حبلٌ ويَدَان: مقال في فنِّ التداول
http://goo.gl/ty3vdU
"فنُّ التداول" هو الوجه الملوَّن الجميل لمفهوم "الجماعة العلمية"، وهو الإجراء الممكن "للمتَّحد العلميِّ"؛ ذلك أنــــَّه يتحوَّل من ممارسة صارمة للفكر، ومن رسميةٍ متأبِّية للبحث العلميِّ، إلى حالةٍ من السلاسة والإبداع والانبثاق، وإلى تحمُّلٍ رفيقٍ رحيمٍ لشيءٍ من ضعف المحيط، وإلى مرحليةٍ صابرةٍ واعيةٍ لبلوغ الغاية؛ فيما يمكن تسميته مع بعض التحوير: "حالة الفنِّ".
الحبل الذي تسلَّمته أمانةً ممن قبلي، مددتــُه مِرارًا ولعقود ثلاثة من الزمن إلى من معي ومن بعدي، فكنت كلَّما قبضت طرَفا من فكرٍ أو فعلٍ، ووصلتُ بعد حين إلى "استحالة" التفرُّد والانفراد؛ استدعيتُ الجمع والتجمُّع؛ إنْ في صيغة "أيامٍ مغلقة"، أو على صورة "مؤسَّسات بحثية"، و"حلقات درس وقراءة"، أو "مشاريع تربوية"، أو دعوة للباحثين والدارسين إلى اهتمام معيَّن، أو حتى على صورة سؤال ومقال، ورواية وكتاب...
فمثلا، في "أصول البرمجة الزمنية" فتحتُ كوَّة لمفهوم "الزمن الصبغة"، ذلك المفهوم الذي يقف صرحا شامخا أمام نظرية "الأزمنة المهيمنة"، ويحلُّ إشكالا كبيرا في واقع الحياة للإنسان المعاصر، وهو يتوهَّم "الانفصال والانفصام" بين الروح والمادة، بين الآني والغيبي، بين العلمي والديني... وكنتُ آمل يومَها أن يأتي مَن يطوِّر نظرية "الزمن الصبغة"، أو يفتح الله عليَّ فأشتغل بها؛ لكنَّ اليد الهزيلة، التي هي يدي، والحبل المتين الذي هو من حبل القرآن المتين، بقيت معلَّقة ولا تزال...
وقد استدعيتُ مرارا – ولا أزال – فكرة "القابلية للرشد" امتدادا لنظرية "القابلية للاستعمار" لدى مالك بن نبي؛ وكتبتُ فيها ما كتبتُ، ثم جاءت جزءا من نموذج الرشد، ومن المنظومة المعرفية الرشيدة؛ وأسهم بعض الإخوة باحتشام في النظر فيها، والانتصار لها؛ ولا يزال الحبل ممدودا، معلقا على يدٍ متعبة أعياها الانتظار...
وقلْ مثل ذلك عن تفسير القرآن الكريم، باعتماد "بذور الرشد"؛ وكذا عن "صورة الفتى" مدخَلا منهجيًّا، وعن الوعاء الحضاريِّ... جميعها خيوط ممدودة، على كثرتها لا تجد إلاَّ يدا واحدة أحيانا، ويدين اثنتين أو ثلاثة نادرا... فتبقى معلَّقة منتظرة متفائلة... إلى حين.
بين وجوب تواضع الباحث، ووجوب الصدع بالحقِّ، خطٌّ ذهبيٌّ رفيعٌ؛ لا يجده إلاَّ من أرهقه الكَلال، ومن أعياه طول التفكير وعرضُه*؛ وبخاصَّة إذا كانت البيئة موبوءة بثقل الماضي ومخلفات الحاضر وهموم المستقبل، وأخص منها إذا جاء الأمر من جهة من أنهكته الجراح المثخنة ولا وَثاق...
لكن، مهلاً، هل هذه شكوى وتذمُّر؟ على غرار ما اشتكاه ابن نبي في مذكراته، أو على نمط شكوى المسيري في مقدِّمات موسوعته، أو على شاكلة ما أنكره مهاتير في يومياته، أو من سنخ ما بكاه فتح الله بحثا عن الجيل الذهيِّ؟
لا وألف لا، إنما هي خاطرة هادئة يرسلها القلب للعقل، فتستقبلها الجوارح من عمق الضمير؛ لتذكِّر بالنعمة وتذكُرها، ولتقول للناس: لا استعجال، لا شكوى، لا لوم، لا عنت، لا حرج، لا ادعاء، لا صدام، لا تبديل للخط، ولا ندم على الاختيار... ذلك أنَّ الله تعالى، بفضلٍ منه ومنَّة، بعثَ، ولا يزال يبعثُ، من الشباب الخلَف مَن يمدُّ اليد إلى حبلٍ هنا، أو إلى طرف خيطٍ هنالك؛ وإنَّ منهم لَمن أقنعك بضرورة رفع يدك كلية، فهو الصادق القوي الأمين، وهو الآن يحمل ما لم تحمل، ويتحمَّل ما لا تتحمَّل...
