وَصَايا الدَّرْويشِ المَخْمُورِ لِلْفَتَي الأَبْلَهْ

وَصَايا الدَّرْويشِ المَخْمُورِ لِلْفَتَي الأَبْلَهْ


50



حين قصدتُ الحانة بحثًا عن أخي الأكبر السِكِّير، لم يكن هو هناك. كان ذاك الشيخ مستندًا بمرفقيه على الطاولة المقابلة للساقي. والكؤوس الفارغة متناثرة أمامه.


لم أجد مقعدًا آخر فارغ، فاضطررت للجلوس على المقعد الملاصق له.


اتململ، أراقب حركة عقارب ساعة الحانة، أضبط ياقة قميصي، أعبث ببقايا السجائر المطفأة أمامي. أين ذهب أخي الملعون هذه الليلة ؟!


– ما اسمك ؟، قال الشيخ.


قلت: “فلان”.


سكت هنيهة، فظننت الحديث انتهي عند هذه الحد، واختلست نظرة أخري لساعة الحائط. كانت قد زحفت لدقيقتين فقط. ما أشد رتابة الوقت هنا.


هنا.


هنا.


هنا بدأ الشيخ يتمتم بصوت خافت كمن يحدث نفسه. ثم ارتفع صوته شيئًا فشيئا. تحدث بوقار، أنكرتُه على سكير، وبلا انقطاع. تحدث كثيرًا كمن سيموت غدًا، كمن انقطع بَكَمُه القديم فجأة، كمن لم يرَ بشريًا من قبل.


ضِقتُ بحديثه في البداية، ثم تسلّيت به حتى مجيء أخي. ثم نسيت أخي وشأنه وانخرطت معه.


كنت حدثًا أبلهًا يومها، فعرَّفت أشياءً مما قال وأنكرت أشياء.


حَفِظتُ أشياءً ونسيت أشياء.


لكني لم أنسَ شيئين قط: أني عدت ليلتها من الحانة بوجهٍ غير الذي ذهبت به، وأنه قد بدأ حديثه ب”تعزّز” وأنهاه ب”مِحجريك”.



 


قال لي: تعزّز، لا تكن في متناول الأيدي، لا تفقد سرّك الأعظم في الزحام.


***


قال لي: لا تمر بالمقابر دون أن تدعو لأهلها، لا تمر بظالم دون أن تبصق في وجهه، لا تمر بامرأة دون أن تخبرها أنها حسناء.


***


قال لي: تمتع بتفردك، ليس مثلك أحد. الله لا يخلق القوالب، البشر يفعلون.


***


قال لي: كل إيمان يلزمه كفر سابق له.


***


قال لي: فِر من “المُتَعَالِم” فرارك من الأسد.


***


قال لي: إنما استعبدك بعلمه وجهلك، فإن ادعيت كمال العلم فقد ادعيت الألوهية.


***


قال لي: لا تبرح حتى تبلغ.


***


قال لي: كل سائر سيصل ولو بعد حين.


***


قال لي: طالبك بالسير، لم يطالبك بالبلوغ.


***


قال لي: احرس عزلتك. دلِّل غرابتك.


***


قال لي: تلذّذ بالألم كما تتلذّذ بالبهجة.


***


قال لي: حين تستيقظ، امض خمس دقائق في استشعار روعة كونك لا زلت حيًا. قبل أن تنام امض خمس دقائق في إقناع نفسك أنها قد لا تستيقظ.


***


قال لي: احتقر نفسك حين تبصر عرج الساق ولا تبصر عرج الروح.


***


قال لي: لا تحتقر أحدًا. كيف يحقر مخلوق من عظَّم الله خلقه ؟!


***


قال لي: مع العمر، تجرع من الجُبْن وسفالة الهمّة أكثر مما تجرع من الحكمة. اعمل لهذا.


***


قال لي: ما يحركك هو جهلك. لو بلغت كمال العلم لقعدت.


