ميسون صقر .. ارملة قاطع طريق
[image error]
ميسون صقر .. أرملة قاطع طريق تعشق موتاً يزحف نحوها ببطء ممتع
عندما كتبت قصائد بالعامية وأصدرت ديوانين :"عامل نفسه ماشى ،مخبيه فى هدومها الدلع " ،قال الأصدقاء :إن الفنانة التشكيلية والشاعرة ستحترف العامية ،وقال أخرون :مالها والعامية ؟!،وعندما تركت هذا وذاك وكتبت روايتها "ريحانة" قال الأصدقاء :ما لها والرواية ؟!،وقال أخرون : تريد منافسة تعيد إليها كذا أو كذا .. ومضغ أخرون كلاماً أكثر وأكثر ،وهكذا تبدأ ميسون صقر أول قصيدة فى ديوانها الممتع "أرملة قاطع طريق" :
"أخذت الكثير من هذا العالم /خانتنا جميعاً/لم نحبها لكننا رأفنا بجمالها أن يذهب سدى/ لم تملك حرفاً واحداً/لكن الحياة أعطتها الكثير/كانت محظوظة وعاشت/كانت تعسة وماتت…".
وهكذا هى "ميسون صقر" ،حاضرة حتى فى الغياب ،تمتلىء أجندة تليفوناتها بأصدقاء لا حصر لهم ،وإذا حضرت تجمع نفر غفير من مثقفين ربما كانوا متنافرين قبل هذه اللحظة ،هى صديقة رائعة تغفر الخطايا ولا تهتم بالصغائر ،تعرف أن كثيرين يداهنون ويضحكون هكذا بأسنان حادة وقاطعة .. لكنها تجد نفسها تحيا هكذا روحاً رائقة تمنح حباً لأصدقاء بينهم مرضى وبائسين أحياناً .. لكنها الحياة التى تحبها هكذا حتى وإن بخلت عليها بدفء كانت جديرة به :
"..وأنتَ تعلمُ أَنَّ دمي أُهْدِرَ في الصَّدَمَاتِ / والضَّحِكِ . / لا يمكنُ أَنْ أَكُونَ لَكَ / أنا للجميعِ / وأنتَ تعلمُ أن يدي وَحْدَهَا تَدُلُّ / على انتهاكِ أَكْتَافِ الآخرينَ /بالربتِ عليها /لا يمكنُ أَنْ أكونَ امرأةً فقطْ / لأننَّي لم أذقْ يومًا مَعْنَى أَنْ /أَكُونَ مجرد هَكَذَا /امرأةٌ فقطْ / أذكرُ مرةً كنتُ شَخْصًا يُحبُّ / أذكرُ مرةً واحدةً أمسكتُ يده / خَرَجْنَا إلى شوارعَ صديقةٍ / فأمسكَ المارَّةُ يدي /وَقَطَعُوهَا مِنْ يَدِهِ / كُلَّمَا رأيتُ يدي المقطوعةَ / التي بلا كَفٍّ / أدركتُ أَنَّني لَنْ أضعَهَا عَلَى أكتافِ المَارَّةِ القُسَاةِ / ولا عَلَى قَلْبي حين يدقُّ مَرَّةً ثانيةً..".
قالت "أمى" السيدة فريدة حافظ أحمد التى لا يعرفها أحد سوى أبنائها :"دى بنت موت " ،كانت تشير إلى شقيقتى "ليلى" ،وكان لليلى روحاً رائقة شفافة ،فعاشت تجهل المكر والخبث وقضت حياتها القصيرة هكذا تحبنا ـ نحن اشقائها الستة ـ دون أن نعترف لها بحبنا مرة واحدة،ولا أعرف لماذا تذكرت "ليلى"وأنا اقرأ قصيدة "تستحق الموت":
كانت طيبة /…/ كانت تعانى وصُدمت كثيراً/انه اختيارها،وإن كان صعبا /كانت ذات علاقات طويلة الأمد فى المحبة / لاتعرف كيف تحافظ على صداقاتها/كانت دودة تزحف للتشرنق/ تستحق الموت فقد أخذت صفحة كاملة فى هذا الكتاب".
