(?)
Quotes are added by the Goodreads community and are not verified by Goodreads. (Learn more)
محمد سالم عبادة

“حظِيَت قصيدتي "آرثر" بتَلَقٍّ لا بأس به. وأذكرُ من بين الجمهور شخصًا قامَ بعد فَراغي من إلقائها، لم يكن قد انتبه مع صعودي إلى المنصّة إلى اسمي وجنسيّتي واللُّغة التي سأُلقي بها القصيدة– وتَقضي تقاليدُ هذا المهرجان بأن يُلقي كلُّ شاعرٍ قصيدتَه بلُغته التي كتبها بها، ثُمَّ تقدَّم ترجمةٌ لها بالإنـﮕـليزية لُغة العالَم- وسألَني باهتمامٍ مسحورٍ عن هذه اللُّغةِ التي ألقيتُ بها القصيدة، فلمّا عرفَ أنها العربية، قال إنّه لم يَسمع وَقعَ حُروفٍ سِحريًّا كهذا.
كان ذلك أفضلَ ما حدثَ تلك الليلة، فقد جدَّد للمرء اعتزازه بعربيّته، تلك اللغة الشاعرة –كما سمّاها أستاذنا العَقّاد في عنوان كتابه عنها- في أصواتها وصَرفها ونَحوها وأساليبها، ناهيك عمّا تضيفُه إليها القافية من سِحرٍ وما تبرزه من جَمالها.
لكنّي أذكرُ حديثًا قصيرًا دار بيني وبين (إنريك) زوج الشاعرة البرتغاليّة (أنّا ﭘـيسوا)، إذ رآني أكتبُ شيئًا ما بالعربية، فسألني في دهشةٍ كيف نكتبُ لغتَنا من اليمين إلى اليسار! كان هذا غريبًا بعض الشيء، فقد طالما اعتقدتُ أنّ اللُّغات التي تُكتب من اليمين إلى اليسار كثيرةٌ، أعرف منها العربية والعِبرية والفارسية. لكن يبدو أنّ هذه الكثرة محضُ افتراضٍ وهميٍّ من جانبي، فقد اكتشفتُ مؤخَّرًا أنّ هذه اللغات الثلاث هي أكثرُ اللغات التي تُكتب من اليمين إلى اليسار انتشارًا في عالمنا المعاصر، ومعها مجموعةُ لغاتٍ أخرى لا تحظى بمِثل انتشارها. لكنّ الملاحظة الجديرة بالالتفات في حديث صديقنا الشاعر، هي التي أضافها بعد تعبيره عن دهشته، إذ قال "إنّهم" يكتبون لُغاتِهم من اليسار إلى اليمين ليَرَوا ما كتبوه! هكذا ببساطة!
لم أكُن قد انتبهت إلى هذا الأمر من قبلُ، وهو صادقٌ إلى مدىً بعيد. إنّ الدراساتِ الإحصائيّة تشير إلى أنّ عشرةً بالمائة فحَسبُ من الناس عُسرٌ، أي يستخدمون يُسراهم أساسا. وإذَن فالمتعارَف عليه أنّ الإنسانَ يكتبُ بيُمناه. فإذا ما بدأنا الكتابة باليُمنى من اليمين إلى اليسار، فإنّ اليد اليمنى تَحجب عن أعيُننا ما كتبناه فِعلًا إلى درجةٍ ما، فضلًا عن أنّها بالضرورة لا تسمح لنا بأن نرى بالكامل ما نقومُ بكتابته! هذا في مقابل بدء الكتابة من اليسار باليد اليمنى، إذ يسمح هذا للكاتب بأن يرى ما يكتبُه على نحوٍ أوضحَ أوّلًا بأوّل، هذا فضلًا عن أنّ يدَه لا تحجب عنه ما قد كتبه وهو يكتبُ ما بعده. يالَها من ملاحظةٍ باعثةٍ على التأمُّل!
أتكون لهذا الأمر علاقةٌ بعلاقتنا المزدوِجة نحنُ العربَ بالكلمتَين المسموعة والمكتوبة؟ كثيرًا ما يُقال إننا أُمّةٌ شَفاهيّةٌ تقدِّس الكلمةَ المسموعة، وتنظرُ إلى المكتوبة بشيءٍ من النُّفور. وربّما لهذا هَيمَنَت مفردةُ "القرآن" المشتقّة من القراءة على ما عداها من المفردات التي تُشير إلى كتاب الإسلام المقدَّس، ككلمتَي "المصحَف" و"الكِتاب" اللتَين تشيران إلى ارتباط النصّ بالكتابة والورَق، فيُقال: "أتمَّ حفظَ القرآن" و"يقولُ الله في القرآن" و"القرآنُ كلامُ الله" إلى آخِر تلك الأمثِلة. هذا، فيما يُشير المسلمون إلى أصحاب الديانات الإبراهيمية الأخرى بأنهم "أهلُ الكِتاب"، رابِطين إيّاهم بالكلمة المكتوبةِ لا المسموعة، وهو وصفٌ مشتقٌّ هو الآخَر من القرآن! فإذا صحَّت هذه العلاقةُ، فقد يكون من المحتمَل أنّ هذه الأمّة الأُمّيّة حين استقَت نظامَ كتابتها من السريانيّة التي تُكتَب بدَورها من اليمين إلى اليسار قد راقَها هذا النِّظامُ الذي يَحجُب عن الكاتب ما كتبَه أوّلًا بأوّلٍ، وذلك أنّ هذا الحَجب يتجاوبُ ورغبةً دفينةً لدى الكاتب العربيّ في التنصُّل من فِعل الكتابة الذي يَزدريه في قرارة نفسِه وينظر إليه نظرةً استعلائيّةً حين يُقارِنه بفِعل القَول الشفاهيّ.
والحَقُّ أنّ الكلمةَ المَقولةَ المسموعةَ أقربُ إلى الأثيريّة من المكتوبة، ومِن ثَمَّ فهي أقربُ إلى مفهوم الوَحي، فإذا ما وُضِعَ المَقولُ والمكتوبُ وجهًا لوجهٍ، فإنّ التراتُبيّة تحبِّذ المَقول، وتجعل له الأولويّة، فهو المقدَّس الآتي من لَدُن الله، ولا يجِد المكتوبُ إلا أن يَقبعَ في المرتبة الثانيةِ بوَصفِه مُدنَّسًا معرَّضًا للخطأ والنسيان والتصحيف.”

محمد سالم عبادة, الفتوحات البوهيميّة
Read more quotes from محمد سالم عبادة


Share this quote:
Share on Twitter

Friends Who Liked This Quote

To see what your friends thought of this quote, please sign up!


This Quote Is From


Browse By Tag