***


قال لي: كُتِب على ابن حظه من الثرثرة، مدركٌ ذلك لا محالة. فهو ثرثار اللسان أو ثرثار النفس أو ثرثار العقل.


***


قال لي: الموت لا يطرق أبوابنا، وإنما هو صاحب الدار ونحن ضيوفه. نمكث ساعةً ونغادر.


***


قال لي: دع شكك يقتات على يقينك. سينبتُ لك يقينًا أرسخ، أصله ثابت وفرعه في السماء.


***


قال لي: الدنيا قد تُدرَك بالجهل كما تدرك بالعلم. أما الآخرة فلا تُدرَك إلا بالعلم.


***


قال لي: أنا لست بأعلم منك. أنا –فقط- أبرع منك في درء جهلي.


***


قال لي: حين تسقط الفكرة يصعد الصنم. حين يسقط الصنم يصعد صنم آخر. لابد من فكرة جديدة لكسر حلقة الأصنام.


***


قال لي: أنت مطالب أبدًا بالبحث عن الحقيقة، أو بالأحرى استكشاف أكبر قدر من جوانبها. أن يكون خصمك على باطل فهذا لا يعني بالضرورة أنك علي الحق. يحدث أن يتصارع باطلان.


***


قال لي: من علمني الشك هو عينه من ألهمني اليقين.


***


قال لي: لك مني درهم لكل فكرة متصابية تلهو في رأسك. كم ستبلغ ثروتك؟


***


قال لي: إكرام الفكرة الإفصاح عنها.


***


قال لي: الفكرة عزيزة كالعذراء في خدرها. لن تقربها حتى تدفع مهرها من العزلة.


***


قال لي: شطر الحكمة في الكتب. شطرها الآخر في العزلة.


***


قال لي: تلصص على أفكارك كما كنت تتلصص على فتيات القرية وهن يستحممن عرايا في النبع.


***


قال لي: أنت تعرف عن الآخرين أكثر مما تعرفه عن نفسك.


***


قال لي: تفقد الجنة من معناها في غياب الجحيم أكثر مما يفقده الجحيم في غياب الجنة.


***


قال لي: ليس العالم سوي مجموعة لا متناهية من الأوهام والالتباسات والاستحالات. لا أحد يفهم شيئًا. لا أحد يكف عن ادعاء الفهم.


***


قال لي: محاولتك لضبط مصيرك طفولية وبائسة للغاية.


***


قال لي: أنت أحمق. لا تحاول ضبط ما لا ينضبط. تمتع بالأشياء على اعوجاجها.


***


قال لي: ما تظنه أنت حقائق هو انطباعات. الحقائق نادرة هنا ندرة الشياطين في الفردوس.


***


قال لي: عقلك يعجز عن إدراك عجزه. كيف تريد له أن يحيط بما هو بمُطلَق أو سرمدي؟


***


قلت: صِف لي الدنيا وأوجز.


قال: غادة حسناء بيدها كلاشينكوف، تطلب رأسك.


***


قال لي: خفاء المعني عنك لا يعني انعدامه.


***


قال لي: لم أوقِّر يومًأ من لا يفهم المجاز.


***


قال لي: تمسّك بمسافاتك. كل الأشياء قبيحة عن قرب.


***


قال لي: لستَ بقدر ما تريد. بل أنت بقدر ما زهدت فيه. هذا إن عرفت كيف تفرق بين ما زهدت فيه وما عجزت عنه.


***


قال لي: شيّبني انشغالي بما خفي عما ظهر، وبما لم يقال عما قيل.


***


قال أخرج الأعاصير من رأسك وإلا أهلكتك.


قلت: كيف وقد أمرتني بإطالة الصمت؟


قال: أما تملك غير لسانك تنطق به؟


***


قال لي: القناعة فناء. لا تقنع أبدًا، إن تيقنت شرف ما تسعي إليه.


