أغانٍ داعشية

كانت السماء صافية والجو عليلا، والعصافير تزقزق.. تماما كما علمونا في دروس الإنشاء في حصص اللغة العربية. بدأ مزاجي يتعدل ويروق تبعا للجو العام، فقلت لنفسي، لماذا لا أدير الراديو لأكمل جمال هذا الصباح الرائق بموسيقى عذبة أو أغنية جميلة. فأدرته وليتني لم أفعل. فجأة خرج لي رشاش من الكلمات مستندة إلى لحن راقص:
اجرحني وغمق لي الجرح
رشرش ع جرحي ملح
والله لو تدبح قلبي دبح
عمري ما احس اني بأذية
لا تفزعوا. هذه ليست دعاوى داعشية، ولا تهديدات إرهابية. هذه كلمات أغنية تصدح بها مطربة واعدة على قنواتنا التلفزيونية والإذاعية. أصدقكم القول أني حين سمعت الكلمات، شككت في نفسي واعتقدت أني بدأت أهذي، ظنا مني أن داعش بالإضافة لمجلتها التي تصدرها باللغتين العربية والانكليزية، افتتحت قناة إذاعية وبقدرة قادر وصل بثها إلينا. لكني عدت ولمت نفسي لسذاجتي، فالغناء والموسيقى حرام في عرف داعش، وفاعلها يستحق القتل والنحر، وربما الحرق في تفاسيرهم، اذن الأغنية ليست داعشية، بل أغنية محترمة لفنانة محترمة من نوعية «احترام هاليومين».
ماذا حدث لـ «أهواك وأتمنى لو أنساك»؟ ولماذا نسينا «جفنه علم الغزل»؟
متى أصبح مقبولا أن نتغنى بالذبح، ومتى صرنا نتقبل خلط الدم بآه يا ليل آه يا عين؟ لماذا أصبح الاستماع لإذاعاتنا العربية مسلسل رعب آخر من المسلسلات التي نعيشها حقيقة وبكل مآسيها يوميا.
يبدو أن الحالة الابداعية العربية في وضع مزرٍ لا تحسد عليه، وأنا هنا لا أقارن طرب هذه الأيام بطرب العمالقة كأم كلثوم والرحبانية وعبدالوهاب وسيد مكاوي، ولا أحكي عن الكلمات الهابطة والمعاني المنحطة في أغاني غسل الملابس والفواكه والخضروات، ولا عن أغاني النطنطة التي تعتمد على تضاريس وتعاريج أجساد المطربات، (وكل ما سبق ساهم بشكل حثيث في انحدار وتدهور الأغنية العربية)، لكن ما أريد أن أشير إليه هو دخول العنف والدم الذي غشي كل حياتنا حتى وصل إلى أغانينا:
بالروح بالدم رح تبقى يا غالي
بالروح بالدم شو صار بحالي
مجنونة عني قالوا
كل واحد حر بحالو
يفنى الكون من رجالو.. ما في غيرك رجالي.
ما الذي حدث للأغاني العربية؟ وأي انحدار وصلنا لنغني بهذه القسوة وهذه المازوخية الملحنة؟ من يكتب هذه الكلمات ومن أي معين يأتون بهذه المعاني؟ المدام في الأغنية السابقة تهتف لحبيبها، وكأنها تقف في واحدة من «ثورات الربيع العربي» ضد حاكم دكتاتوري، وليست حبيبة تتغنى بحبيبها، وهي مستعدة أن تبيد العالم أجمع كرمى لعيون «رجالها».
رصد تقرير سابق لمؤسسة الفكر العربي «الظاهرة المفجعة» لحال السينما والمسرح والأغنية في العالم العربي، شارحا أن «الانحطاط في كلمات الكثير من الأغاني العربية يجد له رواجا يصعب تفسيره لدى الجمهور المستمع».
يصعب تفسيره؟ فسروا لنا يا رعاكم الله الذبح والتفجير والقتل الذي يرتكب على أراضينا يوميا، فسروا لنا ماذا حصل لثوراتنا بعد أن أكلت أولادها، فسروا لنا نبتة داعش المسمومة وكيف انتشرت وكيف أصبحت دولة لها ميزانية وتفرض قوانينها على أبرياء. فسروا لنا الدم المسفوك على أرصفة الشوارع العربية.. فسروا لنا حال الانحطاط العربي ونحن سنفسر لكم اسباب انحطاط الفن العربي.


دلع المفتي
نشر في 12/02/2015
http://www.alqabas.com.kw/Articles.as...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 11, 2015 14:38
No comments have been added yet.


لكلٍ هويته

دلع المفتي
مجموعة من المقالات التحقيقات واللقاءات التي نشرت لي في القبس الكويتية.
Follow دلع المفتي's blog with rss.