلى التقاعد إلى أن عين رئيسًا عامًا لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي في ذي الحجة من عام 1422 للهجرة، ثم اختير ليكون رئيسًا لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني. ضيفنا أيها الإخوة هو صاحب الفضيلة معالي الشيخ/ صالح الحصيّن، يتحدث عن تفسير سورة العصر، وهي جزء من هذه النجاة التي نتحدث عنها، أترك المجال لصاحب الفضيلة لنستمتع جميعا بالحديث و سماع ما يتفضل به..





الشيخ صالح الحصين:





الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وخليلك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه





أبدأ بتقديم جزيل الشكر لصاحب السمو الملكي الأمير/ عبد الرحمن -حفظه الله- وأدعو الله أن يكشف ضره، وينشر عليه الصحة، ويجمع له بين الأجر والعافية، وأدعو أن يكون ما أصابه طهوراً له، وأن يسبغ عليه العافية وثوب الصحة.





بعد ذلك، أشكر الإخوة الذين أتاحوا هذه الفرصة للّقاء بهذه المجموعة الطيبة، وقد طلب مني الإخوة -جزاهم الله خيراً- أن ألقي كلمة في هذا الملتقى المبارك، وحددوا عنوانها بأن يكون تفسير سورة العصر، في الواقع تساءلت في البداية، ما هي العلاقة، وما هو الداعي لاختيار هذا الموضوع بالذات، حتى تأملت في السورة فوجدت أنها ترسم منهجاً للمجتمع الإسلامي بكافة، منهجًا شاملًا متكاملًا، وترسم منهجاً شاملاً متكاملاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو أساس هذا الملتقى.





هذه السورة العظيمة، هي من قصار السور، وورد في فضلها الأحاديث والآثار، ومنها ما رواه الطبراني عن أبي مدينة عبدالله بن حصن الدارمي رضي اله عنه (قيل: أن له الصحبة)، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر. وروي عن الإمام الشافعي عبارة ومعنى ورد بعبارتين، أحدهما ذكره الألوسي في تفسيره أنه لو لم يُنزل على الناس إلا هذه السورة لكفت الناس، وفي لفظ آخر: لو تفكر الناس في هذه السورة كلهم لكفتهم.
هذه السورة لا شك سورة عظيمة، وكما ذكرت فهي ترسم المنهج الكامل للمجتمع المسلم، وترسم المنهج الكامل للدعوة لثوابت هذا المنهج وخصائصه، والالتزام بتطبيقها.





ابتدأت السورة بالقَسَم في قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ [العصر:1]. وهذا قسم من الله يشبه أمثاله القسم بالفجر في قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ  وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر:1-2]. والقسم بالليل في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى  وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل1-2]. وكذلك القسم بالضحى في قوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى﴾ [الضحى:1]. فالله يقسم بما شاء من مخلوقاته، وإقسامه بهذه المخلوقات لصفات خاصة بها، ولعلاقتها بالموضوع المقسَم عليه، ودائماً عندما نقرأ كتب التفسير نجد للّفظ الواحد أو العبارة الواحدة أو الجملة الواحدة عبارات مختلفة، ويظن أن هذا الاختلاف هو اختلاف في تفسير أو في بيان مضمون هذه الألفاظ أو هذه العبارات، فمثلًا في لفظة (العصر) وردت أقوال عديدة عن السلف من الصحابة والتابعين، فقيل: إن المقصود بالعصر الدهر أو الزمن كله. وقيل: العشية (ما بين العصر إلى المغرب). وقيل: الليل والنهار أو الأبردان. وقيل: إنها زمن النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الإمام ابن جرير -رحمه الله- قال: كل هذه في الواقع لا خلاف بينها، فكلها داخلة في الدهر، وإنما تختلف فيها العبارة. وقد أوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا المعنى عندما ذكر اختلاف المفسرين في تفسير الألفاظ أو تفسير العبارات، فقال: إن هذا الاختلاف ليس في الحقيقة هو اختلاف، وإنما كلّ منهم يعبر عن جزء من المعنى أو عن نوع من المضامين للّفظ أو الجملة. وشبه هذا بالأعجمي عندما يسأل: ما معنى الخبز؟ فيُقدَّم له خبزة، فيقال: هذا. فهو لن يفهم أن القصد بكلمة خبز هو هذه الخبزة بعينها أو هذه الخبزة بشكلها، وإنما يفهم أن هذا نوع منه، وهذا هو الواقع بالنسبة لاختلاف المفسرين –رحمهم الله- الذي يظهر كأنه اختلاف منهم في تفسير المضمون، وفي الحقيقة هو اختلاف في التعبير، وكلّ منهم يعبر عن جزء من المعنى.





قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر:2]:
وبالمثل اختلف بعضهم في تفسير لفظة (الإنسان)، فمنهم من فسره على أنه أبو لهب أو أبو جهل أو مجموعة أسماء من كفار قريش، أو أنه كفار قريش أو أنه الإنسان الكافر بوجه عام.
الواقع أن هذه الاختلافات مثلما ذُكر ليست اختلافات في الحقيقة، وإنما هي بيان لما يدخل في مضمون هذه العبارة، فالواقع الأصح أن نقول: أن المقصود بالإنسان جنس الإنسان، ولهذا جاء الاستثناء منه، أي كل الناس في خسارة.
كذلك يختلفون في تفسير لفظة (خسر)، لكن الواقع أن مدار الاختلاف على أمرين إما أنه ورد في صفات التنكيل قُصد به التفظيع، أي: في خسارة عظيمة أو أن المقصود منه أنه في نوع من أنواع الخسارة أن كل الناس، يكونون على درجات من الخسارة إلا المستثنين منه.





قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:3]:
﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾: المقصود به كما جاء في أقوال المفسرين أنه الإيمان بكتاب الله أو إنه التوحيد، ولكن المقصود في الغالب أنه المعنى الشامل، وهو الإيمان بكل ما ورد به الوحي (الكتاب والسنة) الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر و الملائكة والقدر خيره وشره، وكل ما ورد في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة عن الله أو عن اليوم الآخر أو عن أمور الغيب، فكلها داخلة في هذا.





وبالمثل ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، فهي تشمل كل عمل أمر الله به أو توقي كل أمر نهى الله عنه.
قوله: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، والواضح مثل ما ذكرنا أنهم يختلفون في التعبير، وهنا يختلفون في التعبير عن الحق، وما هو المقصود بالحق، وهل هو القرآن، أو هو الإسلام، أو هو أركان الإسلام؟ والواقع أنها تشمل كل هذا الأمر، فكل ما تضمنه الوحي فهو حق، فهو الأمر الثابت الذي يقابل الباطل، فهؤلاء الذين وُصفوا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق، أن من وظائفهم التواصي بالحق أي هداية الناس إلى الحق، وتعليمهم الحق وتذكيرهم به إذا غفلوا أو إذا نسوا.





ووردت (تواصي) بصيغة التفاعل ليدل على أن هذا الأمر مشترك ….

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 06, 2019 21:00

April 7, 2018

أزمة الحضارة المعاصرة


الحضارة المعاصرة مع الأسف الشديد بهذه الخيرات والنعم والمنجزات التي أعطتها للإنسان في هذا العصر، سواء الثروة المعرفية أو التكنولوجيا في التنظيم و تكنولوجيا إنتاج النضج الفكري، بل أيضًا حتى في المجال الخلقي، مثل ما نسمع الآن عن حقوق الإنسان وعن القيم الكونية من العدل والحرية والمساواة أمام القانون، فكل هذه أشياء أهدتها الحضارة الغربية للعالم المعاصر، وهي لا شك أنها هدايا قيمة، والمفروض أن نحاول أن نستفيد منها إلى أقصى حد ممكن، لكنها مع الأسف من جانب آخر أوجدت لدى العالم ثلاث أزمات لا تزال تتعقد ولا تُحل، فطوال هذه القرون صارت هذه الأزمات تتراكم، ثلاث أزمات هي سر شقاء الإنسان الآن، وسر العَنَت الذي يعانيه، وسر الحياة الضنك التي يعانيها بالرغم من كل وسائل السعادة.





1- الأزمة الروحية





أول هذه الأزمات، الأزمة الروحية: وهي فقد الإيمان المؤسس على السببية العقلية، إما أن يكون إيمانًا مبنيًا على خرافة، والمفروض أن هذا العصر ضد الخرافة، أو لا إيمان، ينتج عن الإيمان المبني على غير السببية العقلية أنه عرضة لأن يتزلزل وأن يزول، أما عدم الإيمان، فالحقيقة أنه يفقد الحياة، فيفقد الإنسان معنى الحياة، وأهم شيء أنه يفقد الأساس الأخلاقي كما نشاهد، فنحن نسمع عن الأخلاق، لكنها في الحقيقة مجرد كلمة تُردد ويعجب الناس بها، لكنها من ناحية التطبيق فهي في أزمة.





