بومباي وهيركولانيوم . . . شقيقتان لقرى لوط في الممارسات، وشقيقتان في العذاب!
بومبي Pompeii وهيركولانيوم Herculaneum هما مدينتان رومانيتان كان يعيش فيهما أكثر من خمسة وعشرين ألف نسمةتقعان على سفح جبل بركان فيزوف Vesuvius الذي يرتفع 1200 مترا عن سطح البحر، بالقرب من خليج نابولي في إيطاليا، ويصف المتحف البريطاني المدينتين بأنّ سكانهما تمتعا بجميع وسائل الراحة في المدن، من الحمّامات والمسارح إلى المعابد والأسواق، ويعيشون في منازل فخمة، مع ما لا يقل عن 150 بارا وحانة، وتوفر الموارد الغذائية من مياه عذبة وفواكه من كلّ الأصناف، الأمر مماثل لما عاشه سكان قرى لوط من وفرة في المياه والفواكه والحيوانات.
انتشرت عبادة الأوثان في القريتين وعبد سكانهما العديد من الآلهة، وخاصة الآلهة اليونانية مثل زيوس (إله الرعد) وهيرا (إلهة الزواج) وأثينا (إلهة الحكمة) وأبولو (إله الشمس) وباخوس (إله الخمر)، كما انتشرت الدعارة بشكل كبير وعثر في بومبي وحدها على خمسة وعشرين بيت دعارة Brothels وفيها أسرّة من الصخر، بينما الجدران مزينة برسومات فنية لمختلف الأوضاع الجنسية، وتنتشر مجسمات فخارية للأعضاء التناسلية في كلّ مكان في شوارع المدينتين وأسواقها وحمّاماتها ومنازلها وحتى أواني الأكل، ممّا يشير لانتشار الإنحلال الأخلاقي بشكل كبير هناك، إضافة لهذا فقد انتشر الجنس مع الحيوانات هناك وعثر على تماثيل حجرية تصف تلك الممارسات المقززة!
كان ثوران بركان فيزوف في يوميّ 24 و25 أوت سنة 79 ميلادي على المدينتين الآثمتين أمرا غير مسبوق في تاريخ البشرية، لقد كان أقوى بمقدار 100.000 مرة من كلتا القنبلتين الذريتين اللتين أسقطتا على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، وأطلق سحابة من الدخان البركاني السامّ والحجارة والرماد إلى ارتفاع 33 كيلومترا في السماء، مع وابل من الحجارة يتهاطل على القريتين بمعدّل 1.5 مليون طنّ في الثانية!
وقد بدأ الحدث صبيحة اليوم الأوّل بسحابة من الدخان والحجارة والرماد نزل على المدينتين فحوّل نهارها إلى ظلام دامس، أحاط الدخان بأكثر سكانها وخنقهم فسقطوا صرعى، وفي صباح اليوم الثاني تدهور الوضع أكثر فبدأت تيارات من الهواء البركاني الساخن بالتدفق إلى المدينتين فأحرقت من بقي منهم حتى من احتمى بالمنازل المحصنة، وتسبّبت الزلازل التي صاحبت الانفجار البركاني في حدوث تسونامي في خليج نابولي أغرق كلّ من حاول الفرار عبر القوارب، ومنع سكان المدن المجاورة من التفكير في التدخل لإنقاذ سكان القريتين . . . وهكذا دام مشهد العذاب يومين لا أكثر، وغطى أكثر من 517 كيلومترا مربّعا!
وتخبرنا ورقة علمية من مجلّة 𝑃𝑙𝑜𝑠 𝑂𝑛𝑒 أنّ تيارا من الدخان البركاني الساخن جدا Pyroclastic flow حرارته ما بين 400 إلى 900 درجة مئوية وسرعته 180 ميلا في الساعة نزل على بعض سكان القريتين الذين اختبأوا في منازلهم فغلى دماءهم وانفجرت رؤس بعضهم، ومايؤكد ذلك هو العثور على كميات كبيرة من الحديد في بقايا 300 جثة تمّت دراستها بتقنية Raman microspectroscopy، وهذا الحديد كان نتيجة لتفكك بروتين الهيموجلوبين في بعد غليان الدم وتبخره، وقد عثر على بقايا جماجم مثقوبة نتيجة لانفجارها من فرط ضغط سوائل الجسم بعد غليانها، بينما بعض السكان تحوّلت أدمغتهم إلى زجاج أسود بسبب التعرض لدرجة الحرارة العالية جدا، أما البعض الآخر فتبخروا على الفور عند تعرضهم لتلك الريح الساخنة(١).