***


قال لي: كيف يكون زاهدّا من لم يزق طعم الغواية؟ فيم زهد إذًا؟


***


قال لي: لا تتهيب الرجال. كيف يفتض بكارة الأفكار من يتهيب الرجال؟


***


قال لي: أكره أن أري محرومًا: امرأة بلا عائل، سِفر بلا قارئ. طاغية بلا ثائر يطأه بنعله.


***


قال لي: لم أبغض شيئًا بعد الظلم مثل الوفرة. كل مكرر ومتاح منزوع المعني.


***


قال لي: الحياة قصيرة. قصيرة للغاية. أقصر من أن تحياها بشروط غيرك.


***


قال لي: “النساء” و”الثورات” و”الأفكار” أسماء مختلفة لنفس الشيء.


***


قال لي: كل النساء جميلات. هن –فقط- لا يعرفن هذا.


***


قال لي: أما تري الصائم يذوق الطعام بطرف لسانه ويمجَّه. أحبب أنت بطرف قلبك وانبذ. لا تحشو قلبك بعابرٍ فيضيق المقام بطويل الصحبة.


***


قال لي: آوِ إلي كهفك.


قلت: لا أملك واحدا.


قال: بل تملك. لم يفارقك طرفة عين. تحمله في صدرك.


***


قال لي: متّع عقلك.


قلت: عدد لي.


قال: نزع المعني عن المعني، جمع الأضداد، الإيمان بعد الكفر، الكفر بعد الإيمان، احتلال الأطراف، السكون حين الهرج، تكدير الساكن، تعرية المستتر، الانتظار بلا أمل، قلب الطاولات، التحرّش بالمقدس، تقديس المنسي، ملاعبة الزمن، التحليق نحو الشمس.


قلت: زدني.


قال: دونك الكون ونفسك. فيهما فابحث.


***


قال لي: يا مسكين. سلخ جلدك عن اللحم أهون من نزع هواك عن العمل.


***


قال لي: لن تبلغ صحبتك لهم –وإن طالت- معشار صحبتك لنفسك. فابذل لكلٍ ما يليق بأمد صحبته.


***


قال لي: تخير عدوك قبل رفيقك. بالأول يُعرَف قدرك.


***


قال لي: لا تسلك دربًا تعرف منتهاه. لا تصحب من الناس من تعرف مبتدأه وخبره.


***


قال لي: لا يلهيك العمل عن العامل. لا يلهيك العامل عن المعمول له.


***


قال لي: لا تفرح لعابر. لا تحزن لعابر.


قلت: كل الأشياء هنا عابرة.


قال: هذا ما أردت.


***


قلت: أليست التخلية قبل التحلية كما يقولون؟


قال: لا، بل التحلية مع التخلية. زاحم الباطل بالحق ينجلي. وعاؤك لا يفرغ أبدًا.


***


قال لي: أنت في الناس رأس أو زيل.


قلت: أليس في الناس أواسط؟


قال: لا، كل من ليس برأس فهو زيل.


***


قال لي: في موقف العلم، تصل الأشياء، السبب بالمسبِّب. في موقف الخيال، تعود لما وصلت فتقطع.


***


قال لي: فر من يتيم المعني إلى ما تعددت معانيه.


***


قال لي: لا تلتفت. لا تعزم حتى تطمئن، فإن اطمأننت فحرِّق سفنك.


***


قال لي: ما الأقفاص الضيقة أخشى عليك، لكن الواسعة. لا تلهيك رحابة السجن وزينته عن تحطيمه متي استطعت إلى ذلك سبيلا.


***


قال لي: لا تقترب فتظهر التشوهات. لا تتمادي في الابتعاد فتنطس المعالم.


***


قال لي: ليس أحمق ممن يتحرى مواضع أقدام الآخرين فيخطو فيها إلا ذاك الذي ينتظر من الآخرين أن يتحروا مواقع قدمه.