2- الأزمة السياسية





الأزمة الأخرى، وهي الأزمة السياسية، والعلاقات بين الدول تبنى على المصلحة الذاتية والمصلحة القومية وعلى القوة.





أي قاطع طريق، هل له مبدأ غير هذا؟
أي عصابة إجرام، هل لها مبدأ غير هذا؟
أي حيوانات في الصحراء أو في الغابة لها مبدأ غير هذا؟





هذا هو سر هذه الحروب والمظالم، وامتهان كرامة الإنسان وامتهان حريته، وسر هذه الحروب المجنونة الحمقى، وأسوأ ما فيها أيضًا أن حتى كلمة (المصلحة الذاتية) كثيرًا ما تكون عكس ذلك، فليست مصلحة ذاتية، ولا مصلحة وطنية، ولا مصلحة قومية، وإنما هي مصلحة طائفة معينة.





ولنضرب مثالًا: حرب العراق، هذه الدولة التي تعتبر رمزًا للحياة الثقافية المعاصرة وهي أمريكا، خسرت نفوساً حوالي أربعة آلاف من زهرة أبنائها حسب الإحصاءات الرسمية، وخسرت المليارات، وخسرت سمعتها ولطختها، وانتهكت ما تسميه قيمها الأمريكية أو الكونية، والذي استفاد هنا هو دولة واحدة صغيرة، واستفادت مائة بالمائة ولم تخسر حتى واحد بالمائة.





فأين العقل؟!
فبناء العلاقات الدولية على المصلحة القومية أو المصلحة الوطنية والقوة، و التي نرددها نحن الآن كترديد الببغاء، هذه هي التي خلقت الأزمة السياسية التي أوجبت هذه المعاناة للبشر.





3- الأزمة الاقتصادية





قد تكون هذه الأزمة أساس لهذه الأزمات، والحقيقة أننا لا ندري أين السبب وأين النتيجة، فكل أزمة منها سبب لآخر ونتيجة له في نفس الوقت.





من عهد آدم سميث، وطوال مائتين سنة الماضية عجزت الحضارة الغربية، وبالتالي ما نسميه الآن بالحضارة أو الثقافة العالمية المعاصرة عن حل، والتوفيق بين الاتجاه الجماعي والاتجاه الفردي في الاقتصاد. جاءت الشيوعية فطبقت الاتجاه الفردي بكل قوة خلال مدة طويلة تقريبًا سبعين سنة، ثم فوجئ العالم بانهيارها، ولم يكن انهيارها بسبب التوازن في التسلح، أو أن القوة العسكرية اختل توازنها، بل لأنه انكشف أنه اتجاه هش لا يستقيم مع الحياة.





ونفس الشيء بالنسبة للاتجاه الرأسمالي؛ لأنه عبارة عن أزمة دولية، وأحيانًا تكون أزمة مثل أزمة عام 1929م التي أتت بالحرب العالمية الثانية، والآن انظروا إلى صور الأغنياء الكبار بها يصطفون في طوابير لأجل الحصول على خبز الصدقة.





فالأزمة الاقتصادية أزمة عالمية، والناس الآن في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الحالية، ولا أحد يعلم كيف تتطور الأمور؟





الإسلام أثبت التاريخ، وستثبت المحاكمة المنطقية كلما اقتربنا منه اقتربنا من حل لهذه الأزمات.





وقد حدث بالفعل أنه وُجد مبدأ للعلاقات الدولية طُبق من جانب واحد، وهو جانب المسلمين الأوائل، ومع أنه يُطبق من جانب واحد لكنه نجح. وآية نجاحه مثلما ذكرت في أول المقدمة، هذه الظاهرة التي يقف أمامها العالم حائراً ولا يستطيع تفسيرها.





الأزمة الاقتصادية مع الأسف تحتاج إلى ليس مجرد إشارات فقط وأنا لا أحبذ اختصار الحديث حول موضوع مهم في مجرد كلمات لأن ذلك لا يعطي نتيجة بل يشوه، لكنها فعلاً انتهت إلى التوفيق بين الاتجاه الفردي والاتجاه الجماعي بأخذ كل إيجابيات هذا، وتفادي سلبيات ذاك، أخذت الملكية الجماعية بدون أن تؤثر على حافز الربح، وأخذت بالاتجاه الحر من غير أن تؤثر على العدالة الاجتماعية، ولا تحتاج المسألة إلا إلى تفكير قليل منا و استعادة شريط التاريخ.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 07, 2018 20:49

May 18, 2013

كلمة عن الأستاذ الدكتور عبدالرزاق السنهوري (رحمه الله)

 
‏20‏ محرم 1434

في الخمسينات الميلادية كان الأستاذ الدكتور عبدالرزاق السنهوري رئيسا لقسم القانون وأستاذاً لمادة الفقه المقارن في معهد الجامعة العربية في القاهرة.


وكان أن انتخب سبعة أو ثمانية طلاب يجتمعون في ما يسميه “غرفة البحث” في المعهد، في يوم محدد من الإسبوع، وكان يشغله بالحوار والمناقشة الحرة بينه وبين الطلاب في مادة الفقه المقارن (الفقه الغربي بالفقه الإسلامي).


وكان من البداية ينبه إلى أن المقصود بـ “الفقه الإسلامي” ليس “الوحي” لأنه أسمى من أن يقارن بأي نظام في الدنيا، وإنما المقصود بالفقه الإسلامي تفكير الفقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم.


وكان، رحمه الله، يرى أن القوانين في البلاد العربية يجب أن تتوحّد وتكون مبنية على الفقه الإسلامي.


كان يفرّق بين المذاهب، بين المذاهب التي تعتبر الإرادة الظاهرة: الشافعي والحنفي، والتي تعتبر الإرادة الباطنة: المالكي والحنبلي.


وفي الجملة كان يرى أن الفقه الإسلامي يتفوق على الفقه الغربي ليس فقط في سبقه التاريخي لاكتشاف النظريات الفقهية بل في جوهره، والذي يرى أن الفقه الإسلامي لا يزال سابقا فيه للفقه الغربي.


على سبيل المثال: فإن نظرية “انتقاص العقد” ونظرية “تحول العقد” التي وُجِدت أول ما وُجِدت لدى الفقه الجرماني في القرن السابق وُجِدت في الفقه الإسلامي قبل ذلك بأكثر من ألف عام.


لقد كتبت هذه الكلمات وفاء بحق رجل قَدِم على ما قدّم، ندعو الله له بالرحمة التي وسعت كل شيء.


وبالله التوفيق.


صالح بن عبدالرحمن الحصين

 


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 18, 2013 14:14

May 4, 2013

إنا لله وإنا اليه راجعون

 


‏إنا لله وإنا إليه راجعون، انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ صالح الحصيّن. اللهم اغفر له وارحمه واجعل ما أصابه تكفيراً ورفعة.


رحم الله الشيخ العلامة #صالح_الحصين فقد كان أمة وحده في علمه وتواضعه وحبه الخير عاش مع الناس ومات بين همومهم رحمك الله يا سيدي رحمة الأبرار


يصلى على الشيخ #صالح_الحصين غدا العصر في جامع الراجحي ويوارى الثرى في مقبرة النسيم اللهم اجعلها اول منازله من الجنة 


العزاء في الشيخ #صالح_الحصين سيكون في منزل اخيه المهندس عبدالله الحصين وزير المياه والكهرباء – الدائري الشمالي مخرج ٥ خلف ساكو

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 04, 2013 22:38

April 6, 2013

عبرة لأولي الأبصار

في آخر عام ١٩٧٩ غزت روسيا أفغانستان، وكان سندها من القانون الدولي أنها قامت بذلك برغبة من الحكومة القائمة واستجابةً لطلبها، وكان شعارها أنها قامت بذلك لنشر الديموقراطية الاجتماعية، وتحرير المرأة، والقضاء على التخلف.


وفي آخر عام ٢٠٠١ غزا اتحاد دولي من أربعين دولة بقيادة الولايات المتحدة، ولم يكن لها سند من القانون الدولي، وكان شعارها أنها قامت بذلك لنشر الديموقراطية السياسية، وتحرير المرأة، والقضاء على التخلف.


في كلا الحالين كان رد الفعل على الغزو “مقاومة شعبية”، قُدّر لها أن تصمد عشر سنوات، الفرق بين الحالتين:


أن المقاومة الشعبية الأفغانية في الحالة الأولى استندت إلى دعم هائل مادي بالمال من قبل المسلمين، وبالأشخاص من قبل الشباب الذين أقبلوا، لمشاركة إخوانهم المقاومين الأفغان، من كل بلد فيه مسلمون برغبة صادقة في الاستشهاد مدفوعين بنصوص الوحي من القرآن والسنة مثل قوله تعالى “إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” وقوله سبحانه: “وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ *”


وكان دعم الغرب الرأسمالي للمقاومة ضد الشيوعية هو عدم تعويق دعم المسلمين للمقاومة بالأموال والأنفس، وتحمّل على مضض سماع تسمية “المجاهدين”.


