عن رضوى عاشور .. مقاومة الغربة بذكر الاحباب
عن رضوى عاشور .. مقاومة الغربة بذكر الاحباب
كخمس قطط صغيرة نتسلل تحت جنح الظلام في الشوارع الخلفية. تتشابك أيدينا لنلتمس الدفء في ليلة باردة من ليالي نوفمبر الأقسى الذي مر على جيلنا على الاطلاق.
تتناهى إلينا أصوات الهتاف والقصف وقرع المتظاهرين على العلب المعدنية واعمدة الانارة الذي يقابله صوت سارينة عربات الامن المركزي. ذلك المزيج من الأصوات الذي رافق أحلامي لسنوات.
تتأرجح مشاعرنا بين البهجة للقاء المرتقب مع السيدة الجليلة وبين القلق على رفاق الميدان والخوف من إشاعة تم بثها عن عملاء للأمن منتشرين في الشوارع الخلفية لوسط البلد، يقال انهم يقومون بالقبض على السائرين والتحقيق معهم وربما ارسالهم لأمن الدولة.
تقترح "سمية" اقتراحا يبدو غريبا: "يلا نغني"
انتظر إليها متعجبة من غرابة الاقتراح واسألها: "نغني؟!"
فتجيبني: "آه .. يلا"
يرتفع صوتها بالصهبجية .. لم تجد النغمة ترددًا في أرواحنا. فتقول: "طيب اغنية تانية"
اجيبها: "شبابيك"
ويرتفع صوتنا بالغناء هازما الخوف والوحشة، مؤازرا للرفاق المرابطين في محمد محمود.
***
لم تبدأ الاحداث في تلك الليلة وانما بدأت قبلها بشهر تقريبا. كانت جمعة من تلك الجمع التي كنا نجتمع فيها في لنهتف هتافا بلا جدوى للدستور أو للحلول المدنية أو لأي من المطالب التي جمعتنا الثورة عليها.
ربما في ذلك اليوم من أيام أكتوبر ٢٠١١ كنت اهتف للدستور أو للانتخابات او لمدنية الدولة. لا أذكر في الحقيقة. كل ما أذكره أن الهتاف انهكني فابتعدت قليلا مع بعض الصديقات حتى تمثال عمر مكرم. ووجدتها أمامي. د. رضوى عاشور. السيدة الجليلة بنفسها كانت معنا. تهتف كما نهتف. وتطالب بما كنا نطالب به. ثم ابتعدت لترتاح قليلا كما ابتعدنا.
التففنا حولها لنتعرف إليها. وبروح معلمة وأم وقفت وافردت لكل منا وقتا. كانت تسأل عنا وعما ندرس وعما نعمل.
وقتها عرضت عليها فكرة المشروع الذي كان يتكون في عقلي في تلك الأيام. مشروع كتاب يجمع شهادات لثوار من كل محافظة من محافظات مصر. انتبهت لما أقول لثوان قليلة ثم قالت لي "ده مشروع مهم. أحب أتابع شغلك عليه"
تبادلنا أرقام الهاتف ووعدتها بالاتصال.
ومن هنا يمكننا أن نبدأ.
***
كانت البداية في صحن دارها. اختار ذلك التعبير عمدا وليس مجازا أو لعبا باللغة. صحن الدار تعبير قديم يدل على غرفة الاستقبال في البيت العربي الأصيل. وبيتها كان عربيا أصيلا.
تدخل فتقابلك باحة فسيحة مؤسسة على الطراز العربي. سقف مرتفع مشغول بحليات من العروق الخشبية. مقاعد من الأرابيسك المطعم بالصدف. وعشرات القطع الديكورية المنتقاة بعناية.
ذوق امرأة عربية أصيلة تدرك عروبتها وتفخر بها. تتحرك عيناي بين قطع الأثاث والديكور فلا تقاطعني حتى أعود إليها ببصري. حينها تسألني عن مشروعي وعن ما انجزته.