ولكنكم قوم تستعجلون...
لمثل هذه الأيدي المتوضئة أقول:
لا تنسوا إذ شددتم الحبل بإحكام أن تمدُّوا طرفا منه لمن معَكم، ولمن بعدكم، وليس أريح للمرء من وفيٍّ يسانده، ومن سخيٍّ يناصره؛ ولقد تصعب الأيام الأولى، ولقد تعود إليك الأيدي خاسئة حسيرة، ولقد تضعُف أصابع البعض حتى لتكاد تتكسَّر، ولقد يراوح البعضَ شكٌّ أو تردُّد... لكن، يقينًا، ثمة مَن يُنهي الشوط لصالح "حبل الله المتين"، وإلى جانب "الحق المبين"، ثابتا على "الصراط المستقيم"...
ولكنكم، قوم تستعجلون...
فنُّ التداول فنٌّ، لا هو بالعلم، ولا هو بالصنعة؛ والفنُّ في روحه حافظٌ للخصوصية، قابلٌ للتنوع، داعٍ إلى المحاولة، متقبِّل للخطأ، مصحِّح للمسار أوان المسير، مركِّز على المصير "نعمَ المصير"... ولذا فهو من أعظم نعمِ الله على العبد الواحد، وهو من أحسن رزق الله على التجمعات والمجتمعات... فمن خسره يكاد يحِّول يده حبلا، وحبله يدا... فيرسِّخ المتحرك، ويحرِّك الراسخ... ويرى الدنيا مقلوبة، ثم ينظر إلى الآخرة بعين بها حولٌ.
و"الحوَل طبيًّا" هو "عبارة عن حالة من عدم التوازن في حركة إنسان العين، بحيث تكون حركة العينين غير متوافقة مع بعضها البعض"، كما أنَّ "الحول حضاريـًّا" هو نوع من فقدان التوازن بين فكرٍ وحركة، أو بين فكر وفكر، أو بين حركة وحركة؛ بحيث تأتي النتيجةُ غير متوافقة، ولا تزيد في مخزون الحضارة إلاَّ "كمًّا" و"اسما" و"ظاهرا"...
فمن لم يصبر للتوازن تجرع غصص الحوَل، ومن لم يتحمَّل مدَّ اليد طواعية قبل قيد اليد كرها...
ولكنكم قوم تستعجلون...
-----------------
*عَرضه وعُرضه (بفتح العين أو ضمِّها)
"فنُّ التداول" هو الوجه الملوَّن الجميل لمفهوم "الجماعة العلمية"، وهو الإجراء الممكن "للمتَّحد العلميِّ"؛ ذلك أنــــَّه يتحوَّل من ممارسة صارمة للفكر، ومن رسميةٍ متأبِّية للبحث العلميِّ، إلى حالةٍ من السلاسة والإبداع والانبثاق، وإلى تحمُّلٍ رفيقٍ رحيمٍ لشيءٍ من ضعف المحيط، وإلى مرحليةٍ صابرةٍ واعيةٍ لبلوغ الغاية؛ فيما يمكن تسميته مع بعض التحوير: "حالة الفنِّ".
الحبل الذي تسلَّمته أمانةً ممن قبلي، مددتــُه مِرارًا ولعقود ثلاثة من الزمن إلى من معي ومن بعدي، فكنت كلَّما قبضت طرَفا من فكرٍ أو فعلٍ، ووصلتُ بعد حين إلى "استحالة" التفرُّد والانفراد؛ استدعيتُ الجمع والتجمُّع؛ إنْ في صيغة "أيامٍ مغلقة"، أو على صورة "مؤسَّسات بحثية"، و"حلقات درس وقراءة"، أو "مشاريع تربوية"، أو دعوة للباحثين والدارسين إلى اهتمام معيَّن، أو حتى على صورة سؤال ومقال، ورواية وكتاب...
فمثلا، في "أصول البرمجة الزمنية" فتحتُ كوَّة لمفهوم "الزمن الصبغة"، ذلك المفهوم الذي يقف صرحا شامخا أمام نظرية "الأزمنة المهيمنة"، ويحلُّ إشكالا كبيرا في واقع الحياة للإنسان المعاصر، وهو يتوهَّم "الانفصال والانفصام" بين الروح والمادة، بين الآني والغيبي، بين العلمي والديني... وكنتُ آمل يومَها أن يأتي مَن يطوِّر نظرية "الزمن الصبغة"، أو يفتح الله عليَّ فأشتغل بها؛ لكنَّ اليد الهزيلة، التي هي يدي، والحبل المتين الذي هو من حبل القرآن المتين، بقيت معلَّقة ولا تزال...
وقد استدعيتُ مرارا – ولا أزال – فكرة "القابلية للرشد" امتدادا لنظرية "القابلية للاستعمار" لدى مالك بن نبي؛ وكتبتُ فيها ما كتبتُ، ثم جاءت جزءا من نموذج الرشد، ومن المنظومة المعرفية الرشيدة؛ وأسهم بعض الإخوة باحتشام في النظر فيها، والانتصار لها؛ ولا يزال الحبل ممدودا، معلقا على يدٍ متعبة أعياها الانتظار...
