المكان




ولدت كي أرث المكان


لأنه يخشى


كعابد بيت لحمٍ


أن يموت بغير يحيى


حين تهرب روحه من قبرها


من قبضةِ الملكين ساعة غفلةٍ


سيكون في ظل الوريث خباؤها


أو سوف يفنيها الزمانْ


حينٌ من الدهرِ


امتدادٌ في فراغٍ منكتمْ


حينٌ من الدهرِ


الذي يدعونهُ -عبثًا- قدمْ


حينٌ من الدهرِ الأثيرِ


وظلمةٌ


والصمتُ فيه له اعتبارٌ


والكلامُ هناكَ لم يوجدْ


وسوء الفهمِ أيضًا


والصراخُ


وفجأةً .. ولد القلمْ


والحينُ صار قضيّةً تدعى العدمْ


وولدتُ عقبى صرخةٍ


أو صرختينْ


لا أذن ثمّ لكي تعدَّ


ولا عيونَ لتدرك الوجه الذي


اعتصرت بقية نوره أيدي الألمْ


لا قلب ثمّ لكي يحسَّ بحرقةٍ مكبوتةٍ


تحت انطباق الفكِّ آها


 لا يرددها الصدى


لا شيءَ ثم لكي يضار بصرخةٍ


فلم السكوتُ ؟


لم الألمْ ؟


قد كان يمكن أن تشق الأرض زرعًا


دون أن يندى جبين التربِ موتًا


كي يثير على الأديمِ


زوابع الموت الجديدِ


إذا استقامَ بساقه والغصنِ زالْ


وولدتُ قمحًا


كلما مرت بي الأيام داست يبسهُ


دون اعتبارٍ للوجعْ


وغدا حطامًا


سوف تذروه الرياحُ


وصارَ حرًّا


صارَ كالأمل المعلق في السماءِ


بلا امتثالٍ للحقيقةِ


جاعلا للعيش معنًى لن يكونَ


لتكمل الدرب التي بدأت


ورغما عنك تبدأُ كالصباح


يشق هدأة عينك الملقاة جفنًا للسلامْ


وهو الحطامُ يحن دومًا للرجوعِ


يرى توجعه وينسى أنه قد صار حرًا


عينه سجنت هناكَ


ولا صباحَ لينجلي أثر المنامْ


وولدتُ بابًا


صوت شعر عائدٍ لنشيد راعٍ


غير معروفٍ


تزاحمه الرمال على المسير


وتدفنه


تمحوه مثل خطاه شيئا لم يكنْ


وقف النشيد على حروفي


مثل قانونٍ تداعبه البنان


على مقامِ الكرد


يحدو بالرملْ


وولدت موتًا


يبدأ العد انتهاء بالولادة


كي يعود إلى البداية دون شيءْ


وولدت كي أرث المكانَ


فصرتُ فيهِ


أنا المكانْ ..