اخبرها ان الهدف من المشروع هو جمع شهادات الثوار. فتعطيني الدرس الاول عن تحقيق الشهادات ومطابقتها.
تقول لي: "عليك أولا بدراسة الحدث بشكل تقريري محايد، ومعرفة تفاصيله الرئيسية. ثم عليك قراءة وسماع شهادات حاضريه ومعاصريه . طابقي الشهادات مع الأخبار الواردة عن الحدث. ضمي الشهادات التي تطابق الحدث للمشروع واستبعدي الشهادات المخالفة".
كان هذا الدرس الاول الذي تعلمته.
وبدأنا العمل معا في جلسات أسبوعية لا يقطعها إلا مرضها أو فترة تعافيها بعد إجراء إحدى العميات الجراحية إثر مرضها الاخير
بطبيعة الحال كانت كل لقاءاتنا تتم في بيتها.
اعتدت دخول البيت لكن لم تفارقني الدهشة. في كل زيارة كنت أكتشف شيئا جديدا. الطاجين المغربي بشكله المخروطي المميز ونقوشه العربية رأيته لأول مرة في بيتها. وقفت اتأمله ولمسته خلسة فحاوطتني ابتسامتها ولمسني الحنين في صوتها وهي تقول نقدم فيه الكسكس المغربي في اللقاءات العائلية. أعده حينما يكون تميم في البيت.
لمست أنها كانت تحب الطهي .. مطبخها مليء بالمونة العربية. زيت وزيتون من فلسطين. وأعشاب للشاي ومخللات وكبيس.
وأدوات طهي تراثية يغلب عليها الطابع العربي. تحدثني عن الأكلات الفلسطينية التي تعلمتها من عائلة مريد وعن الأكلات الأندلسية التي قرأت عنها في رحلتها لكتابة رواية غرناطة فيزيد حبي لها وتعلقي بها.
أجلس أمامها بانبهار تلميذة بمعلمتها. تقول لي: "راجعت النصوص التي ارسلتها إليَّ وطبعتها لأعدل شيئا وأناقشك فيه". استعد لسماع ملحوظة جديدة في الكتابة أو التحرير. لكنها تفاجئني بملحوظة في إحد قواعد اللغة العربية. استمع بإنصات وتركيز. وأضيف درسا جديدا لحصيلتي اللغوية.
في لقاء آخر يستقبلني "حنظلة" عند مدخل الدار. الشخصية الأيقونية التي رسمها ناجي العلي لطفل يركض نحو الشمس.
كانت اللوحة أصلية. معلقة في برواز. وحنظلة راكض نحو الشمس بوردة في يده. أقف أمامها وأنا لا أصدق أنني أرى لوحة أصلية لناجي العلي. أسألها لأتأكد: "أصلية" فتجيبني بلى. رسمها ناجي لتميم.
أنظر إلى عود يحتل كرسيا بساحة الدار .. فتقول إنه لتميم يعزف عليه عندما يكون هنا وتعبر ابتسامتها المحيط لترد على سؤال لم أسأله وتخبرني أنه الآن في أمريكا.
كان كل شيء في البيت يتمحور حول تميم. حول حضوره وغيابه. حول زياراته القصيرة وشوقها الدائم إليه. أستطيع أن أتفهم هذا وأشعر به.
في البيت لم تكن رضوى عاشور الدكتورة .. العالمة باللغة والأدب. كانت الأم وكانت السيدة التي تعاني الشوق وتقاوم الغربة بذكر الأحباب.
أجلس أمامها فتحدثني عن الغياب. عن غياب مريد عنها، عن غيابها عن مصر، عن غياب تميم عن مريد، عن غياب تميم عنها. أخجل من نفسي أنا التي يحيط بي أحبابي في كل لحظة وأشتكي الغربة.
