سِفْرُ الأَشْيَاءْ
سِفْرُ الأَشْيَاءْ
}-حديث الهيكل والحانة{-
تفاخرت الحانة –يومًا-والهيكل، قال الهيكل: بين جدراني يُعبَد الإله.
ردت الحانة: أنا أيضًا يعبد البشر بين جدراني آلهةً شتّي.
قال الهيكل: بين جدراني يهرب الناس من عالمهم الضيق إلي عوالم أرحب.
ردت الحانة: أنا أيضًا يلوذ بي البشر من عالمهم البائس.
قال الهيكل: لولاي لذبح البشر بعضهم البعض.
ردت الحانة: لولاي لذبح البشر أنفسهم.
قال الهيكل: حسنًا، قد يحيا الناس بلا حانة، لكنهم لا يحيون أبدًا بلا هيكل.
سكتت الحانة.
}-حديث العَيِّن والأشجار{-
قرب البئر القديمة، كان العَيِّن (الفزّاعة)-الذي غرسه جدي هناك منذ نصف قرن-يحاضر الأشجار في العبودية القسرية والعبودية الطوعية. كان يصرخ فيهن: يا حمقاوات، يا عقول القش، ما الذي يدعوكن للامتثال لهذا الفلاح الأحمق ؟! كيف ترضين بحياة كاملة في نفس البقعة، وأرض الله واسعة ؟!
أشجارنا –لأسبابٍ معقدة-لا يجدن الحديث ولا الجدل. غمغمن بكلام غير مفهوم، ثم ساد الصمت.
}-حديث المِطرقة والسندان{-
تشاكت المِطرقة والسندان بشأن ما حلَ بهن من كَبَد.
قالت المِطرقة: أنا أغدو وأروح، ثم قرأت: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.
صاح السندان: وأنا أتلقّي، ثم قرأ: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}.
انتبه المطروق من غفوته القصيرة بين الطرقات، ولوح مُغضَبًا بيديه: وأنا أذوق، ثم قرأ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}.
}-حديث المِئذنة والفنار{-
عند الساحل، مئذنة عتيقة وفنار حديث البناء.
استيقظت المئذنة من سباتها الطويل علي صوت صافرات الإنذار. الجنرال المجنون ذبح عائلته وأمر كلابه بإحراق المدينة. لكن لا هذا ولا ذاك شغل المئذنة كما شغلها الفنار الجديد الذي احتلّ -دون أن تشعر-ناصية البحر أمامها، فحجب عنها الرؤية.
صاحت به: هيه، أنت يا ولد، تنحي جانبًا، لا أري البحر من هنا.
أجابها الفنار وقد كان يافعًا خبيث اللسان: وهل ما زلتِ تبصرين أيتها العجوز الخَرِفَة ؟!.
قالت: نعم، وأهشم عظامك أيضًا إن لم تتأدب مع من هم أسنّ منك وأجلّ قدرًا.
قال: أما أسنّ فنعم، وأما أجل قدرًا فكيف ؟!. أنا هنا لأضيء الطريق للفارِّين من هذا الجحيم، أما أنت فلا تفعلين شيئًا إلا قراءة الأوراد وإحراق العود.
قالت: لا أحد ينتبه لك إلا ليلًا. حتى حين يدهمهم الموت، فلا أحد ينتبه لك. ساعتها، يكون آخر عهدهم بالدنيا نظرةٌ مبتلّةٌ نحوي أنا، لا أنت.
قال: أرأيتِ؟ لا كرامة لكِ في معيشتهم، ما أنت إلا طقس من طقوس فنائهم، يتمسحون بِك لينفضوا الإله من رأسهم.
همَّت المئذنة بالردّ لكن طائرات الحرب كانت قد اخترقت سماء المدينة لتلاحق الفارّين نحو البحر. لم يميز الجنود المئذنة من الفنار فقصفوهما معًا. لا فرق بينهما من أعلى على أي حال …!
}-حديث اللُّقَطَة والمهملات{-
في زقاق قذر، سقطت لُقَطَة من جيب سكير خارج باب الحانة. انتظرته طويلًا كي ينتبه ويلتقطها إلا أنه لم يفعل، مضي إلي بيته مترنحًا وقنينة الخمر لا تفارق فمه. بعد أن آيست منه، شرعت في انتظار بشري آخر يعثر عليها فيلتقطها.