***


قال لي: كما تكون يكون إلهك. كما يكون إلهك تكون.


***


قال لي: الذين يتعشّقون الدنيا وينفرون من الموت، الذين يلعنون الدنيا وينتظرون الموت، كلهم علي حق.


***


قال لي: تصيَّد النواميس.


***


قال لي: شأن الآخرين مع الخاطر كشأن الذباب مع الطعام. احفظ الفكرة بالخلوة وطول النظر.


***


قال لي: لا تجالس المتنطعين. لا تجالس من يجعجع ولا يطحن. لا تجالس من ينظر فلا يبصر جهله وعوزه وضعفه كما يبصر علمه وماله وفتوته.


***


قال لي: هي منفانا الأعظم. متي توطنت حتى تشكو الاغتراب؟


***


قال لي: لا تنشغل بموطئ قدمك عن غاية دربك فتضل. لا تنشغل بغاية دربك عن موطئ قدمك فتتعثَّر.


***


قال لي: من كفر لقبحٍ مستشرٍ فلا تُغِثه بكلام أو فلسفات، بل انضح الجمال علي وجهه.


***


قال لي: كل الأشياء تثرثر. فقط، أنصت.


***


قال لي: لا تشرح فتفسد المعني الكامن. كالمرأة، تتبرج لتبرز حسنها فتطمسه من حيث لا تدري.


***


قال لي: المعني في رأس المُتلقِّي أوسع وأبهي منه في صدر الشاعر.


***


قال لي: كالمرأة، لا أحد يحتمل الحقيقة عارية. لا بد من بعض القماش هنا وهناك كي يتبقّى شيء للخيال.


***


قال لي: لا أحد يسعه إناؤه. كلنا نطفح. بعضنا يطفح بقصيدة، لوحة، سوناتا، ….

بعضنا الآخر يطفح بسُبَّة، سوط، رصاصة، ……


***


قال لي: أحمق أنت إن كنت تنتظر آخرًا لكي يقرر لك ما إن كان الوضع سوداويًا فتقعد، أم ثمَّة آمال فتسعي.


***


قال لي: تغنيك المعاني عن غياب الصور، ولا تغنيك التصاوير عن غياب المعني. فإن جمعت فبها ورحبت، وإلا فاستغنِ بما يغني.


***


قال لي: تجنب المرايا لا يمنع التجاعيد من الزحف في ملامحك.


***


قال لي: من الحمق أن تري الشيخ الهَرِم والغلام، فتتوهَّم أن الموت أقرب لأحدهما من الآخر.


***


قال لي: تحصيل اللذات -كشرب ماء البحر- دائمًا ما يصحبه ألم يفوق ألم فوات هذه اللذات.


***


قال لي: آلامك مجتمعة لا تقارب آلام الحِكَّة في ظهر أبتر اليدين.


***


قال لي: الحياة تحتاج –أكثر من الفهم الكامل- إلى نصف الفهم لتستمر.


***


قال لي: لا تجهل القواعد فتعيد تلفيق العجلة. لا تُغرِق في تعلم القواعد فلا تجد وقتًا لخرقها.


***


قال لي: كمال الفهم: الصمت.


***


قال لي: خير ما تجود به على غيرك: الصمت وكف الأذى.


***


قال لي: لكل طريقٍ زاده. اعرف الطريق، تعرف الزاد.


***


قال لي: لا تعميك ظواهر الأشياء عن بواطنها.


***


قال لي: حديث المحبين: الإشارة.


***


قال لي: الأفكار حرائر .. الكلمات جواري.


***


قال لي: ليس الدرهم في جيب الغني كدرهمٍ في كف الفقير.


***


قال لي: أنت أبعد من “أي شيء” بقدر قربك من الآخرين.


***


قال لي: حديثُ الآخرين تأنس به، لا تعمل به. لا أحد يعرف ما هو خيرٌ لك وما هو شر إلّاك.