***
أعود لتلك الليلة التي تسللنا فيها إلي بيتها
كنت بصحبة الأصدقاء سمية ربيع وشادي عبد العزيز وأحمد جمال سعد الدين وسلمى صلاح واتصلت بي لتراجع معي فصلا من فصول الكتاب. أجبتها أنني بقربها ومعي بعض من الأصدقاء الذين شاركوا بشهاداتهم ونصوصهم في الكتاب. كنت أقولها على استحياء علها تتفضل وتدعونا لزيارتها. لم اطلب الزيارة لعلمي بظروفها الصحية. لكنها لمحت الطلب الذي لم أجرؤ عليه. فدعتنا مشكورة للزيارة.
جلسنا كقطط صغيرة تلتمس الدفء فاستضافتنا ومريد بقلب مفتوح. نفتح نقاشا وراء نقاش لا نريد أن نرحل ولا نريد لليوم أن ينتهي. توزع علينا لوحات منسوخة لناجي العلي ولوحات لبرهان الدين كركوتلي عن فلسطين والقدس. ثم تحدثنا عن حبها للرسم وعن متحف اللوفر وعن الجرنيكا والحرب الأسبانية. تحدثنا عن أنها لا تنسى وجها رأته وأنها قد تسافر من مدينة لمدينة فقط لتزور متحفا أو لتشاهد لوحة جديدة.
يتفرع الحديث ويتشعب. وتتعاقب أكواب الشاي والسجائر. فتسألنا عن أهم الكتاب الجدد الذين نقرأ لهم هذه الأيام فأجيبها بأني أحب هاروكي موراكامي وأقول لها ربما ترين بعد كل قراءاتك أن أدبه من نوعية الـ pop art وأنه ربما لن يضيف لك جديدا فتقول لي أنه على الكاتب أن يطالع كل الثقافات ولا يجب عليه أن يبني برجا ليعيش في قمته.
أبتسم عندما يمر ببالي خاطر طفولي يدفعني لأن أرشح لها Twilight وأحكي لها كيف قدمت ستيفاني ماير ثورة في مفهوم مصاصي الدماء.
تباغتنا دقة الساعة الحادية عشرة مساءً فندرك أنه حان وقت الرحيل.
***
عندما أراد الله أن يعلمني درسا جعلني أقابلها للمرة الأولى في يوم عيد ميلادي الثلاثين. ضحكت وقلت لها أن هذه أجمل هدية تلقيتها في عيد ميلادي.
وعندما سألتني عن عملي قلت لها لقد كبرت ولا أستطيع أن أتحمل عملا بدوام منتظم. نظرت في عيني بجدية وقالت لي: "بصي لي .. أنا عندي 63 سنة وبخرج وبروح الجامعة وبدي محاضرات وبشرف على رسايل جامعية. لما كان عندي 30 سنة كنت بهد الدنيا وأبنيها"
ثم رحلت رضوى .. رحلت قبل أن أخبرها أني هدمت كل ما حولي وأنني أعيد بناءه من جديد.
***
صدر كتاب يوميات الغضب عن دار الحياة للنشر والتوزيع في أبريل ٢٠١٢ بمشاركة كل من:
أحمد جمال سعد الدين ـ أحمد جمعة ـ أحمد عادل الفقي ـ أحمد علي ـ أحمد كامل ـ آية عبد الحكيم ـ خلود عيسى شعبان ـ سمية ربيع ـ شادي عبد العزيز ـ عمرو عز الدين ـ محمد أبو الغيط ـ محمد عيسى شعبان ـ مصطفى رزق ـ ملكة بدر ـ منة الله محيي ـ مي فتحي ـ هبة عبد العليم.
أجلس أمامها أطلب توقيعها على نسختي من الكتاب وأقول لها: "لولا وجودك ودعمك يمكن ماكنتش كملت المشروع ده". فتربت على يدي بحنو وتقول: "إنتي شاطرة ومجتهدة وهاتعملي حاجات كويسة كتير. لسه العمر قدامك".
توفيت السيدة الجليلة رضوى عاشور في ٣٠ من نوفمبر 2014
لم أتمكن من حضور مراسم تشييعها حيث خرجت من بيتي اسير بلا جدوى في الشوارع حتى انهكني السير فجلست على رصيف ما أبكي حتى هبط المساء.