أما في الحالة الثانية فقد حُرِمت المقاومة من كل سند يعود إلى (حبل من الناس) بل حُرِمت من مشاركتها بالعاطفة الإنسانية وذلك بالشفقة على الضعيف في مواجهة القوي، وهو أمر لا تجري به العادة سواء كان الضعيف محبوباً أو مكروهاً، مرضياً عن سلوكه أو غير مرضي، ومع ذلك صمدت هذه المقاومة الصمود الذي يجب أن يعد انتصارا.


في ضوء هذه المقارنة، هل تفكر القارئ لمعرفة السر في هذه القوة الباهرة التي تشبه خارق العادة؟.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 06, 2013 11:52

March 7, 2013

رأي في: طبيعة الديمقراطية والاختلاف الثقافي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(رأي مطروح من الكاتب لأهل العلم الشرعي طلبا لرأيهم، وسيتم بإذن الله نشر الرأي الناقد، وليس المؤيد، وذلك بإستثناء:
·       الرأي الذي سبق نشره في موقع أخر
·    أو الرأي الذي لم يلتزم صاحبه بالشروط التي تضمنها المقال المنشور في هذا الموقع بعنوان: “المنهج الشرعي للحكم “ http://rowaq.org/?p=276  
·       أو الرأي الذي أبدى صاحبه رغبته في عدم نشره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 


1.   بناء الديمقراطية:

في الغرب، لا يتصور أن توجد ديموقراطية بدون أحزاب، فالديمقراطية مبنية على: التعددية (التفرّق)، والتغالب، والولاء للحزب.


ولو وجدت ديموقراطية في بلد مثل المملكة العربية السعودية لوجب أن تبنى: على الاتحاد (عدم التفرق)، وعلى التعاون، وعلى الولاء للأمة.


ونصوص الوحي في عدم التفرق، وفي التعاون على البر والتقوى، والنصيحة لعامة المسلمين مستفيضة ومعروفة.


وطبيعي أنه في كل الأحوال فالأنظمة والاجراءات محكومة في المملكة بتطبيق القرأن والسنة الصحيحة (إن الحكم إلا لله)


 


2.   آلية اختيار ممثلي الأمة:

آلية اختيار الأعضاء الممثلين للأمة الموفين  لهذه الشروط (الاتحاد، التعاون، الولاء للأمة) هي اختيار العضو من أهل الحل والعقد.


ويمكن أن يتم الوصول إلى أهل الحل والعقد (ممثلي الأمة الملتزمين بـ “إن الحكم إلا لله”)، ويختارون بمثل الأسلوب المطبق في سلطنة عمان منذ عام 1991، أو بأسلوب آخر مماثل.


 


3.   الإمام نائبا عن الأمة:

عند تطبيق الديمقراطية في بلد مثل المملكة العربية السعودية على النحو المشار إليه أعلاه، فيراعى أن الفقهاء يكيفون “عقد البيعة” على أن الإمام “أجير للمسلمين” أو “وكيل لهم بأجر”.


وبناء على هذا التكييف يمكن أن يكون الإمام محدد المدة أو دائم المدة ما دام قابلا للعزل عند إخلاله بشروط العقد.


ـــــــــــ


(تنبيه: لم يمكن التخلص من الايحاءات غير المقصودة للفظة الديموقراطية في الكلام على النظام السياسي الاسلامي وذلك عند المقارنة بينه وبين النظام الغربي، والسبب أنه لا يوجد للفظة الديمقراظية مرادف باللغة العربية)
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 07, 2013 08:27

December 17, 2012

الإسراف في التقنين: عامل مؤثر في وجود الفساد الإداري

 


 


 Screen Shot 2012-07-23 at 4.24.05 PM


 


‏04‏ صفر‏، 1434


 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه

خلال مدة تزيد عن خمس وخمسين سنة قامت صلتي بالقانون دراسة، وتدريساً، ومستشاراً قانونياً في الإدارة العامة، ومشاركاً في كتابة عدد من الأنظمة ومشرفاً على تطبيقها، ومن كل ذلك وجدت لدي فكرة ظلت مع الزمن و تكرر الوقائع ترسخ في ذهني حتى أصبحت لدي حقيقة يمكن إقامة الدليل عليها بأكثر من مائة دليل ودليل. 


هذه الحقيقة تتلخص في أن لدى رجل الإدارة في وطننا الحبيب غرام غير عادي بسن الأنظمة، في الواقع أن رجل الإدارة عندما يواجه مشكلة في الإدارة فإن اول ما يخطر في ذهنه سن الأنظمة، التي يسميها بعض الأحيان الضوابط، باعتباره الحل الوحيد والسحري للمشكلة ولكن هذا الغرام الشاذ الذي ينتج الإسراف في التقنين – أعني سن الأنظمة- وفي بعض الأحيان إساءة استعمال التقنين يقيم عاملا بالغ التأثير في تهيئة البيئة المناسبة للفساد الإداري وبالتالي في العجزعن اجتياز حاجز التخلف.


إن وجود القواعد المنظمة ضرورة للمجتمع في كل زمان ومكان، لأن البديل له الفوضى وفساد الحياة، ولكن سن القواعد القانونية المنظمة للمجتمع يقتضي كمتطلب اساسي أن تكون القاعدة القانونية “حكيمة” و”عادلة”، حكيمة بأن تكون ظاهرة النفع، وعادلة بحيث تطبق – وبدرجة متساوية – على الكافة.


 


وأضرب مثلاً لذلك:


القاعدة القانونية التي تفرض على سائق المركبة عدم تجاوز إشارة المرور الحمراء ظاهرة النفع واضحة الحكمة، وعادلة لأنها تطبق على الكافة مهما اختلفت أوضاعهم وحاجاتهم لسرعة الوصول للمكان الذي يقصدونة.


ولو خالف شخص هذه القاعدة القانونية (قطع الإشارة) لواجه من ردود الفعل المنكرة الغاضبة من قبل الجمهور أبلغ مما يواجه من رجل المرور المسؤول عن متابعة تنفيذ هذه القاعدة. 


مرة كان أحد الإخوة يردد الشكوى التي نسمعها دائما أن الناس في بلادنا لا يحترمون القانون في حين ان رجل الشارع في البلد الأوربي الفلاني لا يلتزم فقط بإطاعة القانون بل إنه يعتبر نفسه مسؤولاً عن متابعة تنفيذه، فقلت السبب أن القوانين في البلد الأوربي الذي ذكرت حكيمة وعادلة، أما في بلادنا فقد لا تكون حكيمة، أو لا تكون عادلة، أو لا تكون لا حكيمة ولا عادلة.


 


كيف يكون الإسراف في التقنين عاملاً مؤثراً في وجود الفساد ؟

الجواب: 


الأدوية مضادة الحيوية ضرورية لعلاج الأمراض، ولكن لها آثاراً جانبية سيئة قد تكون مدمرة، فإحسان استعمالها يقتضي أن لا يصفها الطبيب إلا في حالة الضرورة وحيث لا يوجد بديل أسلم، ووصفها بقدر الحاجة لا زائداً عنها، وبعد الموازنة بين أثرها الإيجابي المطلوب وآثارها الجانبية السيئة.


اذكر قبل مدة (أكثر من اربعةعقود) أني قرأت تقريراً صدر عن شخص أو منظمة (أنساني طول الزمن) من المهتمين بالصحة العالمية يقارن فيها بين استعمال البلدان للمضادات الحيوية، فذكر أن وصف هذه الأدوية في ألمانيا يأخذ 4% من ميزانية الدواء في حين أنه في بلد أفريقي (أحتفظ باسمه) يأخذ 40% من ميزانية الدواء. 


أهم عامل في وجود هذا الفارق هو إساءة استعمالها في البلد الافريقي والقصور في متابعة تنفيذها والتأكد من حسن استعمالها.


تماما مثل الأدوية المضادة الحيوية في علاقتها بجسم الإنسان، وتأثيرها عليه إيجابا أو سلبا، والسياسة الرشيدة التي يجب أن تحكم وصفها كذلك القواعد التنظيمية في علاقتها بالإدارة والمجتمع، وتأثيرها عليهما إيجابا أو سلبا والسياسة الرشيدة التي يجب أن تحكم اصدارها.


فيجب ألا توجد إلا عند الحاجة حيث لا بديل غيرها لمواجهة مشاكل الإدارة والمجتمع، وأن توجد بقدر الحاجة لا زائدة عليها، وأن يكون إصدارها بعد الموازنة بين آثارها الإجابية وآثارها السلبية سواء على الإدارة أوالمجتمع.


فيكون إصدارها نتيجة الموازنة بين المصالح والمفاسد لوجودها وبعد اعتبار كل العوامل المؤثرة، مأخوذا في الاعتبار أن وجودها يستلزم دائما التجاوز على حرية الإنسان وتقييد قدرته على التصرف.


ولابد من المتابعة الدقيقة Auditingب ضمان تنفيذها، وأن يتم تنفيذها على وجه يتأكد به العدل والجودة في الأداء، وتحييد أثارها السالبة على الوجه الممكن، ولكن المشكلة الرئيسية في إدارتنا الوطنية هي قصور متابعة تنفيذ القواعد التنظيمية أو انعدامها.