***


قال لي: كل الجروح تندمل. كل الأجساد تشيخ. كل الأشياء يخمد نورها. كل شيء إلى زوال. ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام.


***


قال لي: لم أندم على شيء ندمي على امرأةٍ عرضت على فؤادها، فتعذّرت بشواغل الحياة.


***


قال لي: الطريق طويل. ونفسك ملول ومتفلّتة، فسُسها.


***


قال لي: تعرَّض لنسمات الفجر، ونفحاته.


***


قال لي: تموت حين تتوقف عن طرح الأسئلة. الأسئلة قابعة هناك في الظلام تنتظر، وأما الإجابات فمنثورة في الكون وفيك.


***


قال لي: ليلة، يكون قيامك ثلثيها تفريط ومعصية. ليلة أخري يكون تشبثك بالتوحيد فيها –فقط- خيرٌ من صيام الدهر كله وقيامه.


هرول يومًا، واحبُ يومًا آخر. لكن لا تتوقف.


***


قال لي: لا تقنط. الفتوحات تأتيك في الظُلمة كما تأتيك في الأنوار.


***


قال لي: امتصّ لياليك حتى الثمالة. لا تعود لياليك ولو فعلت وفعلت.


***


قال لي: للنسّاك طاعة الخوف. وللعارفين المعرفة. وكل الطرق –لمن شاء لهم الهداية- تؤدي إليه.


***


قال لي: تعرّف علي الله في وجوه المومسات كما تعرفه في وجوه الصالحين.


***


قال لي: ابكِ على خطيئتك ولا تسكنها رأسك.


***


قال لي: جالس الأطفال والمجاذيب والعجائز. يلقون الحكمة كما لا يفعل الفلاسفة.


***


قال لي: الحياة لا تعدل. الله يفعل.


***


قال لي: تذوق الطعوم الحادة، احتل الأطراف، تمدّد يومًا على السفح ويومًا أعلي الجبل، تعرف كُنْه الأواسط.


***


قال لي: ضائعون، نحن، بين ما نبحث عنه، وما يبحث عنا.


***


قال لي: الإطناب ترف. الاختزال أقرب إلى الكمال.


لو أستطيع قول كل شيء في كلمة أو كلمتين لفعلت.


***


قال لي: كل النساء فاتنات في ديار الحرب. المياه بعد العطش أسكر من الخمر.


***


قال لي: لا تقدر على خداع أحد كما تفعل مع نفسك.


***


قال لي: لا تعتاد الأشياء، فتعمي عن فتنتها.


***


قال لي: قصيدة لشاعر خليع قد تعظك كما لا تفعل موعظة بليغة. ازدرد الحكمة ولا تسأل عن صاحبها.


***


قال لي: لا يعرف قدر الموت إلا من أحب الحياة بصدق. ومن لا يتعشّق الدنيا فهو أحمق.


***


قال لي: لاعب الدنيا واحذرها، كما تضاجع امرأة قتلتَ زوجها الأول.


***


قال لي: كل معتَّق مُسكِر.


***


قال لي: لن تتمتَّع بشيء حتى تفض بكارته. كل البدايات مؤلمة.


***


قال لي: لا يلهيك ما يتوجَّب عليك فعله عما تحسن فعله. الأول كأكل الميتة. الآخر كما أُحِلَّ من الطيبات.


***


قال لي: قليل من يفارق القطيع الدافئ المنتن الرائحة، ليسبح في الصقيع العَطِر وحده.


***


قال لي: إن كنت تري الأشياء اليوم كما رأيتها بالأمس، فاقرأ على روحك السلام.


قلت: أخاف أن أبحر إلى الحد الذي لا أقدر عنده على العودة.


قال: بل أبحر، اليم يرهبك كما ترهبه.