تشير أوضاع الضحايا إلى أنهم ماتوا على الفور، بعضهم كان نائما وبعضهم جالسا مع أبناءه أو عبيده إلخ، ولم يعثر على جثة واحدة في وضعية الهروب أو الإحتماء مثلا Self-protective reaction حيث نزل عليهم الهواء البركاني الحارّ في أقلّ من ثانية، وتوقّفت أعضاءهم الحيوية في وقت أقصر من أن يقوموا بردة فعل واعية (٢)، وتخبرنا دراسة أخرى بأنّ هذا التيار الحراري الذي أحاط بسكان القريتين لم يكن عاديا حيث أنّ التعرض له من مسافة عشرة كيلومترات كافٍ للتسبّب بالوفاة حتى لو كان الشخص مختبئا في مبنى! (٣).
وقد كان الشاهد الوحيد على هذه الكارثة العظيمة شاعر روماني اسمه بلينيوس الأصغر Pliny the Younger، كان بلينيوس يسكن في الجانب المقابل من خليج نابولي على بعد حوالي 19 ميلا من البركان، وشاهد سحابة الغبار التي حجبت الشمس تماما وأحالت صباح المنطقة ظلاما، وصف بلينيوس المشهد بأنّ “ضوء النهار عمّ جميع أرجاء العالم ذلك الصباح، ولكن هناك في بومبي انتشر ظلام أحلكُ من أكثر الليالي ظلاما It was now day everywhere else, but there a deeper darkness prevailed than in the most obscure night”.
ويحكي لنا الشاهد كذلك أنّ عمّه بلينيوس الكبير ركب سفينة وحاول إنجاد سكان بومبي لكنه غرق، وقذفته الأمواج صبيحة اليوم الثالث إلى سواحل نابولي تفوح منه رائحة الكبريت، مجاريه التنفسية ملتهبة من الدخان، وهيئته كالنائم عليه كلّ ملابسه بدون أثر لحروق أو مايشبه ذلك من الأضرار الجسدية الخارجية!
دفنت المدينتان تحت عشرين مترا من الرماد والطين أحاط بالجثث وحفظ تفاصيلها وتفاصيل القريتين حتى أنّ جدرانهما مازالت قائمة بعد إزالة أطنان الرماد في القرن الثامن عشر، تعمّ أجواءهما رائحة الكبريت كما أخبر عدد كبير من السوّاح الذين زاروا القريتين، ملعونتان لا يسكنهما أحد تماما مثل قرى لوط كسدوم وعمورة، وإنه والله لحدث عجيب كيف لبركان أقوى بمئات آلاف الأضعاف من القنابل النووية أن يدمّر مدينتين كاملتين وفي نفس الوقت يحافظ عليهما لألفيّ سنة حتى يعثر عليها المتأخرون عبرة لمن يعتبر . . . كأنّ الزمن تجمّد في المدينتين؟ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الأنعام/١١ . . . من المضحك أنّ 24 أوت كان عيدا لإله النار في بومبي، فهل أنجاهم ماكانوا يعبدون من دون الله؟ (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) الأعراف/٣٧
(١) ❝The new study hinges on analysis of more than 100 skeletal remains from about 300 eruption victims who tried to dodge the worst of the volcano by hiding in boathouses by the waterfront of Herculaneum, 11 miles from Pompeii. These people, unfortunately, found themselves overwhelmed by a massive wave of pyroclastic surge, which radiated temperatures between 400 and 900 degrees Fahrenheit and swept through the scene at nearly 180 miles per hour❞.
(٢) ❝These individuals, who did not suffer mechanical impact, do not display any evidence of voluntary self-protective reaction or agony contortions, indicating that the activity of their vital organs must have stopped within a shorter time than the conscious reaction time❞.
(٣) ❝Our results show that exposure to at least 250°C hot surges at a distance of 10 kilometres from the vent was sufficient to cause instant death, even if people were sheltered within buildings❞.