ينتج عن قصور المتابعة أن رجل الإدارة المسئول عن تطبيق القواعد التنظيمية يجد نفسه في وضع يتيح له نوعا من السلطة المطلقة، فهو يطبق هذه القواعد إذا شاء ويتوقف عن تطبيقها إذا شاء، آمنا من أن لا أحد وراءه يتابع سلوكه أو يسأله عما يفعل، والسلطة المطلقة كما هو معروف أساس الفساد الإداري، إذ هي توجد الامكانية للفساد والإغراء عليه.


وحتى لو وجد الاهتمام بالمتابعة فإن تزايد إصدار القواعد التنظيمية يوسع مجال الانتباه Attention Span وحسب القانون الطبيعي فإن مجال الانتباه كلما اتسع صار على حساب جودة الانتباه، وحين توجد غابة من القوانين فإنه حتى المختص يصعب عليه الاهتداء فيها، ويزيد الأمر صعوبة أن تزايد وجود القواعد التنظيمية يوجد فرصة لتعارضها مما ييسر مهمة رجل الإدارة الفاسد، ويصعب مهمة الإداري الصالح.


وفي مجال آخر، فإن المواطن الصالح الذي تقيد بالقواعد التنظيمية يرى نفسه في وضع غير منافس مع المواطن الآخر الذي يتيح له قصور المتابعة حرية التصرف والعمل، دون خوف من الملاحقة.


ومن ناحية أخرى فإن المواطن الصالح الذي – بفضل القواعد التنظيمية التي تتبارى في إصدارها عدة جهات إدارية تتناول مسئوليتها مشروعه التجاري- يرى نفسه مكبلا بالقيود التي تخلقها القواعد التنظيمية، لا يجد فرصة للوصول إلى هدفه المشروع إلا بمحاولة التفلت من أسر القواعد التنظيمية،ولو بوسائل غير مشروعة، وبذلك تكون مخالفة القوانين هي القانون السائد في المجتمع. 


خير عبرة نجدها في سياسة التشريع في الإسلام، الدين الذي مِنْ أظهر سماته الاقتصاد في القواعد الآمرة(الإيجاب والتحريم والطلب والنهي).


الله يمن على أمة الإسلام بأنه ما جعل عليهم في الدين من حرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج:78}، وأنه يريد بهم اليسر (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) {البقرة:185}، ويريد التخفيف عنهم (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) {النساء:28}


ويصف القرآن القواعد الآمرة التي حملت بها الأديان قبل الإسلام بـ”الآصار” و”الأغلال” التي وضعها الإسلام عن أمة الإسلام (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) {الأعراف:157}


وقد جاء في صريح القرآن النهي عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الايجاب والتحريم قبل أن يبتدئ النبي البيان في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) {المائدة : 101}، ووردت السنة بالتشديد على مثل هذا النهي، والعلة ظاهرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل أجاب، وجوابه قاعدة تشريعية آمرة، ومقصود الشارع الحكيم الاقتصاد في الأوامر والنواهي.


هنا الكلام عن قواعد تشريعية صادرة عن العليم الخبير العزيز الحكيم، فما الشأن في القواعد التنظيمية التي تصدر عن الإنسان العجول الظلوم الجهول.


  


الاقتراح:

إن الغرام الذي يجاوز الحد لرجل الإدارة في وطننا بإصدار القواعد التنظيمية مرض مزمن، مزمن لدرجة إن الناس صاروا يعتبرونه ظاهرة صحية، وقل أن يوجد من ينتبه إلى آثار هذا المرض المدمرة على الإدارة والمصلحة العامة للمجتمع.


وإثناء عملي في الحكومة عانيت أشد المعاناة في إقناع رجال الإدارة بمنافاة سلوكهم للسياسة الرشيدة في هذا الصدد، وغالبا ما تنتهي هذه المعاناة بالفشل.


لذا أقترح أن تُعنَى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بدراسة الظاهرة مستخدمة عدة وقائع حالات دراسية. وينبغي أن لا نغفل تجارب محلية تثبت أن المسألة ليست فكرة نظرية، بل واقعية.


مثال ذلك تجربة الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر (رحمه الله) عنما كُلّف بإصلاح الجمارك، وكانت الجمارك في المملكة حينذاك أسوأ جمارك في الشرق الأوسط، وكان الفساد مستشريا فيها، ربما أكثر من أي إدارة حكومية أخرى، وبعد مدة قصيرة من العمل تحولت إلى أفضل جمارك في الشرق الأوسط، وانتفى منها الفساد كليا.


والذي ركز عليه الأستاذ فهد هو اختصار القواعد التنظيمية الإجرائية، والملفت للنظر أنه لم يَطرد موظفا واحدا من الفاسدين، لأنهم أنفسهم تركوا الجمارك مختارين بعد أن اختفت البيئة الإدارية التي تتيح لهم الفساد، وهم إنما كانوا يعملون في الجمارك لا لأجل الوظائف التي يشغلونها وإنما لما تتيحه لهم من كسب وثروة ناتجة عن بيئة الفساد. 


ينبغي أن نتذكر أن المديرين العامين للجمارك لم يُتّهموا بالمشاركة في الفساد، ولم يتهم بذلك الخبيران المصريان في الإدارة اللذان كانا من أفضل الخبراء علما وتجربة، حيث كان المسؤول الأول عن الفساد السلسة المفرطة في الطول من إجراءات التخليص الجمركي.


وسوف تكشف الدراسة أن كثيرا من القواعد القانونية صدرت لا لظهور الحاجة لمواجهة ظاهرة عامة ولكن رد فعل لحادثة فردية أو حالات محدودة، كما ستكشف أن كثيرا من هذه القواعد صدر لجلب مصلحة صغيرة أو درء مفسدة ولكن نتج عن صدورها تفويت مصلحة كبيرة أو ارتكاب مفسدة أو مفاسد أسوأ أثرا.


وحينئذ سيكتشف أن القاعدة القانونية صدرت بدون موازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة عليها، وبدون اعتبار للموجبات والموانع، وهي المعيار الذي لا يغفل عنه كل مشترع حكيم. 


وستكشف الدراسة أيضا أن عددا من القوانين صدرت قبل تهيئة الوسائل للمتابعة وضمان التطبيق العادل للقاعدة القانونية.


وقد يكون من خير الأدلة (Guides) في هذه؛ أن تجرى المقارنة بين بلادنا والبلدان الأخرى في هذا المجال، ولا شك عندي أن مثل هذه الدراسة ستكشف أن رجل الإدارة والمواطن العادي مكبلان بقيود فاضحة عديدة لا يوجد لها مماثل في أي بلد من بلدان العالم بدون موجب جدي يقتضي شذوذنا في هذا الأمر الخطير.


إن اكتشاف المرض والعزم على علاجه هو أول خطوة في طريق العلاج.


 


وبالله التوفيق،،،

 


 


 


 


 


 


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 17, 2012 11:03

November 20, 2012

تعليق عن الاستدامة البيئية

 


مدخل 

عندما كان الفريق الفني المسئول عن إعداد التصميم العام لمشروع الملك عبد الله لتوسعة المسجد الحرام يقوم بعمله كان يعتبر موجهاً هاماً لعمله في المشروع تحقيق مبدأ الاستدامة البيئية وصداقة المشروع للبيئة.


وكان طموحه أن يكون المشروع مثالاً يحتذى في مساجد المنطقة إن لم يكن في المساجد في العالم.


يمكن القول إن المبدأ موضوع البحث هو قضية العصر في حوكمة المشاريع العمرانية.


ولكن الحداثـة (أو الحداثة وحدها) ليست التي حملت الفريق الفني على هذا التوجه، وإنما كان الحامــل لــه على أن يكون هــذا المبــدأ هماً كبيراً لديه في كل مراحــل العمل هو إدراكه أن هذا المبدأ من متطلبات النظام الإسلامي الأساسية للتعامل مع الموارد، الأمر الذي يجهله كثير من المثقفين المسلمين فضلاً عن غيرهم.


كثير من المثقفين المسلمين يرون أن فكرة (الاستدامة البيئية وصداقة المشروع العمراني للبيئة) فكرة جديدة من ابتكارات الثقافة العالمية المعاصرة.


والحقيقة أن هذه الفكرة هي فعلاً جديدة في الثقافة العالمية المعاصرة، فمصطلح (التنمية المستدامة) مثلاً إنما صيغ في أروقة البنك الدولي قبل أقل من أربعة عقود من الزمن.


وفي عام 1987 أعلنت الأمم المتحدة تقرير لجنة براندتلاند Commission Brandtland الذي عرف “التنمية المستدامة“ بأنها “التنمية التي تواجه حاجات الحاضر بدون أضرار بقدرة أجيال المستقبل على مواجهة حاجاتهم“ وصار هذا التعريف منذ ذلك الوقت أكثر التعريفات “للتنمية المستدامة“ شيوعاً .