***


قال لي: الموت لا يعني لنا شيئًا. يعنينا –فقط-ما قبله وما بعده.


***


قال لي: كل الأفعال مبررة، إن رأيتها بأعين فاعليها.


***


قال لي: ابتلع المباهج على عَجَل، اجترّها على مَهَل. دخّنها على عَجَل، انفثها على مَهَل.


***


قال لي: لن تصل حتى تحترق.


***


قال لي: التصريح سُبَّة في عُرف المحبين، كتنقيط الرسائل عند قدامي العرب.


***


قال لي: ابحث. لا تتوقف عن البحث، حتى إن جهلت ما تبحث عنه.


***


قال لي: ديمومة المحبة الخافتة خيرٌ من انقطاع المحبة المُسكِرة.


***


قال لي: اسأل المرأة عن عمرها، ولا تسألها عن فتاها الأول.


إن صارحتك ستندم على السؤال.


وإن لم تصارحك، ستحترق فضولًا.


***


قال لي: لا تُقَدَّم المُقَبِّلات بوفرة إلا مع رديء الطعام.


***


قال لي: لا تطالب أحدهم بالتحليق حتى تنزع القيود عن قدميه.


***


قال لي: لا تنبذ خبز اليوم تحرّقًا لكعك الغد.


***


قال لي: نَمْ في حِجْر أمك بين الحين والآخر. لا تنس أنك طفلها. إنك إن نسيت فهي لا تفعل.


***


قال لي: الدنيا تعرِّيك اليوم، وتلبسك سبعة أثواب غدًا، ثم تنزعها عنك بعد غد.


لو دامت على حال لقتلتنا مللًا قبل أن توافينا بالأجل.


***


قال لي: متي تحدثت إلى الدجاجات لآخر مرة ؟!


كيف انتهي آخر جدل بينك وقطط الشوارع ؟!


أيكم أقنع الآخر ؟!


لماذا لا تسابق السنونوات بين الحين والآخر ؟!


***


قال لي: غض بصرك عن جارتك الحسناء، والق إليها قصائد الغزل منزوعة التوقيع خِلسةً في شرفتها.


***


قال لي: لا يزركش صورته إلا فقير الباطن.


***


قال لي: كل الرجال أطفال. كل النساء أمهات.


***


قال لي: لا تنتظر إلا ما لا بد من انتظاره، وإلا فبادر.


***


قال لي: لتنسي شيئًا ما: تجنّبه تمامًا أو أغرق نفسك فيه.


***


قال لي: الجثة صلبة. الروح سائلة.


لا تقيد الأخرى بقيود الأخرى بقيود الأولي.


***


قال لي: اخلع الساعات من معصمك، واحملها في صدرك.


***


قال لي: اجمع حطامك، وأعد بناءك.


لا أحد سيفعل هذا إن لم تفعل.


***


قال لي: تخفَّف من الأشخاص والدروب والحوادث. لا تثقل رأسك بالهياكل فتنفر منها الأفكار.


***


قال لي: صلِّ بجوارحك خمسًا. صلِّ بقلبك خمسين.


***


قال لي: التقط الثواني الضائعة، البوصات المُهمَلَة والكلمات المغفول عنها.


***


قال لي: في الحَضَر تكلَّف الوقار. في البرية اصخ ملء فيك.


***


قال لي: اقرأ. اقرأ كثيرًا. اقرأ حتى يعمي بصرك كللًا. ثم اقرأ بعدها بأناملك.


***


قال لي: لن تتقدم للأمام حتى تترك أشياءً خلفك.


***


قال لي: الحياة مسرعة كسيارة مسعورة، لا علاج لهذا.


***


قال لي: إن زرت مبغي أو حانة، لا تنس أن تصطحب معك سجادة الصلاة.


***


قال لي: لا تصحب من يتظاهر بالجدية والصرامة. لا تصحب من لا يفهم الدعابات.