نظرت حولها تستكشف الموجودات فإذا بها محاطةٌ بالمهملات. انتابتها الرهبة في البداية، لم تعتد هي هذه المواضع المريبة، لم تعتد إلا حافظات البشر وأسطح مكاتبهم. كي تخفي رهبتها، شرعت تتفاخر على المهملات وترميها بأقذع الأوصاف. قالت فيما قالت: أنا الباقية وأنتن الفانيات. أنا خُلِقتُ للقصور وخُلِقتن أنتن للأزقّة. أنا أحمل رقمًا وختمًا وشعارًا أما أنتن فلقيطات بنات زنا. يتصارع البشر ليتحصّلوا علي، أما أنتن فلا كرامة لإحداكن، يلقونكن بلا اكتراث.
المهملات ضعيفات العقول، سرعان ما آمنّ بفضلها عليهن فألبسنها لِباس الإله. أقمن حولها قصرًا من سراب وسبحن بحمدها وقدّسنها. في صباح ذات الليلة، هطل المطر كثيفًا، فجرفت المياه اللُّقَطَة والمهملات جميعًا إلى فتحة المجرور.
}-حديث ندفة الثلج وذرة الغبار{-
ضرب الصقيع الواحة تلك الليلة، فجادت السماء بالبَرَد.
تهاوت صخرة عظيمة من الجبل فتطاير الغبار إلي السماء.
حلَّقَت إحدى ذرات الغبار جذلةً إلى السماء. تجسّمت أحلامها بعد صبر فقد تخلصت من صحبة الحصى وشبيهاتها من حبات الرمل الثرثارات.
بين السماء والأرض، التقت بندفة ثلج ساقطة ترتجف خوفًا. أنستها الندفة نشوةَ الخلاص، فاحتضنتها كي تسكن وهبطت معها ثانيةً إلى الأرض، تهدهدها وتختلس النظرات إلى حُسنها.
في الصباح، ذابت ندفة الثلج فعادت ذرة الغبار إلى كآبتها ووحدتها بين شبيهاتها اللاتي لا يحصين. تنظر حولها ثم تتنهد: لا بأس، لا بأس، كنت فريدةً لليلة واحدة. بعضهم لا تتهيأ له مثل هذه البهجة الدهر كله.
}-حديث الذئب والكلب والحَمَل{-
اختلف الحَمَل وكلب الراعي في مسألة من مسائل الفلاسفة، فانطلقا إلى الذئب العجوز في كهفه يختصمان. اعتدل الذئب في جلسته، وقال: حسنًا، للكلب النهار بتمامه، يعرض على حجته ومنطقه، وأما الحمل فله الليلة بكاملها، يفعل فيها المثل. في الصباح أخبركما بمن على هدي ومن هو في ضلال مبين.
أمضي نهاره يجادل الكلب، وأمضي ليلته مع الحَمَل. في الصباح، أتاه كلب الراعي فأخبره أنه علي حق وأن الحَمَل على باطل. انطلق الكلب جذلًا، ثم عاد له بعد برهة يسأله عن الحَمَل، أين اختفي؟! قال الذئب: أخبرته ليلًا أنه على باطل وأطلعته على الحقيقة. هو لم يبلغ من الحكمة ما بلغتَ، فلم يتحمل الحقيقة عاريةً، وتلاشي!
}-حديث أحجار القِرميد السبعة{-
سبعة أحجار قرميد في حائط عتيق موشك على السقوط.
قال الحجر الأعلى: انصتوا، انصتوا. منذ قليل سمعت صاحب الأرض يحادث البنائين، فهمت أنهم سيهدمون كل الجدران القديمة هنا ويعيدون استخدام ما يصلح من الأخشاب وأحجار القرميد لعجز في مواد البناء. بعد طول صبر، سأخرج من هذا الحائط القذر. ربما أكون حجرًا في ناطحة سحاب يومًا ما فأري الشمس.
قال الحجر الأسفل: مرحي، مرحي. أنا أيضًا أرجو أن أكون حجرًا في حانة. أتطلَّع إلى الشقراوات يتراقصن.
قال الحجر الأيمن: لا تعرف إلا ملذَّاتك. لا عجب إذن من كونك أسفلنا. أما أنا فأرجو أن أكون حجرًا في محراب.
قال الحجر الأيسر: تخرج من جدار عتيق مهمل إلى محراب؟ ألا تمل الصمت؟ أنا أرجو أن أكون جدارًا في مصنع لا تكف آلاته عن الضجيج أبدًا.
قال الحجر الأمامي: أين أنتم من الأمجاد يا قوم؟ أنا أرجو أن أكون حجرًا في برج الحصن، فأدفع الأعادي عن الديار.