وقد أشارت وثائق مؤتمر القمة العالمي في الأمم المتحدة عام 2005 إلى أركان التنمية المستدامة الثلاثة التي اعتبرت مع تميزها عن بعضها متعاضدة: التنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، وحماية البيئة، وجرت محاولات فيما بعد لإضافة ركن رابع وهو التنوع الثقافي الذي اعتبر في أهمية التنوع الحيوي.


فكرة الاستدامة البيئية لا تزال في مرحلة نشأتها في الثقافة المعاصرة، سواء من ناحية الفكر والتطور المعرفي أم من ناحية الممارسة والتطبيق.


ولكنها بالنسبة لنظام الإسلام (منذ عصوره المبكرة)فكرة ناضجة ومتقدمة ومتطورة من ناحيتي الفكر والممارسة بل هي أساس لقيام الحضارة الإسلامية كلها.


عندما كنت أذكر هذا لبعض الأفاضل المثقفين كانت الدهشة تعتريهم، وكانوا يحملون كلامي على أنه من قبيل ما تعودوه من بعض الأخيار الذين تحملهم العاطفة على أن يغلوا فيتلمسوا أدنى شبه بين الأفكار الحديثة وبعض الأفكار في نظام الإسلام فيدعوا أن الإسلام سبق إلى هذه الفكرة أو تلك حتى ولو كانت الفكرة لا تنسجم مع روح الإسلام وجوهره، وقد تبنى هذه الدعوى على تحكم وتعسف في تفسير النصوص أو الأحداث التاريخية.


كنت أدهش لدهشة هؤلاء الأفاضل المثقفين إذ كنت أظن أن الموضوع من الوضوح والجلاء بحيث لا يخفى على من لديه إلمام بنظام الإسلام وتطبيقاته التاريخية، وكان هذا دفعاً قوياً لتحرير هذا المقال:


 


- 1 -


يختلف نظام الإسلام عن غيره من النظم الثقافية بأن مكوناته ليست فقط منسجمة فيـما بينـها، بـل متكاملة، أو كما وصفه أحــد المفكريـن الأوربيـين (الذي أتيح له من الإطلاع على تراث الإسلام وتاريخه وأحوال مجتمعاته المعاصرة ربما ما لم يتح لغيره) بقوله:


“الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضاً ويشد بعضها بعضاً ، فليس هناك شيء لا حاجة إليه وليس هناك نقص في شيء ، فنتج من ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص“ 1


ومن مظاهر ذلك الانسجام والتكامل بين مكونات الإسلام: أنه عند تقريره فكرة ما، ودعوته للأخذ بها، فإنه يُعنى في الوقت نفسه بتهيئة البيئة الصالحة لوجود الفكرة ونموها، وعلى سبيل المثال يُعنى في البداية بنفي بذرة التناقض داخل الفكرة أو بينها وبين أفكار النظام الإسلامي الأخرى.


 


 


- 2 -


وسيراً على هذا النهج ففي قضية الاستدامة فإن الإسلام في هدايته وتهيئته لأسباب وجودها حرص في البداية على نفي عوامل هدمها أو تعويقها.


ففي (استدامة الموارد) عنى الإسلام في البداية بمقاومة خطرين مهمين:


الأول : (إهدار) الموارد، وهو ما يشكل العائق لنموها أو لحمايتها.


الثاني : (تدمير) الموارد بعد أن تتاح لها فرصة الوجود والنمو.


فأولاً : يطلق القرآن على إهدار الموارد لفظة “ الإسراف“ وما يرادفها من الألفاظ، وقد وردت لفظة الإسراف وما اشتق منها في مجال التحذير منه في (ثلاثة وعشرين) موضعاً من القرآن مثل قوله تعالى [وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] الأنعام/141 [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] الفرقان/67، أما التحذير في القرآن عن الإسراف وذمه بما يرادف لفظة الإسراف فلا تكاد مواضعه تحصى مثل قوله تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا] الإسراء/29 [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ] الإسراء/26 [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] الإسراء/27.


ويعرّف العلماء الإسراف بأنه: “إنفاق ما يزيد عن الحاجة“.


وفي تحديد الحاجة التي لا تعتبر مواجهتها والإنفاق عليها إسرافاً يشمل المضمون ما يعرف عند الفقهاء بالضروريات والحاجيات والكماليات، والمقصود بالكماليات هنا ما تعارف الناس على طلبه بصفة معقولة مثل التزين والرغبة في الاستمتاع بالجمال.


قال تعالى [يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ] الأعراف/31 [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] لأعراف/32 وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ] الأعراف/157 وفي الحديث الصحيح ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) الترمذي: 2819 ((إذا أتاك الله مالاً فلير أثره عليك)) النسائي 5223، والاستمتاع بالجمال حاجة مبررة وفي الحديث الصحيح ((إن الله جميل يحب الجمال)) مسلم: 51 وفي القرآن الامتنان على الناس بالحلية قال تعالى [مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ] الرحمن/22 [وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا] النحل/14.


والحد المشروع في ذلك أن لا يصل الإنفاق إلى درجة الترف، أو السفه، أو الخيلاء، أو أن يترتب عليه حرمان الأخرين من الوفاء بحاجاتهم المشروعة.


ويدخل في هدر الموارد إهمال حفظها وصيانتها وتعريضها للتآكل، والإخفاق في تعظيمها وتنميتها في حدود الإمكانات المتاحة للتنمية والتعظيم.


وفي المثل الذي ضربه الله للعبرة في سورة يوسف حينما وقع التنبؤ بدورة الخصب والجدب في مصر كانت الخطة الاقتصادية التي رسمها النبي يوسف عليه السلام:


استغلال فترة الخصب لتعظيم الموارد، وذلك بالعمل على إنتاج أكبر كمية من الحبوب يستطيع بلوغها الإنسان والأرض بحيث تواجه الحاجة الآنية للبشر في فترة الخصب ويبقى فائض يخزن ويحافظ عليه ويحمي من عوامل التلف بأن يبقى في سنبله اتقاء لعوامل الفساد وكل ذلك ليواجه المخزون الحاجات البشرية في المستقبل في فترة الجفاف.


قال تعالى [تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ]يوسف/47 [ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ]يوسف/48.


وقال تعالى أرشاداً للتصرف في أموال اليتامى [وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا] النساء/5 يلاحظ التعبير [أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً] الخطاب موجه للمجتمع المسلم، وقد نسبت الأموال إليه، ونوه بوظيفة المال أن يكون قياماً للناس أي تقوم عليه معيشتهم، في حين أن الواقع أن الأموال المحكى عنها هي أموال السفهاء اليتامى غير الراشدين.


فجاءت الآية الكريمة بمنع تعريض مال اليتيم للتصرف غير الرشيد من قبله فمنعت تمكين اليتيم من التصرف في ماله، إلا بعد أن يظهر رشده في تدبير ماله.


وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد ولي اليتيم إلى أن يتجر في مال اليتيم لصالح اليتيم وعلل ذلك بقوله ((حتى لا تأكله الصدقة)).


بما أن الزكاة تفرض بنسبة 2.5% على رؤوس الأموال حتى أموال القاصرين فلو بقي المال مكتنزاً لا ينمو بالحركة التجارية ، لتآكل أغلبه خلال سنوات فإذا بلغ اليتيم خمس عشرة سنة(سن البلوغ) مثلاً وآن أوان تسليمه ماله تبين حين ذلك أنه قد تآكل مع مرور الزمن، وقد فقد مبلغا كبيرا بالنسبة لأصل المال.


وورد الحديث بالأمر بالاقتصاد في استعمال الماء حتى عند الوضوء والغسل، وحتى لو كان الإنسان يتوضأ أو يغتسل من نهر دائم الجريان.


في كل ما سبق أمثلة لمقاومة هدر الموارد أو تضييعها بعدم تنميتها أو التقصير في حفظها.


قبل عدة عقود من الزمن قرأت مقالاً لأحد الكتاب يحصى فيه حجم النفايات في مجموعة بلدان، ليصل إلى نتيجه أن البلدان الصناعية هي الأكثر نفايات بسبب كثرة الإستهلاك، ويستنتج الكاتب من ذلك أن حجم النفايات يشكل معياراً للتقدم، والحقيقة أن صلة كثرة الإستهلاك ومن ثم كثرة النفايات بالغنى أو ثق من صلته بالتقدم، والغني لا يعنى دائماً تقدم الإنسان، وقد قال سبحانه وتعالى [كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى] العلق6/7 وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المعروف ((اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى )).


إهدار الموارد يحدث في كل بلد، ويحدث في العالم الثالث حتى في البلدان التي تشح فيها الموارد.


وفي تاريخ بلادنا الحديث وقع الإهدار في الموارد لا سيما الماء والغاز وصاحبه إفساد البيئة ربما ما قل مثاله في تاريخ البشرية، وكان يمكن أن يكون عزاء عن ذلك لو انتفع بدروسه في سياسة الحاضر والمستقبل.


