ثعالب عجوزة تتقافز فى مرح
زفر برضى وهو ينظر إلى حذائه الكبير اللامع، بعدما اجتهد في تنظيفه وصقله حتى صار له بريق، غيَّر كثيراً من عاداته في الشهور الأخيرة، بدأ يرتدي جوارب وأحذية سوداء، ورأى كثيراً من الوجاهة في اقتراح زوجته السابقة بتقصير شعره، ليبدو جميلاً وأكثر انضباطاً، دائماً ما كانت تقول: إن الشعر الطويل يُعبر عن فوضوية، ويدل على عدم الاستقرار. بدأ يشك في من حوله بمنهجية مثل السيد ديكارت، في البداية سبَّبت له التغيرات نوبات عنيفة من القيء، هدأت بمرور الوقت حتى اعتاد عليها تماماً، مثل مواطن صالح لا يرى ثمة أزمة في تغير مواقف السياسيين، ويسير راضياً في جوار الدبابة التي تحرس المنشأة التي يعمل بها.
*
اعتاد الذهاب إلى البساتين لتدخين الحشيش كل يوم بعد الانتهاء من العمل، يعتقد في قرارة نفسه أنه لولا جرعة المخدر كل مساء لارتكب جريمة واحدة على الأقل، مثل قتل رئيسه العجوز في العمل، الذي يرتدي ملابس مضحكة، ويرفع بنطاله حتى أول قفصه الصدري كممثلي الستينات، مثل صنم نحاسي قادم إلى عصور الحداثة من عوالم «الأبيض والأسود»، ولا يتورع عن التحرش بزميلاته علناً، ويسميه المنافقون من زملائه «إله الفحولة عند المصريين القدماء»، من أحلامه المؤجلة التمثيل بجثة هذا الثعلب العجوز ومضغ قلبه على مهل. في الأيام الأخيرة عقب تخلصه من نوبات القيء العنيفة، بدأ يشعر أنه ملقى في بئر سحيقة من الذكريات السوداء، انتابته هلاوس، كأن يصحو فجأة من النوم معتقداً أن أحدهم سرق دفتر حكاياته، بدأ منذ فترة في تسجيل يومياته بانتظام، يمسك بالقلم ويحتشد للكتابة أمام دفتره الأحمر – اختار اللون بعناية وفاءً لذكرى قديمة مهدرة ضمن ما أهدره من ذكريات على عتبة الحياة – ويبقى أكثر من ساعة يومياً لا يكتب حرفاً واحداً، ينظر بإمعان إلى الورقة الفارغة، ولما يرهق عقله من التفكير يكتب كلمة واحدة فقط لا تتغير أبداً، ثم يأوي إلى فراشه.
*
استقل سيارة من ميدان السيدة عائشة بعد انتهاء جلسة الأصدقاء توصله إلى ميدان الجيزة، وجاء مكانه بين رجلين، أحدهما شاب تبدو عليه سمات الفقر المدقع، والآخر عجوز ونظيف يرتدي ملابس زاهية، مصفف الشعر، تفوح منه رائحة طيبة. بادر الشاب بالسلام، لم يهتم الآخر، وبدا أنه لا يعرفه، فقال الشاب مذكراً إياه: – أنا أحمد إبراهيم جارك في شبرا، أنت مش فاكرني ولا أيه. – أحمد إبراهيم.. يااااه أنت عجزت قوي، هو أنت رُحت فين. – ساكن في بولاق. – أمال كنت بتعمل أيه هنا. – بشتغل في ورشة نجارة في البساتين. لم يرد الآخر، وبدا أنه يريد إنهاء الحديث، لكن الشاب واصل، وسبَّ شخصاً ما. – سرق الشقة وطردني ابن أبويا، بس أنا سمعت إن الحكومة خدتها منه، أحسن يستاهل علشان طماع. أخرج العجوز نقوداً من جيبه ودفع الأجرة لنفسه فقط، ولم يرد. فتح الشاب شباك السيارة المتهالكة وبصق من النافذة.
*
كان يتابع حوار الرجلين، وهو ينظر إلى حذائه الكبير اللامع، وشعر بضيق بالغ فطلب من السائق التوقف ونزل وأكمل حتى منزله مشياً على الأقدام، تبقت معه سيجارة حشيش واحدة، دخَّنها ثم أخرج دفتر حكاياته الأحمر، وجلس مثل كل يوم ينظر في الورقة الفارغة بإمعان، وكأنه يبحث عن شيء ما ضائع وقد يجده في الورقة، دخن سيجارتين والقلم ما زال بيده. كتب كلمته المعتادة، وآوى إلى فراشه. كتب: «خونة».
قصة نشرت بجريدة الحياة فى 8 أبريل 2014


حسين البدري's Blog
- حسين البدري's profile
- 7 followers