***


رهنُ الليالي


رهن كأسٍ من عتيقٍ


 مثل أحجارٍ عقيقٍ


ضاءَ في سقف غريقٍ


مثل سكري


رهنُ وِتْرٍ في عيونٍ


سبَّحتْها من جنونٍ


آيةٌ ذكرى مجونٍ


مثل صحوي


هات من كل الكؤوسِ مآثرًا


علي بها ألقى الشفاه بقيةً


كل لا يذوقَ سوايَ من أثرٍ طلاها


وهي كأسي واختماري


وهي روحي وانتصاري


وهي آيات الطريقْ


وصديقتي بعد الصبابة قهوتي


قبل ارتفاع الصبح أسمعها غناءً


عطر فاتنةٍ تسلل دون إذنٍ


مثل أنباء انتصارٍ


أنني مازلت حيّا


أن بعد الموت ريّا


أن خلف الغيب شيّا


ثم أتركني إليها


حيث تمضي في طريقٍ


مثل أحلامي


تعيش بلا هواءٍ غارقاتٍ في الأبدْ


وأنا أفيق ولا أفيقْ


أمشي وأسرق من وجوه الناس سردًا


كي تقوم به القصيدة


قد كتبت الناس


كل الناس حتى لم أجدني بينهمْ


في ذكرياتهم التي بقيت


عبثتُ كأنني النسيان حين


يعيدُ ترتيب الحقيقةِ


ما الحقيقةُ ؟


من يعيد لها الرجود من الوجود


لكي تعودْ


من يملك القدر الكفيل من الشجاعة


كي يحيل الوهم شيئا ذا شجونْ


من يملك القدر الكفيل من الحماقة


كي يطيل الحلم ليلا ذا سجونْ


من يملك الأوهام


والأحلام


والأشياء


ويعيد تشكيل الحقيقة ..


ما الحقيقة ؟


كي يكون لها النفوذُ على العقولِ


على الخيال


على الجنون السابح المسلوب


أجنحةَ الطيورِ


بأي حقٍّ لا يطيرْ


وبأي حقِّ تملأ الأنحاء أطياف الحقيقةِ …


ما الحقيقةُ ؟


كيف صارت ألف شكلٍ


ألف لونٍ


ألف صوتٍ


كلها زعمٌ بشيء واحدٍ


يدعى الحقيقة ..


ما الحقيقة ؟


هل لسقراط احتمالٌ واضحٌ


أم كان يسألُ مثلنا ..


من نحنُ ؟


نحنُ حراس الحقيقةِ


لا نريد لها الضياعَ


نريدها رهنًا لنا


ونريدها عينًا تحاكم من نريد بما نريدُ


نريدها حبسًا لنا


ألا نطيرَ فلا نراها


مثلما يخشى المنامَ


من اكتفى من يقظةٍ


تسطو على الأحلام تنزع سترها


ليرى الحقيقة …


ما الحقيقة ؟


كل وجهٍ قصةٌ


وأنا أراهنُ بالحقيقةِ


كل هذا كان من أجل القصيدةِ ..


ما القصيدة ؟


من يسير على الحروف بلا انتزاع


من يغامرُ في وجوهٍ كلما صدقت قليلا


ذاب فيها كل لون


من يجادل قصةً


من يجبر الأحداث في سرديةٍ عبثيةٍ


من يرسم المشي الرتيب كرقصةٍ


شرِّد مسيركَ لا يُراعْ


وأمرْ فؤادك ما استطاعْ


لا تنهَه  فالنهي أمر لا يطاعْ


***


في هذه الأرض التي حفظت


وجوهًا تحت أرجلنا


نعود إلى منازلنا مسيرًا


تحت أرجلنا نرى أيامنا خطوًا


ويبقى بعدها أثر المكانْ


والأرض تعرفنا كما عرفت أكفّ الأم


وجه صغيرها بعد العمى


وبكت


لأن خيالها


لازال يحبس صورة الطفل البريء


وقد كبرْ !!


لا تكبر الذكرى


ولا تقوى على أجزائها ريح الزمانْ


تبقى على شفقٍ معلقةً


فلا ليلٌ ليغشاها


ولا صبحٌ ليسعفها


تظل كأنها عينُ العمى ..


خطواتِنا


يا من بنيتِ بكل ريعٍ آيةً


حتى أتى النسيان عارضَ ممطرٍ


ياليته جاس الديارَ


وليته لم يبقِ شيئًا أو يذرْ


هونًا نمرُّ على دروب منعّمٍ


كالدمعِ مرّ بوجنة العذراء


يسرعُ أنْ تكدرَ صفوهُ


كسف الأثرْ


والذكريات بلا أثرْ


لكنها تبقى طويلا


إنها رهن المكانْ


كل افتراق غربةٌ


كل اغترابٍ


نزع أشجار نمت في حيها


لا تشرب الماء الزلال


سوى بأيدي أرضها


والأرض لا تسقي سدًى


وأنا المسافر كالزمانِ


فمن سيسقي عابرًا


وأنا المكانُ


إذا ألفتُ الزائرينَ


ووقع أقدام العبور


وصوتَ أنفاس الأغاني


يرحلونْ


وأنا القصائد كلما لحنتها


للناي أنَّ بصوت غيري يحتفي


وأبيت أحرقها رمادًا كي يطيرَ


إلى الفناءِ


هناك يحترق المكانُ قيامةً ..