***


قال لي: من يتحدثون بطلاقة شديدة هم منافقون أو أغبياء. نادرًا ما يشذ أحدهم عن هذه القاعدة.


***


قال لي: لا تُعِدْ الآنية إلى أصحابها فارغةً أبدًا.


***


قال لي: قلها أو افعلها في فورتها أو اصمت للأبد.


***


قال لي: ارتكاب بعض الحماقات، المتعمّدة أو غير المتعمدة، من حين لآخر يجدد خلايا الروج ويكسبك مناعة ضد التألّه.


***


قال لي: اسأل الله المشط الذي تمشّط به شعرك، كما تسأله الزوجة والبنين والسلطان. الله لا يمل الدعاء، نحن نفعل.


***


قال لي: ادعُ للموتى كثيرًا. هؤلاء المساكين ما عاد بيدهم شيء. يومًا ما ستلحق بهم فقدِّم لذلك.


***


قال لي: تجنب حديث الموت لن يبعده عنك. هجر المقابر لا ينفي حقيقة أنك سترقد بين طياتها يومًا ما.


***


قال لي: محروم، من لم يلهو بالطين، ويرقص تحت المطر. من لم يجرب الصراخ في البرية. من لم يسمع الموشّحات. من لم يطالع الكتب حتى يكلّ بصره. من لم يجالس الأطفال والعجائز والمجاذيب. من لم ينجب الفتيات. من لم ينصت لأصوات الجمادات. من لم يصلِّ لله في القَفْر وحين الهَرَج. من لم يمش حافيًا على الرمال. من لم يترنّح من سَكرة الجمال.


***


قال لي: الحياة هي أن تكون غجريًا. تلهو بقيثارتك، تضحك ملئ فيك على اللاشىء، تتراقص حول النيران كالفراشات. حتى إذا ما أدركك التعب، تستلقي لتجرع كأسين من السَمَر، ثم تقوم تارةً أخري لتكمل رقصتك الأبدية.


أما أن تكون جنتلمان، بربطة عنق أنيقة وحقيبة وصدر فارغ، تلقي الدعابات المُعَدَّة لكل موقف، تتحدث بنفاق حماسي إلى ملأ لا يكترثون لك، تحفظ في دفترك هواتف الجميع وعنوانيهم، تتملَّق هذا وتكيل المديح المصطنع لهذ، فالأمر هنا أشبه بمسابقات الأناقة التي تُعَد للجِراء.


الأمر مرهق، أعرف. إن لم تستطع أن تكون غجريًا فاحمل في صدرك قلبًا غجريًا. وخبئ قيثارتك في مِحجريك.

















قرب الفجر، اقتحم أخي علينا الحانة مترنحًا. جاءنا من الحانة الأخرى ليستلقي ويسكر هنا، فصاحب الأخرى –خلاف هذه المفتوحة أبوابها أبدًا- يغلق أبوابها مع أذان الفجر.


انتفضتُ لأمسك به قبل أن يسقط. طوقتني بذراعيه وجررته –كآثامي- إلى بيتنا. ألقيته –بإهمال- في فراشه ثم عدت مسرعًا للحانة حيث الشيخ.


حين ولجتها، كانت طاولة الشيخ خاوية، هرولت للمسجد فلم أجده هناك أيضًا.


عدت للحانة ثانيةً وسألت الساقي عنه، قال: خرج حين نادي المؤذن للصلاة ولم يعد.


سألته عن هويته، قال: لم أره من قبل. ولا أعرف إن كان سفيهًا أم ماذا. نقدني أجر كؤوس الخمر تلك، المتراصة على الطاولة، وأمرني بملئها بالماء بدلًا من الخمر.


قلبّت الكؤوس واحدةً تلو الأخرى، كانت فارغة تمامًا إلا من قطرات الماء.


لم أرَ الشيخ بعدها قط.


 


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 02, 2016 16:12
No comments have been added yet.