وقلْ مثل ذلك عن تفسير القرآن الكريم، باعتماد "بذور الرشد"؛ وكذا عن "صورة الفتى" مدخَلا منهجيًّا، وعن الوعاء الحضاريِّ... جميعها خيوط ممدودة، على كثرتها لا تجد إلاَّ يدا واحدة أحيانا، ويدين اثنتين أو ثلاثة نادرا... فتبقى معلَّقة منتظرة متفائلة... إلى حين.
بين وجوب تواضع الباحث، ووجوب الصدع بالحقِّ، خطٌّ ذهبيٌّ رفيعٌ؛ لا يجده إلاَّ من أرهقه الكَلال، ومن أعياه طول التفكير وعرضُه*؛ وبخاصَّة إذا كانت البيئة موبوءة بثقل الماضي ومخلفات الحاضر وهموم المستقبل، وأخص منها إذا جاء الأمر من جهة من أنهكته الجراح المثخنة ولا وَثاق...
لكن، مهلاً، هل هذه شكوى وتذمُّر؟ على غرار ما اشتكاه ابن نبي في مذكراته، أو على نمط شكوى المسيري في مقدِّمات موسوعته، أو على شاكلة ما أنكره مهاتير في يومياته، أو من سنخ ما بكاه فتح الله بحثا عن الجيل الذهيِّ؟
لا وألف لا، إنما هي خاطرة هادئة يرسلها القلب للعقل، فتستقبلها الجوارح من عمق الضمير؛ لتذكِّر بالنعمة وتذكُرها، ولتقول للناس: لا استعجال، لا شكوى، لا لوم، لا عنت، لا حرج، لا ادعاء، لا صدام، لا تبديل للخط، ولا ندم على الاختيار... ذلك أنَّ الله تعالى، بفضلٍ منه ومنَّة، بعثَ، ولا يزال يبعثُ، من الشباب الخلَف مَن يمدُّ اليد إلى حبلٍ هنا، أو إلى طرف خيطٍ هنالك؛ وإنَّ منهم لَمن أقنعك بضرورة رفع يدك كلية، فهو الصادق القوي الأمين، وهو الآن يحمل ما لم تحمل، ويتحمَّل ما لا تتحمَّل...
ولكنكم قوم تستعجلون...
لمثل هذه الأيدي المتوضئة أقول:
لا تنسوا إذ شددتم الحبل بإحكام أن تمدُّوا طرفا منه لمن معَكم، ولمن بعدكم، وليس أريح للمرء من وفيٍّ يسانده، ومن سخيٍّ يناصره؛ ولقد تصعب الأيام الأولى، ولقد تعود إليك الأيدي خاسئة حسيرة، ولقد تضعُف أصابع البعض حتى لتكاد تتكسَّر، ولقد يراوح البعضَ شكٌّ أو تردُّد... لكن، يقينًا، ثمة مَن يُنهي الشوط لصالح "حبل الله المتين"، وإلى جانب "الحق المبين"، ثابتا على "الصراط المستقيم"...
ولكنكم، قوم تستعجلون...
فنُّ التداول فنٌّ، لا هو بالعلم، ولا هو بالصنعة؛ والفنُّ في روحه حافظٌ للخصوصية، قابلٌ للتنوع، داعٍ إلى المحاولة، متقبِّل للخطأ، مصحِّح للمسار أوان المسير، مركِّز على المصير "نعمَ المصير"... ولذا فهو من أعظم نعمِ الله على العبد الواحد، وهو من أحسن رزق الله على التجمعات والمجتمعات... فمن خسره يكاد يحِّول يده حبلا، وحبله يدا... فيرسِّخ المتحرك، ويحرِّك الراسخ... ويرى الدنيا مقلوبة، ثم ينظر إلى الآخرة بعين بها حولٌ.
و"الحوَل طبيًّا" هو "عبارة عن حالة من عدم التوازن في حركة إنسان العين، بحيث تكون حركة العينين غير متوافقة مع بعضها البعض"، كما أنَّ "الحول حضاريـًّا" هو نوع من فقدان التوازن بين فكرٍ وحركة، أو بين فكر وفكر، أو بين حركة وحركة؛ بحيث تأتي النتيجةُ غير متوافقة، ولا تزيد في مخزون الحضارة إلاَّ "كمًّا" و"اسما" و"ظاهرا"...
فمن لم يصبر للتوازن تجرع غصص الحوَل، ومن لم يتحمَّل مدَّ اليد طواعية قبل قيد اليد كرها...
ولكنكم قوم تستعجلون...
-----------------
*عَرضه وعُرضه (بفتح العين أو ضمِّها)
Published on April 16, 2016 06:56
•
Tags:
البحث-العلمي, التداول, الجماعة-العلمية
No comments have been added yet.