ومن سلبيات الإسراف، ما يصاحبه في كثير من الأحيان من التقصير في مواجهة الحاجات الحقيقية كما جاء في القول المأثور ((لا ترى إسرافاً إلا وجدت وراءه حقاً مضيعاً)) .


وفيما يتعلق بالثاني أي تدمير الموارد فإن القرآن الكريم يسميه “الإفساد“ وقد ورد “ذم الفساد“والتحذير منه في (خمسين موضعاً) من القرآن، مثل: قوله تعالى [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] الروم/41 ومثل قوله [كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] المائدة/64 وكثيراً ما يقرن الفساد في القرآن بسفك الدماء وإرادة العلو في الأرض قال تعالى [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ] القصص/4 وقال [وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] القصص/77 وفي مدح الأبرار[لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ] القصص/83 وقال [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ- وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ] البقرة/205.


وثالوث سفك الدم والفساد وإرادة العلو في الأرض، اعتبر في القرآن رأس الشرور في علاقة الإنسان بالإنسان، واضح أن الأول عدوان على حياة الإنسان والثاني عدوان على ما به قوام حياته والثالث عدوان على حريته.


إن الحروب الحديثة تقدم أمثلة محزنة تمحي بها في سلوك الإنسان الفروق بين الهمجية والتقدم والوحشية والتحضر.


يكفي الإنسان أن يستعيد لذاكرته سلوك الجيش الأمريكي في فيتنام في عقد الستينيات من القرن الماضي حينما كان يحرق الغابات الخضراء بالكيماويات أو سلوكه في أفغانستان في العقد الأول من هذا القرن حين أودع في أرضها في الأيام الأولى من الحرب سبعين مليون كيلو جرام من المتفجرات، أو تفجير صدام آبار البترول في الكويت.


وأفظع من كل ذلك أن تظل إحدى الدول توجه إلى العالم الخارجي من الرءوس النووية التي يمكن إطلاقها خلال خمس عشرة دقيقة بقرار شخص واحد ما تكفي قوته التدميرية لقتل كل إنسان على ظهر الأرض ثلاث مرات، أو إنفاقها الوقت والمال وجهود العلماء لتصنيع جراثيم الأوبئة حتى ليكفي ملء ملعقة شاي من بكتوريوم الجمرة الخبيثة ليوزع على كل فرد من البشر ألف مكروب من مكروبات الجمرة الخبيثة، أو تصنيع الغازات السامة.


وبالطبع لا يتم تصنيع هذه المواد بغرض أن تكون معروضات في المتاحف، وإنما لاستخدامها وفق الإرادة المطلقة لإنسان بلغ في سلم التقدم الإنساني والأخلاقي والتمييز بين الخير والشر مستوى سمح له بالتفكير في مثل هذه المشاريع وإنجازها .


 


- 3 -


بعد ذلك يهتم الإسلام ببناء الأنظمة التي تحقق الاستدامة ، ومواجهة حاجة الإنسان في الحاضر والمستقبل.


ويمكن إيراد مثالين في هذا المجال لنظامين شاملين ومهمين في الإسلام.


الأول: نظام الوقف الذي قامت على أساسه الحضارة الإسلامية بكاملها:


وقد ابتدأ هذا النظام بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب عندما استشاره في الصدقة بأرض ذكر أنها أثـمن ما ملك، فأشار عليه بأن يحبس أصلها ويتصدق بغلتها، ومن ذلك الوقت ظل المسلمون يتسابقون في وقف الأصول المنتجة لريع دوري ليواجه حاجات أجيال الحاضر وحاجات الأجيال المقبلة مهما تعاقبت، وتشددوا في حماية الأصل الموقوف بحيث لا يكون مجالاً للتصرف فيه بأي تصرف ناقل للملكية إلا في حالة تعطله تماماً عن إنتاج الريع، وكذلك تشددوا في منع تغيير أي شرط من شروط الوقف التي وصفها الفقهاء بقولهم (شروط الواقف الصحيحة مثل حكم الشارع).


ومن البداية وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسابق أصحابه من بعده في الوقف حتى قيل أن أحداً منهم لم يكن يملك ما يمكن وقفه إلا وقف.


وواجه الوقف حاجات المجتمع المسلم في كل العصور وفي كل الأزمان مثل إقامة المؤسسات التعليمية وإنشاء المكتبات والمستشفيات والطرق والجسور وكري الأنهار، وإقامة الخانات على الطرق، وبالجملة لم يبق حاجة من حاجات المجتمع المسلم إلا ووجهت بالوقف الدار الغلة على الدوام وعلى توالي الأجيال.


ولم يقتصر الأمر على حاجات الإنسان بل تجاوزه إلى تلبية العاطفة الإنسانية تجاه الحيوان فوجدت أوقاف لرعاية الحيوانات التي كبرت وعجزت عن العمل فتخلى عنها أصحابها فتتكفل الأوقاف برعايتها حتى تموت موتها الطبيعي.


بل وجد في بعض البلدان وقف على الطيور المهاجرة التي تصاب أثناء طيرانها بكسر في ساقها وتعجز عن مصاحبة فرقها فوجد وقف يتولى علاجها حتى تشفى وتتمكن من الطيران فتلحق بفرقها.


الثاني: نظام الخراج:


في وقت مبكر واجهت المسلمين قضية التصرف في الأرض وهل تبقى على الملك العام أو توزع ملكيات خاصة بين الناس، وأنقسم المسلمون حزبين: عمر بن الخطاب الخليفة ومن معه يرون الحل الأول، وبلال بن رباح ومن تبعه يؤيدون الحل الثاني، واحتدم الجدل ، وكانت حجة الفريق الأول أن بقاء الأرض في الملك العام يضمن مواجهة حاجات الأجيال المتعاقبة على مر العصور.


وقد أنتصر رأي الفريق الأول وأضحت غالبية الأرض ذات الريع في الأرض الواقعة تحت سلطان المسلمين (ولا تقل مساحاتها عن 95% من مجموع مساحة الأرض) ملكاً عاماً تكون بيد من يستغلها يتصرف فيها كما لو كان مالكاً لها ـ عدا التصرف في ملكية رقبة الأرض - وتفرض عليها نسبة من إنتاجها لمواجهة المنافع العامة.


لقد أثبت العمل صلاحية هذا النظام وتحقيقه للهدف الذي تغياه كل ما ضمنت له الإدارة الصالحة ، والرعاية العادلة، بل إن هذا النظام بإبقائه على حافز الربح للعمل وفي الوقت نفسه ضمان العدالة الإجتماعية حل معضلة لا تزال البشرية تحاول حلها طوال المئتي سنة الماضية، وأعني التوفيق بين الإتجاه الجماعي والإتجاه الفردي في الإقتصاد.


بالطبع لا يمكن في الوقت الحاضر استنساخ هذا النظام الذي وجد في عصر الإقتصاد الزراعي لا يمكن استنساخه ليكون حلاً ناجحاً في عصر الاقتصاد الصناعي والاقتصاد الخدمي.


ولكن لا شك أن إمكانيات الاسلام بعد الوعي بها كفيلة بإيجاد حلول للمشكلة الإقتصادية كافية وملائمة لهذا العصر وللاقتصاد المعاصر.


واضح أن النظامين المذكورين وجدا -حينما وجدا- على أساس من فكرة الإستدامة.


 


- 4 -


كانت الغاية من النظام الأول (نظام الوقف) كما ذكرنا أن تفي الموارد بحاجات الجيل الحاضر، مع وفائها بحاجات الأجيال في المستقبل، وهذا ما وقع فعلاً فقد ظلت بعض الأوقاف تؤدي هذه الوظيفة عدة قرون، وبالمثل فإن النظام الثاني أنتصر بناء على حجة أن تبقى الموارد تلبي حاجات الجيل الحاضر بدون إضرار بقدرة الأجيال في المستقبل على تليبة حاجاتهم.


لقد كان البديل أن تكون الأرض وهي أهم عوامل الإنتاج في الإقتصاد الزراعي مملوكة ملكية خاصة فتتجمع الملكيات الكبيرة في أيد قليلة ، وتحرم الغالبية من الناس وتضار العدالة الاجتماعية أو تكون الأرض مملوكة ملكية عامة تدار بتدخل من الدولة وينتفي حافز الربح فتضار سياسة الاستثمار الأجدى كما هو الحال في النظام الشيوعي.


لقد أثبت التاريخ أن هذا النظام (كلما توفر له شرط الإدارة الصحيحة) مع تحقيقه التنمية الإجتماعية حافظ على التنمية الاقتصادية ، على سبيل المثال سجل التاريخ أنه في عهد عمر بن عبد العزيز حقق نمو ربع الأرض على مستوى الدولة زيادة 100% خلال سنتين.