قال الحجر الخلفي: لا شأن لي بأمجادك، أنا أرجو أن أكون حجرًا في حديقة المدينة، فيجتمع لي الخضرة والماء والوجه الحسن.
حين مللن الثرثرة، نظرت الأحجار الست إلى أخيهن الأصغر الساذج في المنتصف وقلن: وأنت يا أبله؟ أين ترجو أن تكون غدًا؟
قال الحجر الأوسط: أما أنا فلا أرجو شيئًا في دنياي إلا أن تدوم رفقتنا، لا أدري كيف سأنجو إن خرجت من هذا الدفء هنا.
امتعضت الأحجار الست ورمينه بالسَّفَه وضعف العقل.
صباح اليوم التالي، جاء الرجال فهدموا الجدار وأعادوا تفكيك أخشابه وأحجاره. تم لهم الأمر، إلا كتلة من سبعة أحجار لم يستطيعوا تفكيكها فألقوها البئر القديمة.
}-حديث النور والظلمة{-
في البدء كان النور سرمديًا. حتى جاء الظلام فاقتطع من اليوم نصفه عدوانًا وظلما، وسماه: الليل. ساجله النور الحرب سنينًا طِوال حتى أُنهِك كليهما، فقنعا بما تحصَّلا عليه. مع هذا، تراودهما أحلام الكمال دائمًا، فيتناوشان ليستنزفا بعضهما البعض. يصفع النورٌ الظلامَ ليلًا بالنجوم والكواكب. فيرد الظلام له الصاع نهارًا بالظِلال.
}-حديث الشمس والقمر{-
تهيم الشمس بالقمر سرًا، لا تصارحه بعشقها له. هو أيضًا خجول للغاية، حتى أنه يقتبس من نورها خِلسة. لكنها تحتال دائما للوصل، تمنع عنه زاده من النور يومًا بعد آخر حتى تتداخل أضلاعه فيمسي محاقًا ثم يوشك على الموت جوعًا. حينها تدركه هي بقبلة الحياة فتعود إليه عافيته على مَهَل، حتى يصبح بدرًا.
تصبر الشمس شهرًا كاملًا في كل مرة نظير قبلة واحدة.
}-حديث السخط{-
“لماذا تركوني مضاءً ؟!”، قال المصباح نهارًا.
“لماذا تركوني مظلمًا ؟!”، قال المحراب المهجور.
“لماذا تركوني فارغًا ؟!”، قال إناء اليتيم الجائع.
“لماذا تركوني طافحةً ؟!”، قالت ذاكرة الأم الثكلى.
“لماذا تركوني ممزقة ؟!”، قالت دمية الطفلة القتيلة.
“لماذا تركوني مكتملًا ؟!”، قال طعام الصائمين الذين عاجلتهم القذيفة.
“لماذا تركوني وحيدًا ؟!”، قال معطف الشيخ في دار المسنين.
“لماذا لا يتركونني وحيدةً ؟!”، قالت عصا الفيلسوف.
}-حديث الغراب والسنونوات{-
بساق واحدة وعين عمياء وريش خفيف ولسان سليط، حلّق الغراب العجوز بعناء نحو الغابة ليجد ما يقيم به صلبه بعد أن خلّفه سربه. على مشارف الغابة، صادف السنونوات يثرثرن ويغردن بلا انقطاع. لمّا رأينه تضاحكن ولمزنه بعرجه وعوره. أما هو فرماهن بضعف العقل والجهل. تقول سنونوة: قبّح الله عورك.
يقول الغراب: ذهبت عيني من كثرة ما طالعت من أسفار، هل قرأتِ شيئًا من الفلسفة يا فارغة العقل؟!
تقول هي: لا. خبِّرنا أنت عما قرأت.
يقول: صه، لا شأن للبلهاوات أمثالك بذلك.
تقول سنونوة ثانية: قبَّح الله عرجك.
يقول: ذهبت ساقي مما عاجلته من أمجاد وما عالجته من أهوال. هل ذقتِ طعم المجد قبلًا يا ساقطة الهمّة.
تقول: لا. ما وصف الأهوال التي خضتها؟
يقول: صه، لا شأن للسفيهات أمثالك بها.
تقول سنونة ثالثة: ما أقبح ريشك وما أندره.
يقول الغراب: تصدقت به على كل ذي حاجة من الطيور. هل بلغت من الجود هذا الحد يا شحيحة.
تقول: لا. على من تصدقت بريشك؟
يقول: صه، لا شأن للحمقاوات أمثالك بهذا.