كخمس قطط صغيرة نتسلل تحت جنح الظلام في الشوارع الخلفية. تتشابك أيدينا لنلتمس الدفء في ليلة باردة من ليالي نوفمبر الأقسى الذي مر على جيلنا على الاطلاق.
تتناهى إلينا أصوات الهتاف والقصف وقرع المتظاهرين على العلب المعدنية واعمدة الانارة الذي يقابله صوت سارينة عربات الامن المركزي. ذلك المزيج من الأصوات الذي رافق أحلامي لسنوات.
تتأرجح مشاعرنا بين البهجة للقاء المرتقب مع السيدة الجليلة وبين القلق على رفاق الميدان والخوف من إشاعة تم بثها عن عملاء للأمن منتشرين في الشوارع الخلفية لوسط البلد، يقال انهم يقومون بالقبض على السائرين والتحقيق معهم وربما ارسالهم لأمن الدولة.
تقترح "سمية" اقتراحا يبدو غريبا: "يلا نغني"
انتظر إليها متعجبة من غرابة الاقتراح واسألها: "نغني؟!"
فتجيبني: "آه .. يلا"
يرتفع صوتها بالصهبجية .. لم تجد النغمة ترددًا في أرواحنا. فتقول: "طيب اغنية تانية"
اجيبها: "شبابيك"
ويرتفع صوتنا بالغناء هازما الخوف والوحشة، مؤازرا للرفاق المرابطين في محمد محمود.
***
لم تبدأ الاحداث في تلك الليلة وانما بدأت قبلها بشهر تقريبا. كانت جمعة من تلك الجمع التي كنا نجتمع فيها في لنهتف هتافا بلا جدوى للدستور أو للحلول المدنية أو لأي من المطالب التي جمعتنا الثورة عليها.
ربما في ذلك اليوم من أيام أكتوبر ٢٠١١ كنت اهتف للدستور أو للانتخابات او لمدنية الدولة. لا أذكر في الحقيقة. كل ما أذكره أن الهتاف انهكني فابتعدت قليلا مع بعض الصديقات حتى تمثال عمر مكرم. ووجدتها أمامي. د. رضوى عاشور. السيدة الجليلة بنفسها كانت معنا. تهتف كما نهتف. وتطالب بما كنا نطالب به. ثم ابتعدت لترتاح قليلا كما ابتعدنا.
التففنا حولها لنتعرف إليها. وبروح معلمة وأم وقفت وافردت لكل منا وقتا. كانت تسأل عنا وعما ندرس وعما نعمل.
وقتها عرضت عليها فكرة المشروع الذي كان يتكون في عقلي في تلك الأيام. مشروع كتاب يجمع شهادات لثوار من كل محافظة من محافظات مصر. انتبهت لما أقول لثوان قليلة ثم قالت لي "ده مشروع مهم. أحب أتابع شغلك عليه"
تبادلنا أرقام الهاتف ووعدتها بالاتصال.
ومن هنا يمكننا أن نبدأ.
***
كانت البداية في صحن دارها. اختار ذلك التعبير عمدا وليس مجازا أو لعبا باللغة. صحن الدار تعبير قديم يدل على غرفة الاستقبال في البيت العربي الأصيل. وبيتها كان عربيا أصيلا.
تدخل فتقابلك باحة فسيحة مؤسسة على الطراز العربي. سقف مرتفع مشغول بحليات من العروق الخشبية. مقاعد من الأرابيسك المطعم بالصدف. وعشرات القطع الديكورية المنتقاة بعناية.
ذوق امرأة عربية أصيلة تدرك عروبتها وتفخر بها. تتحرك عيناي بين قطع الأثاث والديكور فلا تقاطعني حتى أعود إليها ببصري. حينها تسألني عن مشروعي وعن ما انجزته.
اخبرها ان الهدف من المشروع هو جمع شهادات الثوار. فتعطيني الدرس الاول عن تحقيق الشهادات ومطابقتها.