 


- 5 -


وكما عني الإسلام بالتنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، كما ذكر أعلاه، عني أيضا في بعد ثالث بحماية البيئة، وفي الورقة التي قدمها العالم المشهور الدكتور/ يوسف القرضاوي في مؤتمر الإسلام والبيئة (مركز شركاء الأرض للحوار) وقد اقتبستها من كتابه المشهور بعنوان(رعاية البيئة في شريعة الإسلام) أوضح أن الركائز الأساسية لرعاية الإسلام للبيئة تتلخص في ثـمان ركائز:


1 - تشجيع التشجير والتخضير واعتباره نوعاً من عبادة الله.


2 - تشجيع العمارة والتثمير.


3 - العناية بالنظافة والتطهير ومنع التلوث.


4 - المحافظة على الموارد.


5 - الحفاظ على صحة الإنسان.


6 - معاملة البيئة بالإحسان سواء فيما يتعلق بالإنسان أو الحيوان أو النبات أو الجماد.


7 - حماية البيئة من الإتلاف والتدمير.


8 - حفظ التوازن البيئي.


وقد أورد النصوص من القرآن والحديث النبوي واضحة الدلالة على ما ذكر، على سبيل المثال فيما يتعلق يحفظ التوازن ذكر (أن الله خلق كل شيء في الكون بحساب ومقدار قال تعالى(مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ){الملك/3}(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) {السجدة/7} (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) {آل عمران/191}.


والآيات القرآنية التي توضح أن كل شيئ في الطبيعة خلق بتوازن دقيق كثيرة منها قوله تعالى(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) {القمر/49} (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) {الفرقان/2} (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) {المؤمنون/18} (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) {الحجر/19} ويختم القرضاوي بقوله (المطلوب من الإنسان وفق القرآن والحديث) العدل والاعتدال والتوسط والتوازن في كل شيء في الماديات والمعنويات في أمور البيئة وفي أمور الإنسان وفي الحياة كلها، والذي نهدف إليه من هذا أن الكون كما خلقه الله متوازن في نفسه متكامل بعضه مع بعض ولو طغى فيه شيء وجد في الكون نفسه ما يرد طغيانه ويعيد الأمور إلى التوازن القسط . وإنما يختل التوازن في الكون وفي الحياة بتدخل الإنسان غير المسئول وعمله غير المحسوب وغير المشروع وتغييره لفطرة الله في نفسه وفي الكون من حوله ومجاوزته لحده، في التعامل مع المخلوقات الأخرى) أهـ .


والقرآن مملوء بالتنبيهات إلى مظاهر الطبيعة في توازنها وانسجامها وجمالها، ودعوة الانسان إلى الوعي بذلك في مثل قوله تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) {الحج/5} وقوله تعالى (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ{الجاثية/3} وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ {الجاثية/4} وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {الجاثية/5} وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {الأنعام/99})


 


- 6 -


أن ما يعزز استعداد المسلم للاستجابة لأوامر الله في شأن التعامل مع أخيه الإنسان أو مع الموارد أو مع البيئة هو إدراكه أنه عضو في جوقة التسبيح الكوني لله قال تعالى (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) {الجمعة/1}.


(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) {الإسراء/44} وجاء ذكر التسبيح بلفظه في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن وجاء بمعناه في مواضع أخرى من القرآن .


وإدراكه أن الكون مسخر له ، كما في قوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) {النحل/12} وقد ذكر تسخير الكون للإنسان بلفظ التسخير وما أشتق منه في أكثر من عشرين موضعاً من القرآن ، كما ذكر في مواضع كثيرة بألفاظ مرادفه للتسخير مثل قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ {الملك/15}.


فالمسلم حينما ينتفع بهداية القرآن فيستشعر رفقته لعناصر الطبيعة في التسبيح لله، ويستشعر أن عناصر الطبيعة مسخرة لانتفاعه فإن من الطبيعي أن تكون علاقته بالطبيعه علاقة ألف وصداقة ، وهذا يفسر أنه لم تكن توجد في لغات المسلمين مثل ألفاظ : الصراع مع الطبيعة، وقهر الطبيعة، وغزو الفضاء، لقد دخلت هذه العبارات أخيرا في لغات المسلمين تقليداً للعبارات الشائعة في الثقافة الأوروأمريكية، وجهل المسلمين المعاصرين بالإسلام وبنصوص مراجعه الأساسية (القرآن والحديث الصحيح) جعلهم يبتعدون عن التصور الإسلامي لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقته ببيئته.


ولكن إعادة وعي المسلم بالتصور الإسلامي لتلك العلاقات تجعله بلاشك أكثر استعداداً لقبوله فكرة صداقة أفكاره وممارساته ومشاريعه للبيئة حوله.


 


- 7 -


فيما يتعلق بالبعد الرابع للاستدامة وهو حماية التنوع الثقافي، فإن سجل الإسلام سجل ناصع في كل تاريخه وفي مختلف أقطاره ، فمن أول ما سجل المسلمون انتصارهم في حروبهم مع الآخرين حتى انتهى بإمتداد سلطتهم السياسية إلى جزء كبير من العالم القديم يمتد من جنوب فرنسا إلى الأرخييل الأندنوسي ومن حدود الصين إلى ساحل الأطلسي، احترم المسلمون المنتصرون في زمن سيادتهم السياسية في كل العصور وفي مختلف الأقطار، ثقافات الشعوب الأخرى فأعطوهم حرية العبادة، وحموا أماكنها وأعطوا الأقليات الثقافية تحت سلطانهم الحق في وضع وتطبيق القوانين الخاصة بهم، والحق في استقلالهم في القضاء في المنازعات بينهم، والحق في الاحتفاظ بلغاتهم وتقاليدهم وتنشئة أطفالهم على ثقافتهم، بل لقد استثنوا من القانون الجنائي العام بمعيار إن كل فعل يعتبر غير مناف للأخلاق في ثقافتهم فإنه لا يعتبر جريمة في حقهم وأن كان يعتبر جريمة في حق المسلم بحكم القانون الجنائي العام ، وذلك مثل شرب الخمر، وتصنيعها أو تسويقها، أو التعامل بالربا … إلخ .


وفي حالات كثيرة أزدهرت الثقافات الأخرى ونمت وتطورت وحافظت على وجودها أكثر من أربعة عشر قرنا.


 


- 8 -


الخلاصة كما رأينا أن قضية الاستدامة قضية أصيلة في نظام الإسلام - في جانبه الدنيوي -بوصفة طريقة شاملة لحياة الإنسان مسلماً أو غير مسلم، وأن نظام الإسلام عالج هذه القضية بالمنهج ذاته الذي يعالج به القضايا المماثلة وهو المنهج المتكامل الذي يبدأ بالعناية بنفي العوائق عن البناء السليم للقضية، وتحقيق سبل الوقاية من عوامل هدمها ثم يعمل على بنائها بصورة تحقق فعاليتها وإنتاجها.


 


- 9 -


كنا حتى هذا الجزء من المقال نتحدث عن الإسلام في جانبه الدنيوي الذي يرسم طريقة لحياة يكون الإنسان فيها مسلماً أو غير مسلم أقدرعلى مواجهة تحديات الحياة أما الجانب الروحي وهو الخاص بمن يؤمن بالإسلام ديناً فلا شك أن أثره على قضية الاستدامة في حياة الإنسان ووعيه وسلوكه أعمق وأشمل، وشرط ذلك أن يكون قادراً على الوعي بالنسخة الأصلية للإسلام التي لا يزال الإطلاع عليها ممكناً لكل أحد إذ تتجسد في القرآن الميسر للفهم الذي لم يتغير ولم يتبدل منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي السنة الصحيحة التي حفظت بأرقى نظام للتوثيق عرف في التاريخ.


ولا يتسع المجال لأكثر من هذا .


وبالله التوفيق ،،،


 


ملحوظة: لقد عرضت المقالة خلال مراحل إعداد مسوداتها على عدد من المختصن في مجال الاستدامة، واستفادت من ملاحظاتهم.
وعرضت المقالة في نسختها الأخيرة على سعادة د. عادل شراق الدين، المختص في الاستدامة، عضو هيئة التدريس بجامعة (كنت ستيت يونيفرستي) بأمريكا، وكان تعليقه مشكورا، الآتي:

 


“I have read the article with great pleasure. The arguments are well grounded, thoroughly supported, and complete. If I disagree on an issue it would be on a point of view and not on the structure of the article and that would be a platform of debate not review…my congratulations to the author and my best wishes for success in his endeavors.”


 


Adil


 


Dr. Adil Sharag-Eldin, LEED AP BD+C


Green Energy Ohio, Board member


Associate Professor of Architecture


Research Coordinator


College of Architecture and Environmental Design


Kent State University


 



1 M. ASAD. Islam at the Crossroads (1983) .P.11.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 20, 2012 05:46

November 4, 2012

أساس وحدتنا الوطنية

 



شوال 1433


 


الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه

 


منذ أن بدأ ظل الإسلام السياسي يمتد ليشمل رقعة واسعة من الكرة الأرضية تمتد من حدود الصين وحتى جنوب فرنسا ويشمل شعوباً مختلفة وديانات متعددة حافظ المسلمون على سياسة واحدة لم تتغير في أي مكان من العالم الإسلامي ولا في أي فترة من تاريخه حتى سقوط الخلافة العثمانية.