بابًا


جدارًا أثقلته الذكريات


وساقطت أطرافه .. أحجاره


أيامه .. سنواته ..


لتزيدَ من عمق التراب دقيقةً


تكفي ليدفن تحتها سبعون عاما


أو قضيةْ


***


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


ويبعث الأنغام شعرًا في الوجودِ


لينقذ الأموات من كيد الحياةِ


من الفضولِ


ومن سؤال عالقٍ


من أعين مكثت ملايين السنين


ولا تزال تزاحم الأموات بحثًا


عن معانٍ خلف هذا الدربِ


عن شيء غريبٍ


عن حياة ثانيةْ


يسلو بها المظلوم وعدًا أن يسود فينتقمْ


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


يصب في سمع الفلاة نبيذه


شعرًا


وكان الشعر منتبذ الخلود


وكانت البيداءُ أذنًا


فاستبدتْ تمسح الأركانَ


حتى صارت الأركانَ


صارت كل شيءْ


نحن الخلودُ شفا فضاء الباديةْ


رسمًا بأحرفنا خلقنا وهمهُ


وله هربنا


كي نقول بأن للصبح امتثالا


بعد أن تفنى خيوط الشمس في قبر الغروبِ


نقول أن النجم عودة نورها متناثرًا


ولكل قلبٍ نجمةٌ


من للقلوب بلا نجومٍ


والنجومُ بلا قلوبٍ كالفناءِ ولو بقتْ


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


بقيةُ اللقيا التي سرق الزمان دوامها


أنسٌ ينادم وحدة العشاقَ


صورةُ غيبةٍ


وخيالُ ضحكاتٍ وشيء لم يكنْ


في هذه الأركان نتركُنا كثيرًا


كي نعودَ إذا فُقدنا


كي تقولَ إذا سكتنا


كي يكون لعاشقٍ عذرٌ


يمرُّ على الديارِ ديار ليلى


كي يقبل ذا الجدارَ وذا الجدارَ


تذوبُ قبلته دموعًا


ريَّ أركان حبسن خيالَ من سكن الديارَ


لكي يعودْ


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


مجاوزًا كذبَ التذكرَ


سلطة النسيانِ


في كتب الرواةِ الحالمينَ


بأحرفٍ لم تستطرْ


في هذه الأركان حدثنا وأخبرنا


هواءٌ يسعف الأنفاسَ متصلًا


براوٍ واحدٍ


من دون قصدٍ أو هوى


إن المقاصد مفسدةْ


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


كوردة في صخرةٍ


كغناء فاتنةٍ تراقص حلمها


خيطٌ من الأيام حاك خباءها


يزدادُ مشتعلا صباها كل يومْ


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


ظلال آلهةٍ


والظلُّ يكسرُ حدة النورِ المراقِ


ويحبس الظلماتِ فيئًا


مثلما تستعجم الكلمات


تحبس روحَ قائلها خلاصًا


وحيُ السماء أتى كلامًا


والخلاص على الصيب فنى سوى كلمةْ


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


ليبدأ السطر الجديدَ


من القديمَ


يداول الكأس الأثيرَ


تدورُ يحكمها الزمانُ بكل كفٍّ


أسلمتها ثم زالتْ في العدمْ


في هذه الأركان يختبئ الخلودُ


ولادةً


في هذه الأركان


حين ولدت كي أرث المكانَ


دفنت كي يرث المكان بقيتي ..


وأصير سجنًا للمكانْ


سأصيرُ قمحًا


بابَ أنغام الرعاةِ


كؤوس خمرٍ .. قصّةً


وأصير شمسًا


كل صبحٍ تستعيد العرشَ


طفلًا لم يذق مرّ الحياةِ


وقهوةً


تزهو بأنباء انتصاري:


إنني ما زلتُ حيّا ..


هيثم ١٨/ ١١/ ٢٠١٧

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 07, 2018 20:19
No comments have been added yet.