تقول لي: "عليك أولا بدراسة الحدث بشكل تقريري محايد، ومعرفة تفاصيله الرئيسية. ثم عليك قراءة وسماع شهادات حاضريه ومعاصريه . طابقي الشهادات مع الأخبار الواردة عن الحدث. ضمي الشهادات التي تطابق الحدث للمشروع واستبعدي الشهادات المخالفة".
كان هذا الدرس الاول الذي تعلمته.
وبدأنا العمل معا في جلسات أسبوعية لا يقطعها إلا مرضها أو فترة تعافيها بعد إجراء إحدى العميات الجراحية إثر مرضها الاخير
بطبيعة الحال كانت كل لقاءاتنا تتم في بيتها.
اعتدت دخول البيت لكن لم تفارقني الدهشة. في كل زيارة كنت أكتشف شيئا جديدا. الطاجين المغربي بشكله المخروطي المميز ونقوشه العربية رأيته لأول مرة في بيتها. وقفت اتأمله ولمسته خلسة فحاوطتني ابتسامتها ولمسني الحنين في صوتها وهي تقول نقدم فيه الكسكس المغربي في اللقاءات العائلية. أعده حينما يكون تميم في البيت.
لمست أنها كانت تحب الطهي .. مطبخها مليء بالمونة العربية. زيت وزيتون من فلسطين. وأعشاب للشاي ومخللات وكبيس.
وأدوات طهي تراثية يغلب عليها الطابع العربي. تحدثني عن الأكلات الفلسطينية التي تعلمتها من عائلة مريد وعن الأكلات الأندلسية التي قرأت عنها في رحلتها لكتابة رواية غرناطة فيزيد حبي لها وتعلقي بها.
أجلس أمامها بانبهار تلميذة بمعلمتها. تقول لي: "راجعت النصوص التي ارسلتها إليَّ وطبعتها لأعدل شيئا وأناقشك فيه". استعد لسماع ملحوظة جديدة في الكتابة أو التحرير. لكنها تفاجئني بملحوظة في إحد قواعد اللغة العربية. استمع بإنصات وتركيز. وأضيف درسا جديدا لحصيلتي اللغوية.
في لقاء آخر يستقبلني "حنظلة" عند مدخل الدار. الشخصية الأيقونية التي رسمها ناجي العلي لطفل يركض نحو الشمس.
كانت اللوحة أصلية. معلقة في برواز. وحنظلة راكض نحو الشمس بوردة في يده. أقف أمامها وأنا لا أصدق أنني أرى لوحة أصلية لناجي العلي. أسألها لأتأكد: "أصلية" فتجيبني بلى. رسمها ناجي لتميم.
أنظر إلى عود يحتل كرسيا بساحة الدار .. فتقول إنه لتميم يعزف عليه عندما يكون هنا وتعبر ابتسامتها المحيط لترد على سؤال لم أسأله وتخبرني أنه الآن في أمريكا.
كان كل شيء في البيت يتمحور حول تميم. حول حضوره وغيابه. حول زياراته القصيرة وشوقها الدائم إليه. أستطيع أن أتفهم هذا وأشعر به.
في البيت لم تكن رضوى عاشور الدكتورة .. العالمة باللغة والأدب. كانت الأم وكانت السيدة التي تعاني الشوق وتقاوم الغربة بذكر الأحباب.
أجلس أمامها فتحدثني عن الغياب. عن غياب مريد عنها، عن غيابها عن مصر، عن غياب تميم عن مريد، عن غياب تميم عنها. أخجل من نفسي أنا التي يحيط بي أحبابي في كل لحظة وأشتكي الغربة.
***
أعود لتلك الليلة التي تسللنا فيها إلي بيتها
كنت بصحبة الأصدقاء سمية ربيع وشادي عبد العزيز وأحمد جمال سعد الدين وسلمى صلاح واتصلت بي لتراجع معي فصلا من فصول الكتاب. أجبتها أنني بقربها ومعي بعض من الأصدقاء الذين شاركوا بشهاداتهم ونصوصهم في الكتاب. كنت أقولها على استحياء علها تتفضل وتدعونا لزيارتها. لم اطلب الزيارة لعلمي بظروفها الصحية. لكنها لمحت الطلب الذي لم أجرؤ عليه. فدعتنا مشكورة للزيارة.