 لقد مُنحت الشعوب والديانات الواقعة تحت السلطان السياسي للمسلمين ليس فقط حق المواطنة أو حرية العبادة أو حماية المعابد بل أعطى أهل الأديان غير الإسلام الحق في أن يكون لهم قوانينهم الخاصة وقضاؤهم الخاص والاحتفاظ بلغاتهم وثقافتهم وتنشئة أطفالهم عليها ومن الناحية القانونية استثنوا من القانون الجنائي العام، بمعيار إن كل ما كان يباح في دينهم فلا يعتبر جريمة في حقهم، وإن كان يعتبر بموجب القانون الجنائي العام جريمة في حق المسلمين، وذلك مثل تصنيع الخمر وتسويقها وشربها، وفرضت جزية بمبلغ بسيط على الأشخاص اللائقين للخدمة العسكرية في نظير حماية المسلمين لهم وإعفائهم من الخدمة في الجيش الإسلامي ولكنهم إذا اشتركوا في الحرب الدفاعية مع المسلمين فيعفون من الجزية  كما يعفى منها غير المؤهلين للقتال  كالنساء والأطفال والعجزة والرهبان.


ظلت هذه السياسة تطبق أكثر من ثلاثة عشر قرناً، وكان المسلمون يرون أن هذه السياسة لا توجبها تعاليم الإسلام فقط بل يقتضيها العدل والمنطق، كانوا يرونها أمراً طبيعياً فلا يرتفع ضجيجهم كما نسمع الآن من الآخرين  متمدحين بها، ناعين على غيرهم عدم الأخذ بها.


وقد استثنى المسلمون من تطبيق هذه السياسة، ومنذ البداية، رقعة صغيرة من العالم الإسلامي أطلق عليها في الأحاديث الشريفة اسم “جزيرة العرب”  وهو اصطلاح يختلف عن الاصطلاح الجغرافي الحديث، فهو يقتصر على ماحدده الفقهاء، كالإمام الشافعي: “بمكة ومخاليفها، أي توابعها الإدارية في القرون الأولى،  والمدينة ومخاليفها واليمامة ومخاليفها”، وتتضمن هذه الرقعة ماتشمله تقريباً حدود المملكة العربية السعودية في الوقت الحاضر.


فهذه الرقعة من أرض العالم الإسلامي اعتبرت “مركزاً للإسلام” فلم يسمح فيها بالمواطنة أو الإقامة الدائمة لغير مسلم ومن باب أولى لم يسمح بوجود معابد لغير المسلمين  أو مراكز للدعوة  للأديان الأخرى التي هي، في الحقيقة، مناقضة للإسلام .


فمنذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قام الصحابة بتنفيذ هذه الأحكام حسب ما فهموه من  تعبير جزيرة العرب في الأحاديث الشريفة فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم  أوصى عند موته بإخراج المشركين من جزيرة العرب، ويقصد بالمشركين هنا غير المسلمين، كما يدل عليه ما أخرجه مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: “أخبرني عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً”، وإخراج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان آخر ماعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: لا يترك بجزيرة العرب دينان”، ولم يفهم الصحابة من اسم جزيرة العرب ما يشمل اليمن الذي قاعدته صنعاء فلم يخرجوا اليهود منه، وبقوا فيه حتى الوقت الحاضر.


قال الشافعي: “ولم أعلم أحداً أجلى أحداً من أهل الذمة من اليمن، وقد كانت بها ذمة”


وقد نفذ الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصيته فلم يبقوا اليهود في خيبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين أبرم عقد المعاملة معهم شرط أن يكون بقاؤهم خياراً للمسلمين، كما لم يبقوا أحداً من النصارى في نجران، وقد اختلف الفقهاء في التبرير الشرعي لذلك وأقرب أقوالهم في ذلك قول من قال: “إنهم كانوا نقضوا العهد”.


وعلى كل فقد وافق أمر القدر أمر الشرع، وعدم السماح بالوجود الدائم للأديان الأخرى في هذه المنطقة ثابت تاريخياً ويشهد للأحاديث فيها حكمت  به من عدم جواز الوجود الدائم لدين غير الإسلام في “مركز الإسلام”، أي الرقعة من الأرض التي تقدم أنها تشمل  تقريباً حدود المملكة العربية السعودية حالياً.


وكما أن السياسة العامة التي  وصفناها في تعايش المسلمين مع اتباع الديانات الأخرى من الخاضعين لسلطتهم، كان يقتضيها الشرع والعدل والمنطق، فكذلك كان استثناء مركز الإسلام ، في السياسة العامة في تعايش الإسلام مع الأديان الأخرى، بمنع الوجود الدائم للأديان المناقضة للإسلام، سواء تمثل هذا الوجود في الأفراد  أو أماكن العبادة أو مراكز الدعوة، أعني كان ذلك مقتضى الشرع والعدل والمنطق، إذ كيف يصح أن يستوطن مركز الإسلام  من يرى ويعلن أن الإسلام دين زائف، وأن القرآن من أساطير الأولين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم غير صادق ولا أمين.


بالإضافة إلى ماسبق فإن الحكم السياسي في مركز الإسلام، كما هو شرعاً  وواقعاً، مرجعه الأعلى النسخة الأصلية للإسلام (أي القرآن والسنة الصحيحة)  فهما الحاكمان     على نظامه الأساس للحكم (الدستور) وعلى كل الأنظمة والتصرفات الواقعة فيه، في حين -وهذا أمر طبيعي – إذ لا يوجد بلد يسمح بالمواطنة فيه لمن يسفه نظامه الأساس للحكم (الدستور) ويدعو للخروج عليه.


إن هذه الخصوصية للمكان أمر يجمع بين المواطنين فيه  ويوجد بينهم أقوى رابطة، وأمتنها، رابطة تستند إلى الشرع والمنطق والواقع التاريخي ولا أتصور وجود رابطة بين المواطنين في أي بلد آخر تشبه هذه الرابطة في قوتها ومتانتها ورسوخها.


 مع الأسف فعندما ضعف سلطان الخلافة العباسية انحل وجود الحكم المركزي لهذه المنطقة ورجع المواطنون فيها إلى حالة بئيسة من التشرذم، والتحارب، ونهب بعضهم بعضاً، أي أنهم رجعوا إلى حالة من فوضى الجاهلية افقدت مواطنيها الأمن من الخوف والاطعام من الجوع.


استمرت هذه الحال البئيسة عدة قرون حتى مَنّ الله على هذه الرقعة من الأرض بالوحدة تحت سلطان حكم مركزي واحد بوجود المملكة العربية السعودية.


والرابطة التي أشرنا إليها لاتستند في قوتها وإحكامها ورسوخها فقط إلى واقعها التاريخي، حيث وجدت منذ أربعة عشر قرناً، بل إلى خلودها وبقائها ما بقي القرآن وما بقي الإسلام.


كل ماسبق يعني بداهة وجوب أن يكون ولاء المواطن المسلم في هذه البقعة من الأرض بهذه الرابطة مقدما على كل ولاء قبلي أو إقليمي أو ولاء آخر مشابه، وأن الإخلال بالولاء لهذه الرابطة هو خيانة للدين والوطن.


والغرابة أن هذه الحقائق البسيطة والتي من المفروض أن لاتغيب عن إدراك الرجل العادي يغيب الوعي بها عن كثير من الناس، حتى من الخاصة المهتمين بالوطنية والوحدة الوطنية، وهذا ما أوجب لكاتب هذه السطور أن يتقدم لوزارة التربية والتعليم باقتراح أن يعنى فريق من المفكرين ذوي الاختصاص بالتربية بإيجاد الوسائل التي تضمن بقاء الوعي بهذه الحقائق البسيطة حاضراً في وعي الناشئة مسيطراً على عقولهم وقلوبهم، ولا أقصد بذلك فقط بناء وتصميم وتدريس مادة “التربية الوطنية”.              


أن من المفترض أن يعني كل مهتم بالإصلاح الوطني بالتوعية بهذه الحقائق حتى يصبح الوعي بها مسيطراً على وعي كل مواطن وقلبه، وأن تدورعليها الشعارات والأفكار والأقوال والأعمال، حتى نضمن أن لا يرجع الوطن إلى ما مر به مرة من حالة التشرذم وفوضى الجاهلية والجوع والخوف.


 
تنبيه
كتبت هذه الكلمة بهدف قراءتها مع قراءة الورقة المقدمة في لقاء حواري عقد في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني لتقدم أفكار واقتراحات لتحديد مفهوم (الوطنية السعودية) وطبعها المركز في رسالة صغيرة تحت عنوان: “إقتراح لصياغة مفهوم للوطنية السعودية

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2012 19:57

صالح عبدالرحمن الحصين's Blog

صالح عبدالرحمن الحصين
صالح عبدالرحمن الحصين isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow صالح عبدالرحمن الحصين's blog with rss.