والموت حالة متصلة فى القصائد،حالة حاصرت ميسون طوال فترة الكتابة ،فجاءت اللغة سردية تبدو كاعترافات لا يبوح بها سوى من أنضجته الأيام وامتلك تلك القدرة العظيمة ليعلن للجميع انه ضعيف .. مسكين .. وحيد .. تائهه .. وضعته يد الله فى التجربة دون سؤال أو اخذ برأى ،وفى التجربة كان هناك بشر عابرون وقريبون وملتصقون أحياناً ،وعلى الحوائط بقايا انفاسهم ورائحة من ذكرياتهم :
قصرى ..
هذا المكان كبير /لكن نفسى أكبر منه /إنه ضخم ،/لكن الذاكرة فيه أعمق/،إنه قديم،/لكن جدرانه تتجدد مع الضحك والسعادة/انه يحمل الذكريات،/لكنه رأف بها،كما كان ءوفاً بأجساد خرجت منه/ملفوفة بالأبيض/هذه الغرفة غُسلت فيها أمى /وجلست فيها "ناريمان" تهيئة لأن تكون ملكة /هذه الغرفة ضمت مرض أبى/ وزار الملك فاروق زوجته فيها /الملك الذى ترك وطنه مبعداً/وأبى ،الحاكم الذى ترك وطنه مبعداً ايضاً /وهذه استوعبت حزنى بعد موت أخى …" .
وقصر "ميسون صقر" الذى تتحدث عنه هنا بمصر الجديدة قريباً من رائحة قصر البارون إمبان ،ووالد "ميسون" كان حاكماً ـ حكت عنه فى روايتها (ريحانه) ـ وناصرياً قومياً كان ،وميسون كبرت هنا ،بكت ،وتألمت ،وضحكت ،وخبأت أسراراً صغيرة فى ضفائرها ، وحملت كشاكيل وأقلام وخبأت وردة حمراء بين الكتب ذاهبة لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية فى الجامعة، وتعلمت الرسم والشعر وأصدرت دواوين وأقامت معارض واحتفلت باعياد ميلادها ،وخطف الموت أحبتها .. وداهمتها نوبات اكتئاب وحزن وافتقاد فجاء وقت كتابة هذا الديوان وتلك القصيدة المؤلمة "إخفاء الجثة
": يا أخت حُرقتى/لاتنتظرى النسور التى ستنهش لحمى / إنها نسور شرسة وجائعة / ستخفى جثتى فى لمحة عين / دون الحاجة إلى مغسلة الموتى ،/والكفن الأبيض ،/ والمقبرة …/ أو إلى البحث عن طائرة تحملنى وحيدة الى الوطن /عودى الى العائلة راضية مرضية / ادخلى الكنف الدى ترتضينه / اتركينى ميتة وافتحى الشباك ،/اتركيه مفتوحا وادهبى / ستخرج الرائحة / وستدخل النسور ناهشة ابنة الصقر ".
ليس هناك أرملة قاطع طريق فى الديوان ،لكن هناك شاعرة لا تعرف كيف تصبح شريرة ،لكنها أحبت أن ترى نفسها (أرملة) لقاطع طريق ربما تعرف طعم الشرولو مرة واحدة ،ومع ذلك فالأمر لا يهم احد !:
"لست شاعرة كبيرة /من يهمه الأمر؟/ لا يهمنى أنا أيضاً /….العالم كف صغيرة فى يد الله،/والله وحده القادرعلى بسط يده إلى عباده المهتمين بقيمة الشعر /فى عالم لا يهتم بقيمة واحدة .."،وليتها وقفت هنا ولم تكتب أربعة أبيات أخرى فى تلك القصيدة ،حتى تظل حلاوة القصائد كما هى ،فهذا واحد من اهم أعمال "ميسون صقر" واستمتعت به متعة لم تتحقق كثيراً من قبل ، وحتى اكون أميناً معكم فكل ما كتبته هنا كان عن ثلاث أو أربع قصائد فقط ،وتحتاج باقى القصائد ـ التى تزيد عن الخمسين ـ صفحات مطولة .
أشرف عبد الشافي's Blog
- أشرف عبد الشافي's profile
- 21 followers