جلسنا كقطط صغيرة تلتمس الدفء فاستضافتنا ومريد بقلب مفتوح. نفتح نقاشا وراء نقاش لا نريد أن نرحل ولا نريد لليوم أن ينتهي. توزع علينا لوحات منسوخة لناجي العلي ولوحات لبرهان الدين كركوتلي عن فلسطين والقدس. ثم تحدثنا عن حبها للرسم وعن متحف اللوفر وعن الجرنيكا والحرب الأسبانية. تحدثنا عن أنها لا تنسى وجها رأته وأنها قد تسافر من مدينة لمدينة فقط لتزور متحفا أو لتشاهد لوحة جديدة.
يتفرع الحديث ويتشعب. وتتعاقب أكواب الشاي والسجائر. فتسألنا عن أهم الكتاب الجدد الذين نقرأ لهم هذه الأيام فأجيبها بأني أحب هاروكي موراكامي وأقول لها ربما ترين بعد كل قراءاتك أن أدبه من نوعية الـ pop art وأنه ربما لن يضيف لك جديدا فتقول لي أنه على الكاتب أن يطالع كل الثقافات ولا يجب عليه أن يبني برجا ليعيش في قمته.
أبتسم عندما يمر ببالي خاطر طفولي يدفعني لأن أرشح لها Twilight وأحكي لها كيف قدمت ستيفاني ماير ثورة في مفهوم مصاصي الدماء.
تباغتنا دقة الساعة الحادية عشرة مساءً فندرك أنه حان وقت الرحيل.
***
عندما أراد الله أن يعلمني درسا جعلني أقابلها للمرة الأولى في يوم عيد ميلادي الثلاثين. ضحكت وقلت لها أن هذه أجمل هدية تلقيتها في عيد ميلادي.
وعندما سألتني عن عملي قلت لها لقد كبرت ولا أستطيع أن أتحمل عملا بدوام منتظم. نظرت في عيني بجدية وقالت لي: "بصي لي .. أنا عندي 63 سنة وبخرج وبروح الجامعة وبدي محاضرات وبشرف على رسايل جامعية. لما كان عندي 30 سنة كنت بهد الدنيا وأبنيها"
ثم رحلت رضوى .. رحلت قبل أن أخبرها أني هدمت كل ما حولي وأنني أعيد بناءه من جديد.
***
صدر كتاب يوميات الغضب عن دار الحياة للنشر والتوزيع في أبريل ٢٠١٢ بمشاركة كل من:
أحمد جمال سعد الدين ـ أحمد جمعة ـ أحمد عادل الفقي ـ أحمد علي ـ أحمد كامل ـ آية عبد الحكيم ـ خلود عيسى شعبان ـ سمية ربيع ـ شادي عبد العزيز ـ عمرو عز الدين ـ محمد أبو الغيط ـ محمد عيسى شعبان ـ مصطفى رزق ـ ملكة بدر ـ منة الله محيي ـ مي فتحي ـ هبة عبد العليم.
أجلس أمامها أطلب توقيعها على نسختي من الكتاب وأقول لها: "لولا وجودك ودعمك يمكن ماكنتش كملت المشروع ده". فتربت على يدي بحنو وتقول: "إنتي شاطرة ومجتهدة وهاتعملي حاجات كويسة كتير. لسه العمر قدامك".
توفيت السيدة الجليلة رضوى عاشور في ٣٠ من نوفمبر 2014
لم أتمكن من حضور مراسم تشييعها حيث خرجت من بيتي اسير بلا جدوى في الشوارع حتى انهكني السير فجلست على رصيف ما أبكي حتى هبط المساء.
Published on January 03, 2024 22:49
No comments have been added yet.