بعد سِجال طويل، خلعت السنونوة الكبرى عباءة الزعامة على الغراب. لم تقرأ هي كما قرأ، ولم تَجُد ولم تصارع الأهوال.
مر سرب الحمام بالسنونوات فرأين الغرب وقد تزعّم السنونوات. ضحكن كثيرًا ورمينهن بالسفه. اتكأ الغراب على عرشه بينما شرعت السنونوات في تعديد فضائله ورجم الحمامات بالسفه والحمق والبَلَه. حتى إذا ما خلعت الحمامات على الغراب رداء المُلك، مرت بهن البجعات في طريقهن للبحيرة فجري بينهن وبين الحمامات ما جري بين الحمام والسنونوات.
قرب المغيب، جاءت الأسود والأفيال لتتلو قسم الولاء لزعيم الدغل الجديد. لم يره أحد من قبل، لم يسمع عنه أحد، لكن الجميع يلقبونه ب”السيد”. لا بد أن سببًا وجيهًا يكمن هنا على أي حال. لا يُتَصَوَّر عقلًا أن يكون الجميع علي باطل.
}-حديث الخبر والمجاز{-
“الحقيقة” و”المجاز” أخوان. ولدت الأولي لأبيها “البيان” من زوجته الأولي البدوية فنشأت صارمة قاسية كصحرائها. أما الثاني فولد من زوجة “البيان” الثانية الحَضَرية، فنشأ خليعًا لاهيًا بين الحدائق والمياه الجارية.
هام بالحقيقة الفلاسفة والمتكلمون. وهام بالمجاز الشعراء والنساء. فاشتعلت الضغائن.
في الحياة الأولي، ذبحت الحقيقة أخيها في ضجعته، ثم أحالت الأرض مدينةً أفلاطونية مترامية الأطراف.
في الحياة الثانية، سمَّم المجاز أخته الكبرى، ثم أعاد تعمير المدينة بقصور الحلوى وزينها بالقصائد ورصّعها بالترانيم.
في الحياة الثالثة، أصابهما الإعياء، فخطّا صلحا مؤقتًا. فكانت مدننا كما هي الآن.
}-حديث حبة اللوز وحبة العنب{-
حبة اللوز التي تفاخرت علي حبة العنب بصلابتها وبأسها، ورَمَت الأخيرة بالميوعة والترف، التقها ثانيةً بعد المرور بالمعصرة. صارت هي زيتًا، أما الأخرى فكانت خمرا.
}-حديث القطة العجوز{-
تقول القطة العجوز: هذا الآدمي الأحمق عجيب. ضخم الجثة فارغ العقل. ولأني أحكم منه فقد استعبدته. أصرخ فيه فيهرول ليحضر لي الطعام والشراب. أتكئ علي أريكتي، فيقترب مني مطأطئ الرأس كالعبد ليمسّد ظهري ويربت عليه. يداه قذرتان، ما أن يرفعهما عني حتي أشرع في لعق فروي لأزيل قذاراته. يتلعثم في الحديث، فأعيد عليه موائي الفصيح علّه يتعلم النطق، لكنه لا يفعل. لا يحتمل فراقي كصغاري الرُضَّع، فأتفضل عليه وأبقيه في منزلي.
}-حديث كأس الخمر وسجادة الصلاة{-
سقطت كأس الخمر القديمة، المُهمَلَة في كوة الحائط، علي السجادة التي يصلي عليها السِكِّير التائب فأحرقتها.
سقطت سجادة الصلاة العتيقة، المهملة في كوة الحائط، علي كأس الناسك المُنتَكِس فأطفأتها.
هرع الناسك والسكير فَزِعَيْن إلي قارعة الطريق، تبادلا النظرات البلهاء، ثم عاد كلاهما إلي ما يحسنه. الناسك إلي محرابه، والسكير إلي حانته.
}-حديث ورقتي التوت{-
علي غصن شجرة التوت العتيقة، وُلِدَت ورقتان في الربيع. نشأتا معا، تشمّمتا رائحة الغابة، واحتضنتا الفراشات. جاء الصيف فعالجا مراهقتهما الفتيّة، تعاهدا علي الوصل حتي الموت. تجادلا وتسابّا وتحابا وتعانقا. في الخريف، أصابهما الهرم فجأة، ثم جاءت العاصفة فنزعتهما. أما الورقة الأولي فهي الآن في عش عصفور، يحتمي بها من الصقيع. وأما الثانية فقد انزلقت عليها دراجة صبي فتحطم عنقه.


